كثيرة تلك الأعمال الأدبية التي ناقشتْ الواقع المصري خلال العقود المنصرمة، وتغلغلتْ في أعماقه، وحللتْ ظواهره، وعرّتْ سوءاته بالتصريح، أو بالتلميح، وقد تعدد ذلك التناول كما قدّمْنا بين أجناس الأدب المتعددة، فاض بذلك ديوان الشعر المصري الحديث بالكثير، ومنه قصائد عديدة لمحمد إبراهيم أبو سنة مثل قصيدة "من الذي اغتربْ؟"، من ديوانه (تعاليْ إلي نزهة في الربيع) الصادر سنة 2009، وكتبها في التاسع من إبريل 2008، من خلال السؤال الحائر المتكرر: من الذي اغتربْ؟ / أنا أم الصبية العجوز في رواقها../ أنا أم الأحجار والأنهار والأشجار والأحلام في سرابها تموت وهي تقترب؟؟ / أنا أم الأقمار والجدران والطفولة الخضراء في انخطافها / أنا أم الأيام.. ... / يلفّنا الذهول وسط عالم من الكذبْ. ومن قبل تلك القصيدة كانت قصيدته "أيها السادة المذنبون" بخطورة دلالاتها، وخطورة تقنياتها الفنية، وغيرها من قصائده التي تستحق وقفة خاصة. وفي أشعار علي الباز ما ينوّع وجوه المأساة، بدءاً من العنوان الأليم "كان لي بلد.. إلي المعذبين في الأرض" : قد تسرق الدار أو قد يسرق الولد قد يسرق المال والأشياء تفتقد لكنّ أغرب ما حاولْت أفهمه أنّي أفتش عن أرضي فلا أجد وفي قصيدته "رسالة شديدة اللهجة إلي أبي الطيب المتنبي" كتبها سنة 1987، ومنها: بلاد كأنّ الزيف سمّم ماءها فأضحي دم الإنسان يجري مسمّما وصار النفاق المرّ ريحا سحابة فإنْ أمطرتْ فالسوء والملح والظما تلوّن وجه الأرض فالزيف غرسها إذا همْ جنوا يوما سيجنون علقما وكان من السرد رواية (صخب الهمس) لحسن البنداري، تلك التي اتخذتْ من قضية اختفاء الكاتب الصحفي "رضا هلال"، ومن مناخ قضايا حرية التعبير محورا للرؤية، لا مجرد تصدّره قائمة الشخصيات، أو النماذج البشرية التي تلعب بالأحداث، أو تكون ضحية لتلك الأحداث؛ بما في ذلك من مراقبة حذرة لمنجزات الوطن، أو الانشغال بهمّه، وغمّه، أو التحذير من ضياع الأمن، وتعرضه لأنياب داخلية، أو خارجية. إنّ الجمْع الحادّ بين ركنيْ التناقض في عنوان الرواية يتمثل في التماسّ الدقيق بين نقيضين من درجة الصوت والصدي، أي المنبع، والأثر: أحدهما (صخب)، والآخر (همس)، وليس التقابل بين هذين النقيضين بجعلهما في شاطئين منعزلين معنويا، بل الخطورة الدلالية والإيحائية تكْمن في جعل هذين النقيضين غير منفصلين، بل ملتحمين كأنهما الشئ الواحد، وذلك طبقا لحركة المعني في (التضايف، أو الإضافة)، فأولهما مضاف، والثاني مضاف إليه، ومن شأن الإضافة في لغات الأرض جميعها أن تجعل المضاف والمضاف إليه ملتحمين، وبذلك امتزج النقيضان: الصخب، والهمس؛ للدلالة علي قوة الأثر وارتباطها بقوة العامل الأساسي له، الأمر الذي أدي إلي غياب "صفوان"، أي اختفاء الشرفاء والمناضلين؛ ولهذا يتدفق السرد الصريح بمثل تلك الجمل الدالة دلالاتها المناسبة لسياق السرد ولسياق حياتنا المعاصرة الآن: تورّط أجهزة الشرطة والبحث الجنائي في الدول الأجنبية. كمْ شكوت إلي مدير الأمن العام والوزير؛ لأن البلاد مستباحة بعملاء.... وثمة محاولات لزعزعة أمن البلاد في مدن المحافظات، ومؤامرات بثّ الفتنة الطائفية... بإنشاء دولة مسيحية في الجيزة والصعيد، وإثارة القلاقل في سيناء في محاولة لعزلها في دولة مستقلة.. يحرّكون عملاء يعيشون بيننا. التآمر في دول أعلي النيل لتقليل حصتنا المائية. كلّف شوقي الجباسي بإشعال نار الفتنة في الداخل والخارج... لبدتْ مصر دولة موشكة علي التفكك والانهيار. الهجوم المسلح علي الوفد السياحي. والنماذج تطول وتطول، لكنه مجرد الاستشهاد بالأمثلة، وكل منها جدير بالتوقف أمام دلالاته وإيحاءاته التي لا تنتهي .