فكرة العودة إلي الرسم أكثر من مؤلمة. وليس المجال هنا للكلام عن تاريخي الشخصي، ومع ذلك آخر بور تريه رسمته كان بألوان الباستيل_ الزيتي منها_ تلك الخامة التي يستهين بها الكثيرون وكان زملائي يهربون منها حين كنا ندرس بكلية الفنون بالزمالك . رسمت هذا البورتريه لرجل في منتصف عمره ، قمحي البشرة وملتحي . أنهيته في اقل من ساعة وطبعا من جرب الرسم منكم يفهم ان هناك وجوها مغرية للغاية لان ترسمها . الحاجبان الكثيفان مثلا . العيون البراقة المتسعة للغاية والصغيرة للغاية . البشرة العاجية التي يصنع بها الضوء أعاجيب وسحرا. يعني ربما لم اكتب هذا الكلام لأتكلم واشرح شرحا مدرسيا عن فكرة رسم الوجه وما شابه . لكنها الورطة التي أوقعتني فيها "أخبار الأدب" حين طلبت مني رسم بور تريه للرئيسين السابق منهم والآتي. أي ورطة وأي شيء أثقل من أن ترسم صورة ما لرجل يسكن احدي الكواكب البعيدة ويعلن نفسه إلها خالدا تجري الأنهار من تحته . وقد أشبعه الكهان بألوف التماثيل والصور. أرسم من ؟ إنني لا أريد كتابة اسمه حتي . يكفي انه فعل بي هذا. جعلني لا أستطيع أن اعترض عليه حتي في أحلامي وفي صحوي، أمشي في شوارع بلادي كالأسيرة دون أن أجرؤ حتي علي النطق . يمر الإله المريخي في احدي شوارعنا فتكون طامة سوداء علي رؤوسنا . لا نخرج ولا ندخل . ناهيك عن احتساب مرات تنفسنا ورمشات أعيننا أما الكلمات فمبتور منها كل ما هو يخص أسماؤه الحسني. أرسم من؟ نحن نرسم الأشياء الحسية الجميل منها وحتي المشوه . يمكننا أن نرسم منزلا مهدما نري شقوقه ونتصور التاريخ الذي مر به. النبضات والحكايات والأغنيات والمشاجرات وما شابه . لكن كيف أرسم صورة بالفعل . بصراحة كان من أشد التنبيهات الأكاديمية في التدريس لنا ألا نرسم صورا . يقولون لمن يضبط بهذا الفعل . يا حمار . ما فائدة أن ترسم صورا . أنت ترسم ورق مسطح هكذا لا ترسم دماء ولا نبضا ولا روحا ترتجف . ما فائدة الدقة في رسم خطوط حسمت من قبل . لا تتنفس . ولا يمر الهواء في جنابتها . لا ترتجف ولا تغير من اتجاهات نظراتها . أما هو فلم يكن من المتاح التفكير في رسمه . أقولها بحق. في صورته التي صدرها لنا طيلة حكمه لم يكن يغري أصغر هاو لرسمه . أنت لم تكن تري كائنا بشريا. حتي فرشاة بيكار الأنيقة والصالونية الراقية كانت ستتضايق من ذلك لو طلب منهم رسمه في حلاته الغامقة . تلك التي ضحك علينا وخلعها أمام الكاميرات في حملته الرئاسية 2005 فشاهدناه بالقميص ودون رابطة عنق وكأنه إنسان عادي يتخفف من ملابسه أحيانا أو يخلع رابطة عنقه .لم نصدق ما رأينا وأنا قلت في عقلي كيف يتنازل هذا الإله هكذا . عيب . كان يكفينا أن يشير بسبابته ويفرد _قليلا- ثلاثة أصابع أخري. حتي نبكي ونلطم علي وجوهنا متوسلين لفخامته أن يحكمنا من جديد. لكن أن يضطر لخلع الجاكيت والكرافت فهذا كثير. حني أننا كلفناه عناء تزوير آخر للانتخابات حقيقة لم يكن بحاجة إليه. أليس له ملك مصر يا عالم وهذه الأنهار تجري من تحته... ما هذا الورطة يا أصحاب "أخبار الأدب" أرسمه ؟؟ متي ؟ الآن.. وهل بقي منه شيء آدمي . هل سيجلس أمامي بتي شيرت رمادي أو جلباب غامق والسلام. أي لون يسمح لي بمزج ألوان متعددة لإبراز ثناياته. هل سيكف عن صبغ شعره أو وضع مساحيق التجميل كي يجعلنا نسجد للخالق العظيم الذي جعل رجلا في الثمانين يبدوا بهذا التماسك . هل سينظر نظرة بشرية عادية فيها القلق أو الانكسار أو الحيرة . (الحمد لله الذي جعلنا نحلم بعد هذا العمر.) أما ورطة "أخبار الأدب" فأعبرها بالمجاز . بالتصور. بالكاميرات الخرافية التي تسمح لنا بصنع سينما تخصنا ولا يحاسبنا عليها رقيب. أجعله ينظر بوضع كلاسيكي للرسم هو وضع الثلاثة أوجه أو _ الترواكار- كما يقول المصورون . حيث تبدوا له عين واحد كاملة وثلثي عين أخري. وكذالك الشفتان والوجنتان . تعرفون لماذا ؟ لان هذا الوضع يبرز الأنف جيدا . أي رسام سيجلس أمام هذا الرجل لن يجد سوي انف يستفز الرائي لأن ينقله. إذا رسمته من أي وضع آخر لن يكون بنفس القوة . أنف منتفخة ومدببة في استعلاء موجه لكل من يراها . استمد منه كبرياؤه علينا وحدنا لا علي من يجب أن يوجهها عليهم ، أنف تشعرنا بأنه يهيننا في كل مرة نراها ونراه، ثم إذا بها تصغر مثل حبة سمسم حين يقابل رؤساءه الحقيقيين من قادة الدول الحقيقية في قوتها .أنفه كانت سوط علينا لا سوط يحمينا ويرفع رؤوسنا . ورغم أنني لست من عابدي الزعيم الراحل جمال عبد الناصر إلا أنني لاحظت أن له أنفا رومانية بها عزة ، اعتقد أن المصري كان يستمد منها كبرياؤه الشخصي ,كان كبرياء الرجل يقوينا ويرفع هاماتنا . أما الرئيس السابق فقد كان كبرياؤه موجها أصلا لسحق أرواحنا . لكسر رجالنا وتعقيم النساء . أرسمه بالألوان الزيتية . ألوان سميكة . ملكة الخامات كما اسميها ، رصينة وسريعة وقابلة لتحمل الانفعالات. المختلفة . لن تحتمل خامة أخري انفعال عيني أمام هذا الوجه. أريد وقتا طويلا لإنجاز الصورة كي أفكر وأعود وامحي بعض التفاصيل أو أعمقها. ثم سأقدمها وأنا