تتوالي المصابيح وتتباعد المسافات بين سيل السيارات التي كانت تمر مسرعة علي الطريق الأسفلتي التي ركزت »منسية« النظر إليه لتتوالي إليها في الضوء الخفيف عشرات الأشباح.. شبح أمها ورحيلها المباغت، أبوها الذي لم تر له غير صورة باهتة منصوبة علي الحائط.. لم يكن هذا العدد الهائل من الناس والسيارات قد تجمع في القرية من قبل مدت يدها كي تتأكد من وجود عشرة الجنيهات التي اقترضتها لتوها وبنظرة طويلة إلي آخر الشارع وفي الاتجاه الذي كان يأتي منه »سالم«. أطلقت »منسية« تنهيدتها المشهورة متذكرة قول أمها: »بتبصي علي إيه يا »مايسه« »هو اللي بيروح بيرجع« ثم انحشرت داخل الحشود لتزاحم بصرخاتها صرخات الآخرين الذين اخترق الخبر رؤوسهم ورسم علامات الفزع علي أجسادهم النحيلة فراحوا يبتهلون بالدعاء وهم يجتازون دروب القرية المغسولة بالحزن والتي لم تنم ليلة أمس. »منسية« استطاعت أن تنحشر في إحدي السيارات.. كانت الأشياء من حولها تبدو باهتة بفعل عوادم السيارات والغبار الذي أثارته والذي أغرق القرية الصغيرة ببيوتها المتلاصقة وحواريها الضيقة التي تعرفها »منسية« جيداً من تلك المشاوير التي ظلت تقطعها وبلا كلل عشرة أعوام متأرجحة بين اليأس والرجاء من المركز إلي مكتب البريد حتي السنترال، تلك المشاوير التي لم تجلب لها سوي اللوعة والحزن واسم جديد أطلقه عليها أهل القرية... تتوالي المصابيح وتتباعد المسافات بين سيل السيارات التي كانت تمر مسرعة علي الطريق الأسفلتي التي ركزت »منسية« النظر إليه لتتوالي إليها في الضوء الخفيف عشرات الأشباح.. شبح أمها ورحيلها المباغت، أبوها الذي لم تر له غير صورة باهتة منصوبة علي الحائط.. وشبح »سالم محجوب« منسية كانت تدرك تماماً أن »سالم« لم يسلم قط من غدر أصدقائه، ولم يكن يوماً محجوباً عن أي سوء. عندما وصلت السيارات المتعبة براكبيها المرهقين كان أول ضوء للفجر قد بدأ في التسلل، بينما اندفع الموكب ليجتاز بوابة الميناء وسط صراخ النسوة وبكاء الأطفال لتمتزج الأصوات بالصرخات وتتشابك الأقدام المتدافعة في فوضي لا نهائية. هز عامل المشرحة رأسه معلناً عدم وجود الجثة وأخبرها بعد أن أعاد إليها الصورة أن ثمة بعض المتعلقات الشخصية طفت علي سطح الماء وتم تجميعها ولصقها علي الحائط بالخارج.. لم يكن علي الحائط غير قصاصات من بطاقات شخصية باهته مبتلة وبعض الصور الداكنة وأوراق خضراء مثقوبة إلي جانب كومة كبيرة من الملابس وضعوها أسفل الحائط.. دققت »منسية« جاهدة في محاولاتها فك رموز الأوراق. فتشت كومة الملابس عدة مرات لم تصل لشيء.. رفعت رأسها وهي تلتقط أنفاسها ثم اتسعت حدقتاها تمسحان الأفق مارة بالبحر ستة أيام متتالية و »منسية« تقوم بنفس الرحلة بدءا بالقصاصات الورقية الجديدة التي تأتي من البحر مارة بكومة الملابس التي تكبر يوماً بعد يوم لترفع رأسها تمسح الأفق مارة بالبحر. في اليوم السابع كان وجه »منسية« جامداً كنظراتها وكانت شفتاها مزمومتين وهي تسير بجسد مشدود وسط التجمعات الهائلة وكأنها قررت فعل شيء. سارت كما لو كان كل ذلك غير موجود. سارت للأمام في خط مستقيم مجتازة الشاطئ ليرتجف جسدها حين استوعبها الماء.. وجوه كثيرة كانت تطل علي »منسية« وهي تحدق في الماء حتي شاهدت وجه »سالم« هنا كورت منسية قبضتها بكل قوة مطوحة ذراعيها للخلف وهي تأخذ نفساً عميقاً تطلقه في زفرات كثيفة ملقية بذراعيها للأمام لتضرب بكلتا يديها البحر.. حين بدأت »منسية« في الصراخ كانت الشمس تهبط تدريجيا في البحر بينما ارتفعت يدا »منسية« إلي أعلي. هكذا ظلت منذ آخر صرخة أطلقتها وهي تغرق تاركة وراءها ظلا طويلا من الانتظار.