الإنسان عدو ما يجهل، والمجهول كان دائما الموضوع المفضل للباحثين عن الحقيقة وعشاق المعرفة، والمجهول يفتح آفاق الخيال الأدبي بلا حدود، فتفسير المجهول يظل مفتوحا حتي تنتهي حالة الجهالة به. هذا اللغز الأساسي في رواية "ابتسامة البحار المجهول" للكاتب الإيطالي فينشنسو كونصولو والتي صدرت لها مؤخرا ترجمة عربية عن دار شرقيات من ترجمة نجلاء والي، التي نقلت من قبل العديد من الأعمال الإيطالية الهامة إلي العربية، وخاصة عمل إيتالو كالفينو الكبير (في أربعة أجزاء) للحكايات الشعبية الإيطالية. فمن هو هذا البحار المجهول؟ التفسيرات كما أسلفنا مفتوحة، فقد يكون أنا أو أنت أو أي أحد آخر، شريرا أو طيبا، عاقلا أو مجنونا، ماجنا أو واعظا. إنه يشبه كل أولئك معا. تحكي الرواية عن هذا التشابه، مع الشاب العاشق لابنة العطار، والسبب في انتقال صورة شخصية لأنتونيللو دي ميسينا، من عطار في ليباري إلي البارون ماندراليسكا، عالم يهتم بالطبيعة ويجمع القواقع ويصنفها، ويهتم بجمع التحف والأشياء القديمة ليضمها إلي بيته الذي حوله إلي متحف. انطلاقا من هذا الحدث الذي يبدو هامشيا من الظاهر، والذي يسهم في رسم خلفية أحداث وطنية مرت بها إيطاليا عشية وصول موحدها جاريبالدي إلي صقلية عام 1860. ويركز المؤلف كونصولو، وهو واحد من أهم الروائيين الإيطاليين المعاصرين، علي الأحداث التي شهدتها بلدة صغيرة في صقلية، التي ثار فلاحوها ضد كبار القوم في بلدتهم، ومنهم كبار ملاك الأراضي الاقطاعيين، ولكنهم عوقبوا وأدينوا من جانب حكومة التحرير نفسها. هذا المجهول الذي يشعل الثورة عندما يصبح معروفا، ويظل علامة علي المرض والتكلس ما دام مجهولا، وعندما تندلع الثورة فإن أول من تأكلهم هم أبناؤها. ومن ثم فهي رواية تاريخية استغرق الكاتب ثلاث عشرة سنة من عام 1963 إلي عام 1976، وسمحت للمؤلف بأن يدرس أحداثا مرت عليها مائة سنة علي الأقل، لكي يعيد طرحها في فترة حديثة نسبية تميزت في إيطاليا بالصراع المحتدم بين النقابات العمالية وأصحاب الأعمال، لتعيد إلي الأذهان ما سبق لأومبرتو سابا طرحه في رواية فونتامارا، ومثله عبد الرحمن الشرقاوي في رواية الأرض، كان الفلاحون قد أحسوا بأن الوحدة الإيطالية تمنحهم إمكانية استعادة العدالة التي حرموا منها طويلا، والأمل في المشاركة في مجتمع يحترم حقوقهم الأساسية، ولكنهم وجدوا أن جميع الأنظمة لن تعترف لهم بأي حق، وأنها سوف تعاقبهم إذا خرجوا علي النظام حتي ولو لمساندتها. كانوا يحسون بأن النصر قريب ولكنهم كانوا يجهلون أن النظام لن يسمح لهم بالخروج عليه، حتي ولو تولاه المحررون. هذه هي الرواية الثانية لكونصولو، بعد "جرح إبريل" التي أفرغ فيها ذكريات الطفولة، وخاصة ذكريات الحرب وإبرار قوات التحالف علي الشواطئ الإيطالية لتخليصها من النظام الفاشي. في تلك الفترة شهدت عاصمة الإقليم الصقلي باليرمو أول اجتماع لجماعة 63، والتي انضمت إليها حفنة من المفكرين أصبحوا بعد ذلك من مشاهير الأدب الإيطالي المعاصر، مثل أومبرتو إيكو، وشكلوا ما يعرف بالطليعية الجديدة، ولكن كونصولو كان مختلفا، علي مستوي الأسلوب والمحتوي، ومال إلي صياغة طريقه بنفسه، معتمدا علي التجريب. ومن هنا جاء اهتمام كونصولو باللغة، والتي كما نري في "ابتسامة البحار المجهول"، لغة يتزاوج فيها الشعر والنثر، يستدعي إيقاع وموسيقي التراجيديا اليونانية، وهي اللغة التي أصبحت من خصائصه، ورافقته في جميع أعماله التالية. وربما كان هذا هو مكمن الصعوبة في ترجمة العمل، والذي واجهت فيه نجلاء والي صعوبات عديدة، أقلها تلك الجمل الأشبه بالألغاز، والتي تختلط فيها لهجات محلية بعبارات لاتينية. ولكنها للحق نجحت في اجتياز كثير من الصعوبات التي واجهتها، رغم أن هناك بعض الجمل التي لا يمكن فهمها إلا في أصلها الإيطالي، ومصطلحات أخري كانت تحتاج إلي توضيح مثل "مثقاب الصبار... لثقب كتان التطريز المفرود" أو "قصبة عنق". ولكن الأهم من هذه الصعوبات المفهومة، هو نجاحها في الإحساس بما هو شعر في النص وما هو نثر، يكفي أن تقرأ في أحد ملاحق الرواية بعنوان المدونات: لم أمسك في حياتي من قبل بندقية ورغم هذا استطعت في ذلك الصباح إطلاق الرصاص بسهولة ودقة ضد مجموعة من اليهود لا أدري من قتلت ربما دون تانو أمين الخزانة أو ربما تشيشو حامل أختام البلدية. أحداث الرواية شيقة، وموثقة بملاحق ونصوص لخطابات ورسومات ومدونات وأشعار، وهي تعطي الفرصة للمترجم أن يبدع كما أبدع المؤلف الذي يقدم لأول مرة في اللغة العربية بفضل نجلاء والي التي تقتحم الأعمال الصعبة وتقدمها بسلاسة وسهولة للقارئ العربي.