سفينة تمر بالقناة وجمال عند الشاطئ أن تداعب السمك الصغير وتوشوش الأصداف.... أن تؤانسك البيوت العتيقة وتبوح للأفق البعيد بأحلامك الصغيرة.... أن تنطلق فرحا علي الميناء، متراقصا علي إيقاع البواخر الراحلة إلي البلاد البعيدة.... أن تتنفس رائحة التاريخ الجميل لمدينة صغيرة، لم يزل عرق أبطالها ممتزجا بترابها النفيس.... تلك هي مدينة بورسعيد التي عرفتها حين رأيتها لأول مرة قبل نكسة 1967 وقبل أن تتحول إلي منطقة حرة عام 1976 وتتبدل إلي أرض كرتونية تملؤها السلع الاستهلاكية، المتعددة الجنسيات والبضائع البلاستيكية، ويعلو الحاجز الشائك بينك وبينها، وكأنها بلدة غريبة علي حدود مصر تفصلها الجمارك اللعينة ويرتادها الغرباء من شتي البلاد القريبة والبعيدة وتتبدل رائحتها الأليفة برائحة القمامة وتتحول الوداعة والطمأنينة إلي مشاجرات عديدة وصراعات بائسة من أجل منافع رخيصة، حتي إن المشاعر نفسها قد تأثرت بآليات السلع وتحولت إلي مشاعر نفعية قائمة علي الكسب والخسارة. آفة فساد تسللت إلي روح تلك المدينة الباسلة وحولتها إلي منطقة حرة، يهتم أغلب سكانها بالتجارة والشطارة والفهلوة والتهريب، وكأن الربح السريع أصبح هو الشغل الشاغل لأغلب مواطنيها. ورغم ذلك... قاوم بعض سكانها القدامي من أصحاب التاريخ الوطني، ومثقفيها تلك الرياح الفاسدة التي هبت علي مدينتهم المجيدة وحولتها إلي سوق نفعية. أذكر علي سبيل المثال لا الحصر: - جمعية فناني وأدباء بورسعيد. - نادي المسرح ببورسعيد. - نادي الأدب بقصر ثقافة بورسعيد. - نادي الأدب بحزب التجمع. - نادي الأدب بقصر ثقافة بورفؤاد. - فرقة السمسمية الوطنية.- المتحف الحربي ببورسعيد الذي يحتوي علي سير ووثائق لرموز المقاومة الشعبية.- بينالي بورسعيد الدولي.- مؤتمرات ومنتديات أدبية وفنية تستضيف مختلف الثقافات.- مراكز شباب دولية. كما شارك بعض مثقفيها أيضا في مواجهة الفساد السياسي ورفعوا رايات الرفض لقمع الحريات وقانون الطوارئ ومعاهدة كامب ديفيد وسياسة الانفتاح الاقتصادي بل وزج ببعضهم في السجون ودفعوا أثمانا غالية من أجل الحرية والكرامة. بذرة المقاومة في بورسعيد لم تزل باقية رغم ما علاها من تراب بفعل التحولات الاجتماعية والسياسية. بذرة المقاومة ظلت نابضة وبرزت أكثر عند قيام ثورة 25 يناير التي أسهم فيها العديد من شباب بورسعيد وكتابها وفنانيها ومثقفيها. بورسعيد الآن... تحاول استعادة روحها القديمة وجمالها المكاني والمعنوي والروحي وتاريخها الوطني. بورسعيد الآن... تحاول أن تلملم ما تداعي منها بفعل ما أصابها من سلبيات المنطقة الحرة. تأثرت كثيرا بمدينة بورسعيد وكتبت العديد من القصص عنها. أذكر علي سبيل المثال لا الحصر: - مدينة الكرتون. - تداعيات صغيرة.- البيادة.-العربي.- النورس وغيرها. كما تناولتها في أكثر من مشهد في رواياتي كرواية نوافذ زرقاء ورواية صندوق صغير في القلب وغيرها. قصة مدينة الكرتون مثلا، كانت عن تأثير المدينة الحرة علي الناس والبيوت والشوارع والتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي نالت من المدينة وحولتها إلي بؤرة تجارية استهلاكية فاسدة. أما قصة العربي فرأت أنه رغم الانتعاش التجاري الزائف للمدينة إلا أن الفقر فيها كان مدقعا في بعض أماكنها والذي تمثل في العشش الصفيح علي أطراف البلدة وأشهرها عشش "زرزارة". وللقب العربي حكاية لها دلالة تاريخية، منذ الاحتلال الإنجليزي لبورسعيد، حيث كانت المدينة مقسمة إلي حي الإفرنج وحي العرب. حي الإفرنج كان مقصوراً علي الأجانب وعلية القوم، أما حي العرب فكان مقصوراً علي أبناء البلد الشعبيين وكان يطلق علي الأغلبية منهم لقب السيد العربي كدلالة علي عروبتهم وانتمائهم الوطني لمدينتهم. والعربي في القصة هو ابن العشش التي حرقت، صعد إلي أعلي عمود منارة مطل علي الميناء وخلع ملابسه كاملة وبال في الهواء ليمتزج بوله بالحديد الصدئ للعمود ولتراه السفن الراحلة والآتية وليلتف البشر حول العمود وتهتز مديرية الأمن والمحافظة والأجهزة الرسمية ويعدونه بعمل وسكن وفي النهاية لا يحصل علي شيء. أما قصة فبراير فكانت عن عشقي للبحر... كنت أقطن في مدينة بورفؤاد لسنوات وعملي في بورسعيد وكانت الوسيلة الوحيدة للوصول إلي العمل عبور القناة، لذا كانت علاقتي بالبحر حميمة جدا، أصبح عليه نهارا، وأمسي عليه ليلا، وأتضاحك معه ساعة العصاري، وأبتهج لصفو مياهه، وأحزن لتكدر أمواجه. كان للبحر رائحة خاصة تجذبني، وألوان مختلفة لمياهه تختلف باختلاف مواقيت الزمن وكذلك النوارس تراها أحيانا بيضاء وأحيانا رمادية وأحيانا داكنة، حسب فصول السنة واختلاف الليل والنهار. كنت أتوقع الطقس من لون النوارس وحركة المياه وطبيعة السحاب. عشقت البحر حتي في عز الشتاء واستمتعت بحنانه ودفئه كما صورت ذلك في قصة فبراير. وفي النهاية أقول: بورسعيد.... كانت صورة مصغرة لما حدث في مصر من تحولات في قوي وعلاقات الإنتاج بفعل سياسة الانفتاح الاقتصادي والخصخصة. محاولة إجهاض التاريخ الوطني لتلك المدينة كان رمزا لإجهاض الأحلام والأمان والاستقرار في مصر كلها. لكن قيام ثورة 25 يناير ومشاركة أبناء بورسعيد فيها خير دليل علي عراقة هذا الشعب، وإشارة بالغة إلي أن تلك المدينة الباسلة لم تزل نابضة بحب الوطن وستظل نابضة ورافعة رأسها، كما يرفع المصريون رأسهم الآن عاليا.