فالشخصية المرحنقباضية تجدها في بعض الأحيان شديدة المرح والابتهاج تكاد تطير من الأرض طيراناً وفي أحيان أخري تجدها شديدة الانقباض كأنها مضروبة ستين ألف صرمة قديمة، مع مرارة حقيقية في الحلق، وثقل في الأطراف، تسير مطأطئة الرأس، تجر نفسها جراً، والحالتان تحدثان لها عادة بدون أي سبب. وبما أننا فتحنا سيرة الكاريكاتير فلا مانع من أن أزيد حضراتكم علماً فأقول لكم إن معظم رسامي الكاريكاتير في العالم شخصياتهم من هذا النوع: مرحنقباضية.. ولقد كنت أحرص في كل بلد أزوره من بلدان العالم، أن أمر بدور الصحف هناك وأحاول أن أتعرف علي أهل »كاري« وسواء كنت في إيطاليا أو ألمانيا أو فرنسا أو انجلترا أو أمريكا، فإنني كنت أقابل نفس الشخصية حتي أكاد أحسب أنني لم أخرج من القاهرة، وأنني مازلت أقابل بهجت وحجازي وإيهاب وناجي والليثي وزهدي وصاروخان وعبدالسميع ورخا وجورج ومصطفي حسين وطوغان.. نفس الطباع، نفس الغلب والتعاسة، والضحكات المفاجئة التي تلوح لحظة كالشمس بين غيوم السويد. والسبب بحسب اجتهادي، في تفسير هذه الظاهرة، التي تجعل المرحنقباضية هي مرض المهنة بيننا، كما أن السل هو مرض المهنة عند العمال في بعض الصناعات.. إن الإنسان متوازن بطبيعته يحمل من قدرة الانفعال المرح بقدر ما يحمل من قدرة الانفعال الغاضب.. فإذا تعمد أن يبالغ في المرح وفي خلق جوه لتأليف نكتة أو رسم كاريكاتير لابد أنه ينقلب إلي الطرف الآخر بنفس درجة البعد عن نقطة الوسط ثم يظل هكذا يتأرجح مثل البندول. وكثيراً ما كان البعض يسألونني كيف تستطيع أن تكون رساماً كاريكاتورياً وبكل هذا التهريج.. وفي نفس الوقت شاعراً، وبكل هذا الحزن.. ولم يخطر في بالي أبداً أن أخبرهم باسم حالتي في طب الأمراض العقلية: المرحنقباضية. وليس معني هذا أن المرحنقباضية تصيب رسامي الكاريكاتير فقط، وإنما هي أيضاً تصيب غيرهم من الأفراد والجماعات، بل والشعوب أيضاً.. خذ مثالا الشعوب التي تعتقد في قرارة نفسها أنها كلما ضحكت كثيراً، بكت كثيراً، ولذلك تجدها إذا ضحكت تقول: ربنا يجعله خير. أخوكم العبد الفقير في مرحلة الانقباض الآن.. انتظر يوماً أن تزول وتحل محلها الأخري فلم تفعل.. انتظر يوماً آخر فلم تفعل.. انتظر أسبوعاً.. أسبوعين.. ثلاثة.. فلم تفعل. لماذا؟ لأنه يبحث عن شقة!