مكتبة الإسكندرىة في الثلاثاء الثامن من فبراير، تقدمت مظاهرات كبيرة في الإسكندرية مطالبة بتنحي مبارك. المظاهرات كالعادة انطلقت من ميدان القائد إبراهيم باتجاه المنطقة الشمالية. عند مكتبة الإسكندرية توقفت المظاهرة لدقائق. هناك كان يقف بعض العاملين بالمكتبة يحملون الأعلام المصرية ومن خلفهم إسماعيل سراج الدين، الذي كان يبتسم للمتظاهرين ويرفع بيديه علامة النصر، ولكن المتظاهرين لم ينخدعوا، وإنما هتفوا منددين بالفساد وهم يشيرون نحو سراج الدين نفسه. ارتبك سراج الدين قليلاً ولكنه لم يتوقف عن الابتسام والتلويح بعلامة النصر حتي انصرف المتظاهرون. المشهد السابق، الذي حدث في الثلاثاء الأخير قبل خلع مبارك، يصلح لوصف مشهد المكتبة اليوم. بعد الثورة، حاولت المكتبة بشتي الطرق استمالة الفنانين والمثقفين السكندريين، والتأكيد لهم أنها مع الشباب دوماً، عرضت علي كثير من المؤسسات الثقافية الحضور لعرض مقترحاتهم. استجاب البعض، ولم يستجب البعض الآخر، ولكن في الحالتين لم يتغير شيء. ظل ما تقدمه المكتبة أقل كثيرا مما وعدت به. ما الذي دفع إدارة المكتبة لهذا السلوك؟ ما الذي دفعها لمحاولة التأكيد الذي لا يعني شيئاً علي أنها جزء من حالة الثورة التي عمت في مصر؟ في الواقع، فلقد بدا وكان المكتبة تدفع عن نفسها تهماً وانتقادات كثيرة طالما ما تم توجيهها لها. طول الوقت، كان المثقفون السكندريون وبالطبع القطاع الأوسع من المثقفين المصريين يشعرون وكان المكتبة لا تنتمي لهم، كأنها منفصلة عنهم، مشغولة بفضائها الكوني الواسع ولا تنظر للشوارع التي تقع فيها. وقائع الفساد المالي والإداري للمكتبة كثيرة، تتطوع الصحف بنشر شبهات حول وقائع بعينها تتعلق بتمويل المكتبة وتلتزم المكتبة إزاءها الصمت التام، ولكن ما يهمنا أكثر هنا هو الفساد الثقافي. والإجابة علي سؤال مهم: لماذا يشعر المثقفون والأدباء المصريون بكل هذا الاغتراب عن المكان الذي كان يفترض أن يكون بوابة العالم عليهم؟
واحد من العاملين بالمكتبة هو المسرحي أحمد شوقي. يبدو ناقماً علي أسلوب إدارتها، من الناحية الثقافية بالأساس ولكن من الناحية الإدارية والمالية كذلك. يرد علي سؤالنا السابق: "يبدو ظاهرياً أن المكتبة هي نافذة مصر علي العالم ونافذة العالم علي مصر، ولكن في الحقيقة فلقد كانت المكتبة ونافذة العالم علي النظام السابق ونافذة النظام السابق علي العالم. سياسة المكتبة طوال الوقت كانت تجري وراء سوزان مبارك. الاهتمام البالغ بتصويرها وهي تزور المكتبة 12 مرة سنويا، وهي تتحرك في ردهاتها وطاقم فريق العمل وراءها، كل هذا كان يوصل رسالة بصرية محددة. باِلإضافة إلي أن أهم مشاريع المكتبة كان تبني حركة سوزان مبارك لتحرير المرأة وجمعية المستقبل التي كانت تضفي الشرعية علي التوريث، وتبني منتدي الإصلاح العربي القائم علي تمرير المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة (يضيف ساخراً) لو كان لهذا المنتدي فائدة لكنا قد رأينا الإصلاح يخرج من المكتبة بدلا من أن يخرج بالدم من ميدان التحرير«. نقطة أخري يشير إليها شوقي: "هذا المكان بتعاليه علي الثقافة المصرية والعربية وإعلائه لكلما هو أجنبي وتقديمه باعتباره الأفضل والأرقي، خلق حالة من العداء بينه وبين المثقفين في الإسكندرية ومصر بشكل عام". ويضرب الأمثلة: يقام في المكتبة حدث مسرحي واحد علي مدار العام، وهو ملتقي الفرق المسرحية المستقلة، والذي يقدم فرقا مستقلة من جميع أنحاء العالم، ولكن بالكاد يشارك فيه عرض مصري واحد. تدعم المكتبة أوركسترا لموسيقي الحجرة ولكنها في المقابل تتعالي بشكل واضح علي الموسيقي العربية. هذا التجاهل للثقافة العربية يبدو غريبا من وجهة نظر شوقي، خاصة عندما أثبتت هذه الثقافة تحضرها وسلميتها في ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي وقف فيها الثوار بأجسادهم للدفاع عن المكتبة من أي تخريب محتمل لها: "هؤلاء الشباب الذين ازدرتهم المكتبة كانوا هم من دافعوا عنها. يضيف شوقي: "لدينا مشكلة ضخمة في المكتبة. فالغالبية الكاسحة للعاملين فيها لا يستحقون مواقعهم، ونحن نتقاضي أكبر رواتب رسمية في الدولة. أنا شاب أبلغ 35 عاما وأتقاضي 2500 جنيها. هذا لن تجده في أي مكان آخر في مصر، هذه ميزة فقط للمحظوظين، ولذا فمن الطبيعي أن يدافع هؤلاء المحظوظون عن مواقعهم باستماتة، لأنهم يعون أنهم ليسوا في أماكنهم الطبيعية". لا يتحدث شوقي إلا عن راتبه، والذي يبدو لا شيء إذا ما قورن برواتب الأعلي مرتبة منه. لمزيد من المعلومات حول هذه النقطة انظر قائمة المرتبات أسفل التحقيق . الشاعر السكندري عبد الرحيم يوسف لا يعمل في المكتبة، ولكن يفترض أنه واحد من جمهورها. يبدو مستاء كثيراً من عدم الاهتمام بنشاطات المكتبة. حكي لي عن أمسية لمحمود درويش أقيمت في العام 2003 ولم يحضرها سوي مائة شخص، وهو أقل كثيرا من الجمهور الذي يتوقع أن يحضر أمسية لدرويش، وكان من المفترض أن يغني علي الحجار قصائد للشاعر الفلسطيني الكبير ولكنه فاجأ الحضور بأنه لا يحفظ القصائد! برنامج المكتبة لا يطبع ولا يعرف عبد الرحيم فعاليات المكان إلا بفضل أصدقائه بداخل المكتبة. يتذكر مقالاً لجمال الغيطاني قال فيه إنه كان مدعوا لمؤتمر في المكتبة، وفوجئ أثناء سيره هناك بمثقف عربي بارز كان يشارك في مؤتمر آخر لم يعلم عنه الغيطاني شيئاً. وقتها تساءل الغيطاني عن السبب الذي يدفع العاملين في المكتبة لعدم الإعلان عن برامجهم. بخلاف هذا، فهناك شيء ما في إدارة المكتبة تجعل الانحياز دائما هو للمثقف النجم وليس للمثقف الحقيقي، يصعب الإمساك بهذا بشكل دقيق، ولكن الناقد عبد العزيز السباعي يحكي عن انطباعه في ندوة أقيمت لنصر حامد أبو زيد، حينها حاول السباعي الدخول ومنعه الأمن قائلاً إن الدخول بدعوات فقط. ولكنّ المثقفين المتجمهرين أمام باب المكتبة عرفوا فيما بعد أن الدخول ليس بدعوات، وأصر الأمن علي عدم إدخالهم إلا بعد تدخل إسماعيل سراج الدين شخصياً. يعتقد السباعي أن الدخول للمكتبة يتم بشكل انتقائي، من يبدو "مثقفاً وجيهاً" يدخل، ومن لا يبدو كذلك لا يدخل. ليست هناك قوانين بهذا المعني بالطبع. التعليمات شفوية وتعتمد علي تقديرات رجال الأمن. الشاعر عمر حاذق يعمل أيضا في المكتبة، بنظام العقود القابلة للتجديد، مثل أحمد شوقي، ومثله أيضاً، فلديه الكثير من الانتقادات لأسلوب العمل. انتقاداته تبدأ من العام لتنتهي بالخاص "منظومة العمل في المكتبة تأسست أيام مبارك. وكان أداؤها في مجمله مصابا بالعيوب العامة لأي مؤسسة كبري في عهده، من حيث تقديس السلطة واستدامتها وعدم المساءلة عليها، فالمديرون معظمهم علي كراسيهم منذ افتتاح المكتبة أو منذ إنشاء إداراتهم حتي الآن، والعاملون تحت سلطتهم إما محظوظون برضا المدير عنهم أو بكونه مديرا مخلصا، وإما متعوسون معذبون بعيوبه أيا ما كانت. بالطبع هناك موظفون يتقاضون مرتبات هائلة أو متوسطة ولا يكادون يقدمون شيئا". بعد الثورة تشجع العاملون بالمكتبة وبدأوا يطالبون بتغيير أوضاعهم، وتشجع المثقفون لرفع الاحتجاجات إلي مستويات جديدة. حاذق كانت مشكلته هي ملفات الفساد التي فتحتها الصحف وظلت المكتبة صامتة إزاءها صمت القبور بتعبيره فما كان منه إلا أن أرسل لإسماعيل سراج الدين رسالة علي بريده الإلكتروني يستسفر منه عن سبب الصمت علي وقائع الفساد المنشورة. كما نقل له شكاوي صغار العاملين من تسلط المديرين عليهم، حتي أن الزملاء في إدارة الأمن كما يقول - بلغ بهم الأمر أن اجتمعوا في إحدي القاعات مطالبين سراج الدين بتغيير قياداتهم. لم يتم الرد علي رسالته، ولكنه فوجئ بعد أن شارك في عدد من المظاهرات المناهضة لإدارة المكتبة بمحاولة لتشويه سمعته وصورته علي الفيسبوك، مثلا: عدد كبير من الحسابات الوهمية في الموقع تتهمه بأنه يعض اليد التي امتدت له وتدعي أن المكتبة هي صاحبة الفضل في كونه معروفا كشاعر الآن. وبالمناسبة، فنفس هذا الموقف حدث مع الشاعر علاء خالد، حينما بدأ يكتب في جريدة الأخبار مقالات يعترض فيها علي أسلوب العمل بالمكتبة، فما كان إلا أن تم إنشاء عدد آخر من الحسابات الوهمية، واحد من أصحاب هذه الحسابات الوهمية أعلن بلهجة تشويق: "انتظروا قريباً فضائح علاء خالد"، وانتظر المثقفون فضائح علاء خالد، ولكنهم فوجئوا أن هذه الفضائح ليست إلا صوراً لاحتفاء المكتبة بصدور العدد العاشر من مجلة أمكنة التي يحررها علاء خالد، بوصف هذه الصور دليلاً أيضا علي أن علاء "يعض اليد التي سبق أن امتدت له". المشاكل التي يتحدث عنها عمر حاذق لا تتوقف عند هذا. يقول إن "هناك مؤتمرات كاملة وندوات يُنفق عليها ببذخ ولا يحضرها إلا المتحدثون بها تقريبا، في ذات السياق الذي تم فيه شراء سيارة مرسيدس للدكتور سراج الدين بثلاثة أرباع المليون جنيه تقريبا في ظل أزمة ماليه عالمية وبأموال المكتبة التي هي مؤسسة ثقافية خدمية غير ربحية، رغم اعتراف الدكتور سراج الدين بأن الأزمة المالية تقلل موارد المكتبة من المنح والهبات الخارجية" ، وبعد هذا بدأ عمر يسمع عن أمور أكثر خطورة. كأنْ تحكم محكمة القضاء الإداري بأن إخراج الموظفين المثبّتين من الهيكل الإداري للمكتبة مع منحهم مرتباتهم دون تكليفهم بأي عمل هو إهدار للمال العام يجب أن يُسأل عنه الدكتور سراج الدين، كما بدأ الكثير من الزملاء يحدثونه باستياء شديد عن تكاليف رحلة الدكتور سراج الدين إلي فرنسا للتدريس في الكوليج دي فرنسا في يناير الماضي: "لم نكن نعلم أنه اصطحب مجموعة من كبار الموظفات معه للسفر والإقامة بفرنسا بنفقات باهظة من ميزانية المكتبة، وكان الزملاء يتساءلون: ما الذي ستقدمه هؤلاء الزميلات لتتحمل المكتبة هذه التكلفة المروّعة دون تأجير من يقوم بهذه المهام في فرنسا؟" لكن المشكلة أكبر من ذلك، فالدكتور سراج الدين -في رأي عمر- ظل يتعامل مع منصبه وفق رؤيته السابقة علي الثورة، وهذا أمر مؤسف، لكنه طبيعي لأنه لم يشارك في الثورة ولم يكن جزءا منها بحال، إلا بعد انتصارها حين حاول تبنّي شباب الثورة معلنا أن مؤتمرات المكتبة كانت من أسباب نجاح الثورة! ونسي أنه كان شديد الارتباط برموز النظام السابق ورؤيته حتي أنه صرّح بموافقته علي عمله مديرا للمكتبة تقديرا لسوزان مبارك، وهذا ما يفسر لنا إصراره علي تكريم اللواء أحمد عبدالباسط مدير أمن الإسكندرية الذي كان مديرا لأمن الدقهلية ومسئولا عن قتل المتظاهرين في مدنها (مثل المنصورة التي سقط فيها شهداء كثيرون) وهو ما زاد الفجوة بين المكتبة والمجتمع السكندري الذي قدّم شهداء كثيرين علي أيدي قيادات الشرطة. كل ذلك كما يضيف حاذق - يمنع الدكتور سراج الدين من اتخاذ إجراءات جوهرية لتغيير مسار إدارة المكتبة.