كثيرا ما يعمد الكتاب في إهداءاتهم إلي كتابة الجملة الشهيرة "بكل متعة" أو "أتمني أن تستمتع بقراءة كتابي". لا أعتقد أن الروائي أحمد مجدي همام سيكون مضطرا لكتابة هذه الجملة، أو علي الأقل سيعلم وهو يكتبها أن ما يتمناه لقارئه هو حاصل لا ريب. اختار أحمد مجدي همام في روايته الموسومة "أوجاع ابن آوي" نهجا سرديا بقدر ما يبدو بسيطا في فكرته، بقدر ما هو معقد في تطبيقاته، خاصة أن تقنية "تعدد الرواة" تحتاج فيما تحتاجه إلي تركيز رهيب يمتد من بداية الكتابة إلي نهايتها، كما يعتمد نجاح التقنية علي قدرة الكاتب اللغوية وتمكنه من شخصيات روايته: بيئة، فكرا ولغة. هنا يمكن الإشارة إلي ذكاء الكاتب حين اختار "ترشيد" نصه بحيث تحاشي الإكثار من الحوارات، معتمدا علي السرد الذي يجعل القارئ مضطرا أن يصدق أن من يتحدث هو الشخص الذي أشار إليه العنوان، ومع ذلك تمكن الروائي من الفصل بين مختلف "رواته" من خلال ضبط قواميسهم اللغوية بشكل يوحي باحترافية العمل. تميز هذا العمل بشكل جلي، بوضوح "الهدف" لدي كاتبه، يظهر ذلك أولا من خلال العنوان "أوجاع ابن آوي... من سيرة النقص والشغف"، فالكاتب لم يبذل جهدا، أو علي الأقل هذا ما أوحي لنا به، في تبرير عنوانه واختياره، فلن يمضي القارئ ساعة واحدة في قراءة العمل حتي يدرك من هو بن آوي " كنت أعلم أنه هائج ، مكبوت و موشك علي الانفجار ، كان يبدو بوجنتيه البارزتين وخديه المسحوبين للداخل وذلك الأنف السنجابي الموروث عن أمه كحيوان جائع ، حيوان بري صغير ونحيف يختبئ في الجحر ، ربما هو أقرب لابن آوي"، ثم يعمد الكاتب إلي وضع فصول تفرغ العنوان الثانوي: "سيرة"، "النقص"، "الشغف« ويظهر وضوح الهدف لدي الكاتب أيضا من خلال خطته السردية التي انتهت عند اكتشاف مفاجئ ومثير، تضطر القارئ إلي الوقوف لحظة وتأمل الرواية من جديد، بحيث سيطرح سؤالا بقدر ما يبدو ساذجا بقدر ما هو أكثر الأسئلة نضجا علي الإطلاق: "في النهاية، من هو صاحب العاهة؟". هذا لأن رواية " أوجاع ابن آوي" ليست أكثر من سيرة صريحة ل"التشوه" بوجهيه الظاهر والخفي. لنعد إلي الرواية من حيث إنها قصة يمكن تلخيصها: تقرر عفاف انتظار وصول ابنة خالتها في "سيبر كافي"، فتقع بالصدفة علي رسالة بعنوان ظريف "ماذا تسبب زيارة غير مرغوب فيها". تقرؤها فتجد أنها مدخل لقصة تبدو ممتعة. تحيلها الرسالة التي وقعت باسم "الشامي" إلي مدونة تزعم أن بها القصة الكاملة، وهكذا تجد عفاف نفسها مدمنة علي مدونة "العاهة" التي تسرد قصة غريبة لصديقين: المدون وعلاء المصاب بعاهة.. هكذا تتداخل القصتان: قصة عفاف وقصة المدونة بشكل سحري غير متوقع ولكنه قابل للحدوث. الجميل في هذه الرواية، أن أحداثها بدأت ب"الصدفة" وانتهت كذلك ب"الصدفة"، ولكن الأجمل هو أن كل ما هو متوقع حدوثه لم يحدث أبدا، وكأن الكاتب كسر قاعدة "السببية" بشكل يجعلنا نعتقد أنه "عبثي" أو أن النص "عبثي" علي الأقل، ولكننا لو حاولنا ولو مجازا مقارنة هذا بالواقع فعلا، لأدركنا أن الكاتب لم يفعل إلا أن يكون صادقا في كتابته، بحيث لم يبذل أدني جهد في تنميق وتزيين أحداثه، وهو ما يظهر أيضا من خلال لغته السردية وإن اختلفت مستوياتها من راوِ إلي آخر.. إنه يقول الواقع كما هو، لا كما يرغب أن يكون. ولكن هل "عبثية النص" كما يتصورها القارئ أو "صدق الكاتب" كما انتهينا إليه فرضت نفسها علي الورق، بحيث تسلط النص علي الروائي؟.. في العموم يصعب الحكم، ولكن الظاهر أن "الكاتب" كان "ديكتاتورا" في نصه بحيث لم يسمح لشخوصه بالخروج عن إطار ما خلقت لأجله. يشعر القارئ بذلك كلما توغل في النص، فالرواية علي اختلاف رواتها وشخوصها وبيئتهم، عكست ميولات الكاتب "التحررية" وآراءه الحياتية والفكرية، فارتداء عفاف للحجاب لم يكن عن قناعة، وانضواء أبيها تحت راية الحركة الإسلامية لم يكن إلا ردة فعل، واهتمام أميمة شقيقة عفاف بأمر المدونة لم يكن بريئا، حتي أن الروائي لم يثق بقارئه كفاية في أن يكتشف حالة التشابه بين عائلتي علاء وعفاف، بحيث تحدث بلسان "عفاف" عن حالة تماه تحدث بين القصتين. يشعر القارئ بنظام غير مرئي فرضه الروائي من أول وهلة، كما يشعر أن كسره لقاعدة السببية لم يكن إلا لإيهامه بالمزيد من الحرية، حرية مغالطة لن تجعل القارئ مهما بلغ من حنكة ليعرف نهاية الرواية كما أرادها أحمد مجدي همام، وهذا يحسب للروائي أيضا، ومع ذلك فلابد من إبداء ملاحظتين في هذه النهاية المثيرة للجدل: الأولي تتعلق بتسريعه للأحداث، والثانية بما يمكن وصفه باللامتوقع فيها. أعترف أن أحمد مجدي همام احترم في نهاية الرواية نظام "تفريغ العنوان" الذي اتبعه منذ بداية العمل، فالفصل المعنون "." كان بالفعل نقطة النهاية، ولكنه في اعتقادي احتراما لنظامه هذا هدر الكثير من إمكانيات النص التي كان من الممكن أن تسبر أو تسيَّر وفقها النهاية. لاحظ مثلا أنه لم يقدم أي تبرير، نقبله أو لا نقبله، لكيفية حصول العلاقة بين أميمة وعلاء، وكأنه يحاول بعد أن حجر علي القارئ أن يستفزه ليشاركه في ملء الفراغات. فعل نفس الشيء مع عفاف وزواجها وإنجابها وتخليها عن رغبة ملاحقة "المدونة" وكشف أسرارها. بالطبع يمكن تفهم تسريعه للأحداث برغبة الكاتب في مفاجئة القارئ والانتهاء به إلي حدود الدهشة، ولكن ألم يكن من الممكن مثلا، لو بذر "تبريرات النهاية" في نصه بشكل غير مرئي ليرفع اللوم عنه؟!.. أجد مبررا واحدا لحركة التسريع هذه، وهو رغبة الكاتب في الإبقاء علي نبرة الصدق التي ميزت نصه من بدايته، هو الصدق ذاته الذي جعله يكتب مثلما يفكر، ويري أن ثمة أحداث يمكن تجاوزها تخفيفا عن القارئ. يظهر أيضا أن الروائي لم يختر النهاية الأكثر تكشفا، أو تلك التي توصف عادة ب"المثالية"، وكأنه في ذلك يضع لنفسه تحديا من الملائم الوقوف عنده، وهو في جرأته هذه يشبه تحدي المقامر المحترف، لا يدري إن كان سيربح بالفعل، كل ما هو متأكد منه، أنه فعل ما يستطيع ليربح، ما يجعل القارئ يصرح دون حرج حين ينتهي من قراءة الرواية "هنيئا لأحمد مجدي همام بهذا العمل، وهنيئا لنا بهذا الروائي المتميز".