نحن لسنا في القرن الثامن عشر.. قرن الثورة الفرنسية، التي علمت الشعوب رفض الظلم والاستبداد. ولسنا في القرن التاسع عشر حين كان الحاكم يمن علي شعبه، فإذا طالبه بحق من حقوقه قال له: "أنتم عبيد إحساناتنا". ولسنا في القرن العشرين حنيما كان الشعب يثور ضد المحتل فيضربه بالرصاص أو يفتح عليه كوبري عباس أو يسوقه إلي المعتقلات سنة وسنوات، ويكيل له من التعذيب ألوانا. ولسنا في أيام من هذا الزمان بادت إلي غير رجعة حين ظن الحاكم أن الشعب دان له بالخضوع.. يتصرف ويفعل به ما يشاء، ويطلب من الشعب أن يشكره علي تفضله بقبول حكمه ورئاسته في مملكته التي ظن أنه- ومعه حاشيه وأهله- قد ملكوها بمن عليها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ وشباب ومتاع. لا.. لسنا في أي من هذه العصور، إنما نحن ولدنا يوم أذن الله لشباب منا قالوا لا، وتحملنا شرف المقاومة وخطر التصدي لنظام الفصل عن شعبه وتعالي عليه ونظر إليه من برجه العاجي كفئران تجارب.. رفض الشعب الإذلال المستمر بروح شبابه الجديدة وقال.. لا. فهل يعاقبنا الفاسدون لأننا ثرنا علي الظلم لنعيش أحرارا ونتبوأ موقعنا اللائق تحت الشمس؟ موقعنا الذي صنعناه بعزم شباب، وحكمة رجال رفضوا الانصياع لإرادة ظالميه. يوم ثاروا في التاسع من مارس سنة 1919 واستشهد منهم مصطفي ماهر أمين ومحمد عزت بيومي في الدقائق الأولي للثورة، وثاروا في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1935 وكان في طليعة شهداء ذاك اليوم البطولي محمد عبد المجيد وعبد الحكيم الجراحي، وثاروا يوم الثالث والعشرين من يوليو بزيهم العسكري ليصنعوا مصر الحديثة ويعيشوا سنوات التحدي والمؤامرة، وثاروا علي هزيمة يونيو 1967 ليثبتوا أن الشعب لن يقبل أن يهان بالهزيمة، وثاروا في أشرف يوم في العصر الحديث يوم السادس من أكتوبر ليعيدوا للوطن شرفه وكبرياءه. الشعب كله بجيشه المليوني كان عبوره ثورة ردت الكرامة لرجال ضحوا بأرواحهم واستشهدوا لتحيا مصر وتحرر وترد للشهداء حقوقهم في الحب والوفاء وقبلهما الكرامة.. عبد المنعم رياض.. محمد علي فهمي.. أنور السادات.. سعد الدين الشاذلي..أحمد إسماعيل علي.. أحمد بدوي.. محمد عبد الغني الجمسي.. كمال حسين علي.. والآلاف من القادة والضباط والجنود الذين عبروا يوم ثورتهم علي الهزيمة في ظهر السادس من أكتوبر 1973، وحاول البعض أن يشوه التاريخ الحي ويختزل النصر في واحد. فهل يعاقبنا الفاسدون لأن شبابا وضعوا أرواحهم علي أكفهم وقاموا في هبة رجل واحد.. وصرخة شعب واحد ليقولوا لا؟! هل يعاقبون وطنا يريد أن يحيا بكرامة.. أن يتقدم ويرتقي.. أن يصنع ويزرع.. ويعمل؟! هل يعاقبنا الفاسدون بإحراق المنشآت وتعطيل الأعمال في المصانع وتخريب بنية الوطن؟! الذين تلذذوا بالأكل الحرام والشراب الحرام وعرفوا حياة الملوك والبذخ وملكوا في كل مكان من الدنيا أوطانا تغنيهم عن وطنهم.. ملكوا الطائرات وأغلي السيارات والسفن السياحية والفنادق ذات الخمس والسبع والعشر نجوم.. الذين تعالوا علي فقراء شعوبهم ولم يخجلهم أن موائد الرحمن ابتدعت في رمضان ليعطي الذي عنده القليل.. من ليس عنده شئ. فعلي أي شئ يعاقبوننا؟ ويوعزوا إلي زبانيتهم ليخربوها تارة بتظاهرة.. وتارة باعتصام.. وتارة بحريق.. وتارة بحرق كنيسة.. وتارة بإثارة نعرة طائفة ضد أختها، وكلها في النهاية توجه في صدر الوطن الذي أخطأ بولادتهم من ترابه ورعايتهم تحت شمسه.. وأعزاهم باسمه.. فباعوه واختاروا لأنفسهم أوطانا أخري.. أكثر لمعانا وبريقا.. ظنا أنها تحميهم من غضب شعب مظلوم.. سكت صبرا.. وتأدبا واحتراما لماض شارك فيه بدور.. ولكن الصبر.. حتي الصبر له حدود للاحتمال، وبعدها يأتي الطوفان. أبدا لن تسقط مصر في بئر الفتنة ودوامات الفوضي وبحور الشلل والشللية.. لقد استيقظت.. أيقظها شباب آمنوا بحقها في الوجود الحر العظيم فأفاقت، ولن تعود مصرنا جميعا إلي الوراء. إنني أراها.. أبصر الغد وقد حررته الإرادة من الخوف.. وصنع أبناؤه المستقبل الواعد الجميل.. بعلم علمائها.. وسواعد شبابها.. وبناء عمالها.. وفلاحة مزارعيها. ستنهض مصر من كبوتها وتبدع.. وتفيض كما فاضت من قبل علي جيرانها.. وستقول كلمتها في كل جديد، وفي فنون الحياة الحضارية المتمدينة. ويبقي شعبها منارة تهدي الإنسانية بتراكمات حضارتها منذ امتزجت بأرضها وترابها دماء المصريين الأقدمين إلي يومنا هذا، مرورا بكلمات أهدتها ثقافة هذا الشعب للإنسانية عن حتحور وآمون ورع وآتون، وغيرها من الشخصيات التي نقشت اسمها في سجل تاريخ البشرية من مينا وخوفو وحتشبسوت ونفرتيتي وتوت. ومن معابدها الفرعونية إلي كنائسها المسيحية إلي مساجدها الإسلامية إلي أبراج مصانعها المعاصرة، وسنابل زراعاتها وأهازيج أزهارها وفيوض نهرها.. مصر التي عاشت وعانت.. حزنت وفرحت.. أحبت أبناءها وعلمتهم الوفاء والبناء الصاعد إلي أعلي لا الهدم النازل إلي أسفل. ستبقي مصر درعا لأبنائها.. تحميهم وتشد من أزرهم ليحموها ويرتقوا بها.. وسيفشل أعداؤها، وعما قريب سنشدو جميعا بفرحة الانتصار علي مخربيها، مثلما غنينا أنشودة الحياة منذ أيام قليلة وسجلها التاريخ: "الشعب يريد..." وسيسقط أعداء الوطن.