في أي حكومة وأي عصر، يعد منصب الوزير منصباً سياسياً، حتي لو كان ميدان عمل الوزارة فنياً بحتاً أو مختصاً بمجال بعيد عن السياسة، وتتضاعف الصفة السياسية للوزير في مثل حالة بلادنا اليوم، لأن كل شيء مغموس في السياسة، فالأوضاع الفاسدة والمختلة قبل ثورة 52 يناير كانت نتيجة فساد أو خلل سياسي، ومطالب المرحلة الثورية تقتضي من الوزير وعياً سياسياً ليوجه علي ضوئه دفة العمل في الوزارة نحو تحقيقها. ولو طبقناً ذلك علي وزارة الثقافة قبل الثورة فسوف نجد أن الوزير فاروق حسني كان ينفذ سياسة الحزب الوطني بامتياز، وإن لم يرتبط بالعمل السياسي بشكل مباشر، فهو يمثل مصالح أسرة مبارك وطبقة رجال الأعمال والمستثمرين والمنتفعين من بقاء الأوضاع، ويرضي أذواقهم من خلال أنشطة الوزارة، التي تهتم بالمظاهر أكثر من المضمون، وبالمهرجانات والمناسبات أكثر من الإنتاج والتنمية المؤسسية القائمة علي الاستمرار، وبنجوم المجتمع دون الجماهير، وبالعاصمة دون الأقاليم، وفوق كل هذا كانت عينه دائماً علي دوائر الغرب لا علي طبقات الشعب، وفي علاقته بالمثقفين استخدم أسلوب الاحتواء بالإغراءات المختلفة التي نجحت نسبياً في تدجينهم داخل ما أطلق عليه هو بنفسه »حظيرة الوزارة«، فأمن شر هجومهم علي النظام وعليه شخصياً- أْعني من تم احتواؤهم- خاصة أنهم يمثلون مختلف الاتجاهات الليبرالية والناصرية والاشتراكية ممن يحظون بالاحترام في الساحة، وفتح لهم الضوء الأخضر لمهاجمة خصوم النظام الرئيسيين من التيارات الدينية المنشودة، فأصابوا بذلك عصفورين بحجر واحد: حيث أرضوا النظام وأرضوا دعاة التنوير معاً، بل إنه سمح لهم بانتقاد الأوضاع العامة وحتي بالاختلاف مع النظام في كتاباتهم وملتقياتهم، ما عمل علي تحسين صورتهم وأضفي عليهم صفة الشجاعة الثورية، لكن بشرط ألا يتعدوا الخطوط الحمراء مثل انتقاد الرئيس أو لجنة السياسات أو معارضة التوريث، بل ذهب إلي الاستعانة ببعضهم كأعضاء في مجالس »ديكورية« ترعاها السيدة الأولي ليكونوا من أذرعها الرئيسية، ورتب لمجموعة منتقاة منهم لقاء خاصاً مع الرئيس نفسه في قصر الرئاسة ليصبح فجأة راعي الثقافة والمثقفين، وفي نهاية اللقاء حصلوا علي العطايا الرئاسية باسم المراكز التي يشرفون عليها وأغدقوا في المديح لسيادته.. لكل هذا استحق فاروق حسني أن يستمر في الوزارة 42 عاماً متصلة، وبديهي أن ذلك لم يكن حباً لشخصه فحسب، بل لأنه قام بدوره السياسي لصالح النظام بامتياز. وعندما تم اختيار د. جابر عصفور وزيراً للثقافة في حكومة أحمد شفيق التي ينتمي أغلب وزرائها للحزب الوطني ولجنة السياسات، لم يكن ذلك صدفة، بل كان رسالة سياسية إلي الجميع بأن المثقفين جزء من النظام القديم حتي وهو يحتضر، وخان الذكاء مفكرنا الكبير جابر عصفور فبلع الطعم علي الفور، لكنه- بحسه السياسي- أدرك بعد أيام قليلة أنه خسر الماضي والمستقبل، فسارع بالقفز من السفينة قبل غرقها الوشيك، خاصة بعد أن لاحقته أصابع الاتهام واللوم من رفاق مسيرة التنوير، غير أن استقالته وتصريحاته في أجهزة الإعلام لم تبرئه إلا قليلاً، لكونه ارتبط بفاروق حسني وبالنظام السابق طويلاً جداً، وكان المسئول الأول عن استيعاب المثقفين بداخله. ثم جاء د. عصام شرف رئيساً للوزارة بقوة مليونية ميدان التحرير، واختار د. عماد أبوغازي وزيراً للثقافة، ومع علمنا بأنه كان المساعد الأول لجابر عصفور في المجلس الأعلي للثقافة لفترة طويلة، وبأن فاروق حسني اختاره أميناً عاماً للمجلس ليحل محل عصفور بعد أن استنفد سنوات التمديد لمنصبه إثر بلوغه سن الإحالة للمعاش، فلم تتعال الأصوات ضده متهمة إياه بأنه أحد رجال النظام البائد، وذلك لأسباب تعود إلي شخصيته، حيث لا يختلف الجميع علي نزاهته وأمانته وتواضعه وتعففه عن الانتفاع بالسلطة، فوق ماضيه السياسي في الدفاع عن الشعب وحقه في الحرية والعدالة الاجتماعية، من خلال مشاركته في لجان ومنظمات ثورية، حتي دفع ثمناً لذلك شهوراً من حريته داخل السجن، وكنت شخصياً من الآملين في قيامه بدور إيجابي لتصحيح مسار الوزارة التي يعرف أكثر من غيره كواليسها وأسرارها، وكم الفساد المعشش بداخلها، لكن الشهور مضت دون تغيير يذكر، فلا نكاد نراه إلا في افتتاح معرض لفنان تشكيلي أو مشاركاً في ندوة بأتيلييه القاهرة أو حفل تقيمه هيئة قصور الثقافة أو في زيارة لأحد المواقع بالأقاليم، لا يرفض أي دعوة توجه إليه ولو كانت بغير أهمية، ولا يبخل بالتصريحات الصحفية عن آماله في تحقيق نقلة نوعية بإعطاء الأولوية للعمل الثقافي وسط الجماهير المحرومة بما يحقق العدالة في توزيع الخدمات الثقافية. لكن الأيام والشهور تمضي ولا نري شيئاً تحقق علي أرض الواقع، وقلنا لا بأس.. فمن حق الرجل أن ينال وقتاً كافياً لدراسة الأوضاع داخل أجهزة الوزارة قبل أن يعلن برنامجه، ويبدأ تنفيذه، لكن الحراك السياسي والمطلبي داخل تلك الأجهزة- شأنها شأن كافة المواقع والمؤسسات- لم تستطع الصبر طويلا، فمظاهر الفساد تعلن عن نفسها دون احتياج لمزيد من الدراسة، والوزير لا يحاول اتخاذ موقف تجاهها، ومنها رؤساء هيئات وقطاعات من الثابت ارتباطهم بالنظام السابق ولجنة السياسات بالحزب الوطني، وخرجت مظاهرات واحتجاجات للعاملين بها أمام مقار.