عندما اندلعت ثورة الخامس و العشرين من يناير انهالت علي المكالمات الهاتفية و الرسائل الالكترونية تهنئني بقيام الثورة. في كل تلك المكالمات و الرسائل تكررت نفس الجملة: "خسارة ان نصر لم يعش ليشهد هذا اليوم الذي حلم به منذ سنوات". أدرك نصر أبو زيد أنه ربما لن يري هذا اليوم لأن رهانه كان علي المستقبل: علي الأجيال التالية إيمانا منه بأهمية و دور الشباب لأنهم في رأيه صناع المستقبل إذ سوف يرون الأمور أفضل منا و بالتالي هم فقط القادرون علي تحريك المياه الراكدة و إحداث التغيير. لذلك سعي لتأسيس هذا الحلم أو كما كان يقول: "أبذر البذور فتنبت نبتات صغيرة إما أن تنمو و تطرح أو تقتلعها الرياح." بالفعل، هذا الشباب الرائع الذي استطاع أن يوقظ الشعب و يدفعه إلي الثورة من أجل الحرية و الكرامة لم يأت من فراغ. بل تأسس وعيه، في صمت و دون أن نشعر به، علي أفكار و أحلام و كفاح الأجيال التي سبقته فاستفاد منها و أضاف إليها الشجاعة و الجرأة و الإرادة مع التسامي و النبل. لذلك، رغم الغياب الجسدي، شعر الكثيرون بحضور الذين رحلوا قبل أن يروا تحقيق الحلم. أمام مشهد ميدان التحرير و كل ميادين مصر المطالبة بالحرية و القضاء علي الفساد تردد في أذني صوت نصر في أخر زيارة له لمصر قبل اندلاع الثورة بأقل من عام، من خلال المحاضرة التي ألقاها و اللقاءات التي أجراها: "أفتحوا الشبابيك والأبواب خلوا الناس تتنفس حرية" كما رأيته أمامي و هو يحذر علي مر سنوات عديدة: "الفساد في مصر أصبح مؤسسة يجب تفكيكها للقضاء عليها" هاجس الفساد الذي ظل يؤرقه حتي لحظاته الأخيرة و هو مريض بالمستشفي إذ تركزت لحظات الوعي لديه علي نقطتين: الفساد الذي استشري من جهة، و الظلم الواقع علي الأقباط و علي المرأة في مجتمعاتنا من جهة أخري. إيمان نصر الشديد بالحرية و الديموقراطية تجلي في مواقف عدة توالت أمام عيني مع توالي أيام الثورة. ربما كان أهمها دفاعه عن حرية خصومه الفكريين. أتذكر عندما دعا منذ عدة سنوات إلي المشاركة فيما سمي بالحوار مع المعتقلين الإسلاميين فرفض بغضب شديد قائلا: "كيف أجري حوارا مع مسجون مكبل. الحوار لا يكون إلا مع شخص حر. أما ما يجري فهو قهر و فرض رأي بالقوة". تذكرت أيضا مناداته عبر سنوات بحق الإخوان المسلمين في إنشاء حزب سياسي لهم و سخريته من كلمة "المحظورة" التي كان يستخدمها النظام السابق. لم يكن ذلك انطلاقا من إيمانه بالحرية و الديموقراطية فقط بل أيضا انطلاقا من إيمانه بأن التهميش و الإقصاء والاضطهاد يولد مزيدا من التعصب و التشدد. أما دخول هذا التيار الساحة السياسية فيؤدي إلي التفاعل و الحوار مع القوي السياسية الأخري و الانفتاح عليها و بالتالي إعمال العقل و عدم تلقي الأوامر كمسلمات و تنفيذها بصورة آلية. لكنه أكد أهمية الفصل بين لغة الدعوة و لغة السياسة لأن دخول المجال السياسي بلغة الدعوة يفسد الإثنين معا. و كم كانت فرحتي عندما سمعت أحد أقطاب حزب الوسط يقول نفس الكلام في أحد البرامج الحوارية. كما سمعت أيضا واحدا من أهم أقطاب الإخوان المسلمين يشدد علي ضرورة فصل الدعوي عن الحزبي. و أمام مشهد شباب الإخوان المسلمين يدا بيد مع الشباب الليبرالي و اليساري و الناصري، أقباطا و مسلمين، في ميدان التحرير رأيت أمامي وجه نصر أبو زيد يتهلل فرحا. توالت أيام الثورة و توالي أمام عيني شريط الذكريات. انتفضت من مكاني عند سماعي عددا من المنتمين إلي الثورة يستخدم مصطلح "تجريف العقل"، ذلك المصطلح الذي كان نصر أبو زيد أول من أطلقه واستخدمه. ربما يجهل الذين استخدموه ذلك لكن الأهم، كما كان يقول نصر، أن الأفكار تتغلغل و تنتشر بصرف النظر عن من بدأها لأن الأفكار أهم من أصحابها. تذكرت أيضا مناداته المستمرة بضرورة استقلال الأزهر و انتخاب شيخه و قوله الساخر: "مش حكومتنا الرشيدة اللي حاتقولنا إزاي نكون مسلمين". أحسست بفرحة غامرة عندما رأيت مسيرة شباب الأزهر المطالبة باستقلاله و انتخاب شيخه. أكد لي كل ذلك حضور نصر أبو زيد الطاغي و مشاركته في الثورة رغم غيابه الجسدي. كان بجانبي أمام شاشة التلفزيون يبتسم بسعادة و رضا فقلت له: "أطمئن، النبتات الصغيرة لم تقتلعها الرياح بل انظر لقد طرحت و أثمرت هذا الشباب الرائع الذي طالما حلمت به و راهنت عليه". بيد أن معركة الثورة لا زالت مستمرة لذلك أوجه تحية إعجاب و تقدير للمجموعة التي جعلت شعارها: "الشعب يريد تحرير العقول" من "العيال كبرت" إلي "لجنة التهييس الشعبية". و تحية خاصة إلي فرسان الميدان الثلاثة : محمود سعد، ابراهيم عيسي، بلال فضل (مع حفظ الألقاب). لكني أتساءل باستغراب لا يخلو من غصة: كيف يمكن تحرير العقول دون ذكر، و لو مرة واحدة أو بصورة عابرة، نصر أبو زيد أول من نادي بتحرير العقول؟ أفهم أن غيابه الجسدي يحول دون دعوته إلي البرامج و لكن ألا يمكن دعوة أفكاره و أرائه؟ ألا يمكن استضافة جهوده و كفاحه عبر السنوات الطويلة الماضية لتأسيس هذا الحلم الذي بدأ في التحقق في الخامس و العشرين من يناير؟