يعيش حياته بغواية إحساسه المثير والمتجدد بالحياة ككينونة في حالة سيولة تراوح بين الخفاء والتجلي.. الإرجاء والآتي.. فيضرب في غير اتجاه، متمردا علي ما حظي بالثبات والاستقرار طويلا.. لهذا لايرسم إلا إذا كان في حالة امتلاء باذخ بموضوعه، واحتشاد نفسي بالمواجد والحب، وما تقوله الحياة لبياضها المستحيل. وبذلك أضحي الرجل كلفا بمثاله الجمالي الصافي، ناشدا صورته أو نموذجه في تحققه أو اكتماله الأعلي، دون الوقوف طويلا عند تجلياته العينية.. اليومية.. الجزئية. إذن.. هو لايتطلع إلا إلي الكلي، وان بمحتوي مثالي، ويسعي إليه باحتفاء شديد يليق بطموحه الفني.. بل إنه يعزف عن ذلك التواصل الإنساني الذي لاينهض علي تحقيق هذه المعادلة. تخرج في كلية الفنون الجميلة - قسم جرافيك عام 0891، ولم يمارسه، واتجه إلي التصوير الذي امتلك أدواته قبلا، بعد أن استهوته في مبتدأ حياته الفنية تجارب محمود سعيد في البناء والكتلة، وسيف وانلي في المنظر الطبيعي وتناوله بشكل انطباعي وليس تسجيليا، وحامد عويس واهتمامه ببلاغة المهمشين وقوي المجتمع المنتجة من عمال وفلاحين.. وثمّن تجربتي عبدالهادي الجزار وحامد ندا، غير أن رغبته الدائمة في اكتشاف عالم آخر، دفعه إلي امتلاك أكثر من تقنية، وأعانه علي اختبار عمق تجربته التي تفيض بها نفسه في تنوعاتها المعقدة.. فاستهل بواكير حياته بالألوان المائية التي تعج بالأسرار التي »لاتبوح بها إلا إذا نشأت علاقة حب بينها وبين الفنان« علي حد تعبيره.. ومن ثم تحقق له الاندماج الكامل بين الألوان والأشياء والطبيعة التي يعيشها عبر لحظات الصيرورة والتحول. لذلك سكن الفنان »محمد الطراوي« الطبيعة وسكنته، وكرس حيزا كبيرا من انشغالاته الفنية للمناظر الطبيعية التي تضج بحقول من الاستعارات والعلاقات الجمالية والحدوس الفريدة التي تشع بإشراق خفي من خلال التفكيك المستمر لعناصرها، الذي لايأتي في معارضة مع ما تقدمه الحياة الواقعية، وإنما عبر تخطي المباشر والنفعي، والعثور علي الحرية المطلقة للروح. هناك - إذن - فعل انصهار داخلي، ينجز مهمته من خلال حركية الخيال الحر، التي هي أكبر من أن تكون مجرد لحمة فنية، بل هي حالة اندغام واتصال، بإيقاع أسهم في إطلاق ندائه الحميم. بيد أن سلطة الفتنة الخارقة لمنطق الكون والكائنات، دعت الفنان »الطراوي« في البداية إلي التعامل مع »البورتريه« علي نحو سردي وصفي يزيح النقاب عن تموجاته وتحجباته، كاشفا عما يسره الجسد للنفس، وما ينسجه القلب من شجون، والتمييز المتراكب بين الصوت واللون، بما ينطوي عليه من معان وطبقات.. وبذلك يشكل »البورتريه« وفق ما يذهب إليه - »مادة غنية، وبوابة للتعبير عن رؤيتي الخاصة«. ولأن »محمد الطراوي« يملك روحاً رومانتيكية شادية، فقد أمسي الوجدان لديه مصدراً لطاقة تعيد صياغة علاقته بالطبيعة، فيستعيد قدرته علي الحياة والحركة، وينأي عن مسايرة الطبيعة كما يفعل الكلاسيكيون، ولكن تنحو به صوب الاختزال والتكثيف والابتعاد عن الميوعة العاطفية، واللواذ بالحلم الذي يقوده إلي قراءة العالم الداخلي للإنسان.. وهو ما تجلي في معرضه الأخير الذي دعاه باسم »رؤيتان«، مؤكدا تاريخ علاقة الإنسان مع الطبيعة، ومع ذاته، ومحققا استقلاليته النسبية في إطار وعيه بالزمن الحاضن لحركة التاريخ، تاريخ الطبيعة والإنسان، كما صارت العلاقة بين الإنسان والزمن علاقة تفجير وتحقق، تفجير طاقاتهما الكامنة، وتحقيقهما في مستوي أفضل، فصار الزمن الموضوعي العام، هو زمن الانسان المدرك الفاعل. وفي إطار هذا الفهم لماهية الزمن العام، أبدع »الطراوي« لوحة »أيقونة الحرية« التي جسد من خلالها مفهومه للحرية كما عبرت عنه ثورة الخامس والعشرين من يناير، وتحطم معها حاجز الخوف من القمع والقهر المترسخين علي مر العقود، ورداً علي الإهانة التي ألحقها مبارك وعائلته ببلدنا، ودفعاً باتجاه إنجاز مشروعنا النهضوي والتنموي. وبذلك استطاع هذا الفنان أن يلتقط معني اللحظة المصرية في انعطافها صوب التغيير الذي يجعل الوعي بالحرية شرطا مسبقا للحياة، والعودة إلي التاريخ الذي طردنا منه.. مؤكدا دور الوحدة الوطنية البنائي والوظيفي في ترسيخ فضاء الديمقراطية المنشود دون شعارية أو منبرية، ولكن في صياغة أدني إلي التجريد الذي يمتح من مفهوم للفن يتجاوز الزمنية الضيقة، فيستعيد الرغائب والأحلام التي كانت تهمس في داخله متقدة بجمر الذاكرة العنيدة، في تمسكها بوطن حر.. وقد توسل إلي فكرته هذه بألوان الإكليريك - خامته المفضلة لديه، والتي يعدها البعض خامة بلاستيكية لأنها سريعة الجفاف، يقتضي التعامل معها حرفية عالية تمكنه من بلورة ما يسعي إليه ويروم. وقد أفاد »الطراوي« لاشك من عمله الصحفي »بروزاليوسف«، الذي مثّل له »نافذة أو إطلالة، وعرضا دائما علي الصفحات. ومن خلاله، استطعت تكثيف كل قدراتي وطاقاتي بشكل يتواءم مع سرعة الإصدار«. وقد أقام 51 معرضا فنيا خاصا، وشارك في عشرات المعارض الجماعية، لاسيما في فرنسا وأوزبكستان التي منحته الدكتوراه الفخرية وسوريا، وزارت أعماله الهند والشارقة والسعودية وإسبانيا واليمن، واقتناها متحف الفن الحديث والأوبرا وسواهما.. وكانت له إسهاماته في ورش العمل بمصر والخارج.