"في الأسبوع الماضي حظت الدولة الفلسطينية باعتراف ثلاث دول: الأرجنتين والبرازيل والنرويج، والتي قامت برفع مستوي التمثيل الدبلوماسي لديها مع الفلسطينية إلي مستوي السفارة. أما الولاياتالمتحدة فكان لها موقف آخر: لقد اتخذت قراراً بأن ترفع الفيتو علي أي اقتراح يتم تقديمه للأمم المتحدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية." هكذا يبدأ تسيفي برئيل، الصحفي بهاآرتس والمتخصص في الشئون العربية، تقريره عن كتاب رشيد الخالدي المترجم إلي العبرية مؤخرا تحت عنوان "القفص الحديدي: قصة صراع الفلسطينيين من أجل الدولة". لهذه المقدمة ثمة سبب موضوعي، فالخالدي، وهو أستاذ التاريخ الفلسطيني بجامعة كولومبيا، يدور كتابه حول سؤال أساسي: لماذا لم ينجح الفلسطينيون حتي الآن في إقامة دولة مستقلة؟ يواصل الخالدي هنا ما بدأه في كتابه السابق "الهوية الفلسطينية: بناء الوعي القومي الحديث". حيث يقوم بتحليل المجتمع الفلسطيني بعناصره، ويجاهد لتقويض الرؤية التي لا تزال شائعة بين المستشرقين اليوم، وهي أن القومية الفلسطينية لم يكن ممكناً لها أن تقوم بدون تأسيس قومية إسرائيلية، صهيونية. لا يقوم خالدي في كتابه هذا، كما يقول برئيل، بالاستسلام لأي من الروايتين، اليهودية والفلسطينية. بل يسخر بحدة من سيادة الرؤية التي خلقت "الإحساس بالضحية" بين الطائفتين، وبهذا يضع علي رفي الكتب، الفلسطيني والإسرائيلي/ اليهودي، مادة كافية لتأسيس رواية ثالثة، مشتركة وعقلانية، كما يدعي تسيفي برئيل. يقدم خالدي ثلاثة تفسيرات رئيسية لرفض إقامة الدولة الفلسطينية: الجدار الحديدي الذي أقامه البريطانيون ضد هذا التطلع، الخلافات الشخصية والسياسية بين القيادة الفلسطينية علي طول تاريخها، وموقف إسرائيلي صارم مصحوب بدعم أمريكي، قمع في الماضي ولا يزال حتي الآن يفجر أي رمز للاستقلال الفلسطيني. يُرجع خالدي التزام بريطانيا بإقامة "بيت قومي" لليهود في فلسطين لتوجه "عنصري مرقق"، يصبح بمقتضاه اليهود هم ذوو الأهمية والمغزي في مقابل الفلسطينيين، الذين يمكن تجاهلهم. يؤسس خالدي حكمه هذا علي مقولة وزير الخارجية البريطانية، اللورد بلفور، التي يمكنها أن تخدم، بل وتخدم فعلا، الرؤية الإسرائيلية الحالية. يقول بلفور: "الصهيونية، سواء كانت عادلة أم غير عادلة، سواء كانت جيدة أم سيئة، متجذرة في تقاليد قديمة، في احتياجات الحاضر، في الأمل بالمستقبل، (احتياجات وآمال) أهم بما لا يقاس من الرغبات والآراء المسبقة الخاصة ب700 ألف عربي يقيمون في هذه الأرض القديمة". العرب، وفق بلفور، ليست لديهم تقاليد، لا آمال ولا احتياجات _ أو باختصار، بحسب جولدا مائير "ليس هناك شعب فلسطيني"، كما يقول برئيل ساخراً. كتابة التاريخ ليست عملاَ موضوعياً وبشكل عام فهي مضفرة برؤية تفسر الأحداث وفق رغبتها. يسعي خالدي للهروب من الفخ الشائع للغاية، والذي يقدم القومية الفلسطينية كانعكاس بائس للقومية اليهودية، ويتجاهل التاريخ المستقل للفلسطينيين، وفي أحيان كثيرة تعرض هذه الرؤية القومية اليهودية والصهيونية بصفتهما أبوي القومية الفلسطينية. يعرض خالدي القصة الفلسطينية، والتي لا تعمل فيها الرواية الصهيونية إلا بوصفها مجرد مقياس. يهدم بإخلاص الرؤي المؤسسة في الرواية الصهيونية، وهي الأساطير التي خدمت فكرة "العدالة" الإسرائيلية"، ولا "يحاول قراءة تاريخ المهزومين في وثائق المنتصرين". ولكنه لا يتجاهل، بحسب برئيل، الأساطير الفلسطينية أيضاً. بعد قوله بأن احتضان البريطانيين للصهيونية لم يترك شقاً يمكن منه للحركة القومية الفلسطينية أن تحقق تطلعاتها، فهو يقوم بمحاسبة القيادة الفلسطينية، وصراعاتها الداخلية التي منعت تكون جبهة قومية يمكنها التعامل بنجاح مع العدو، ورؤاها الأيديولوجية التي عتمت علي إمكانية بناء أسس مشابهة للأسس التي بناها الصهاينة. إحدي الاتهامات الأساسية التي يوجهها خالدي للفلسطينيين هي أنهم "لم يروا في المهاجرين اليهود لفلسطين لاجئين من الاضطهاد قبل أي شيء... وإنما غزاة أوروبيين متكبرين لم يتصالحوا مع كون الفلسطينيين شعباًً ذا حقوق قومية في بلده"، كما أصروا علي أن يروا في اليهود مجموعة دينية وليس قومية. ومن هنا نبع رفضهم للتصالح مع فكرة تحقيق الصهيونية. من هنا، يدعي برئيل، نبع أيضاً الخطأ التكنيكي الآخر للفلسطينيين: وهو رفضهم لاقتراح البريطانيين بإقامة مجلس تشريعي أو وكالة عربية مشابهة للوكالة اليهودية. ربما لم تكن هذه الوكالة قادرة علي تحقيق أهداف سسياسية بسب التزام بريطانيا ب"البيت القومي" اليهودي، ولكن كان يمكنها منح القيادة الفلسطينية شرعية ومنصة لترديد آرائها. يعلق برئيل: "هذا تفسير جريء من جانب باحث فلسطيني، ابن واحدة من العائلات النخبوية التي قادت السياسة الفلسطينية في تلك السنوات. وهذا أيضا رأس حربة يغرسها خالدي في الأسطورة الفلسطينية التي رأت في بريطانيا والصهيونية وسائر القوي الاستعمارية أسباباً مطلقة للإخفاق في إقامة مؤسسات سلطة فلسطينية". يبدو خالدي يائساً في بعض فقرات كتابه، خاصة عندما يلخص الوضع الحالي قائلا: "من البديهي أنه بعد وقت ما، وربما لوقت غير محدود، سيتم منع الفلسطينيين من تحقيق حلمهم بأن يعيشوا في بلدهم حياة شعب ذي سيادة"، ولكن كمؤرخ، يؤكد برئيل، فهو يعرف بالتأكيد أنه لا شيء مضللاً أكثر من التحليل. فلسطينيو 1936-1939 ليسوا فلسطينيي 2010. وإسرائيل لم تعد هي الاستيطان، والولاياتالمتحدة ليست بريطانيا. ليس معني هذا أن المنظومة المختلفة سوف تخلق معجزة، ولكن لا يمكن إنكار الفرصة التي تحملها هذه المنظومة.