أسعدني أن أقرأ أن المجلس الأعلي للثقافة قد تذكر أخيرا الكاتب الكبير عبدالحكيم قاسم، وسط مشاغله لحشد المثقفين في مؤتمر متعثر لتأييد الوزير في محنته بعد صلحه مع محسن شعلان، وتناسي جريمة التفريط في ثروة مصر القومية بضياع لوحه فان جوخ التي يبدو أن الجميع تناساها. فأكبر مآسي مصر هي أنها بلد بلا ذاكرة. تحدث فيها أكبر الكوارث دون أن يهتز للمسؤولين فيها كرسي. ويعتمد فيها الجميع علي أن »آفة حارتنا النسيان« كما قال أديبنا الكبير نجيب محفوظ أكثر من مرة في رائعته الشهيرة. إذ تلف عباءة النسيان بسرعة جهنمية كل الجرائم. فمن يذكر الآن صرعي مسرح بني سويف، أو الملايين التي اهدرها أشرف عبدالمنعم؟ وها هي لوحة فان جوخ التي لاتقدر ملكية مصر التاريخية لها بأي مال، ناهيك عن قيمتها المادية الكبيرة، وقد بدأت آفة النسيان تنوش قضيتها فيتناساها الجميع، في غمرة حرارة العتاب والصلح بين السيد الوزير »الفنان« ومحسن شعلان الذي بلغ به السفه أن يصرح بعد صلحه مع الوزير بأن لوحة فان جوخ »زبالة«. أقول أسعدني وسط هذا الغم كله أن أقرأ أن المجلس سيحتفل بعبدالحكيم قاسم هذا الأسبوع. لأن عبدالحكيم قاسم كان يستحق الكثير من التقدير قبل ذلك بكثير. ولو كانت ثمة أجندة حية للثقافة المصرية، لاحتفت بحق في العام الماضي، بمرور خمسين عاما علي صدور روايته العلامة (أيام الإنسان السبعة) التي غيرت بشكل جذري طبيعة الكتابة عن القرية المصرية. كان عبدالحكيم قاسم من أعز أصدقائي وأقربهم إلي نفسي، كما كنت قريبا منه ومن أسرته جميعا، كان كريما ودودا حفيا بأصدقائه، وكم أكلت من طعام أمه الطيب اللذيذ رحمهما الله رحمة واسعة. كان عبدالحكيم من أهم رفاق رحلة التكوين والمعرفة، ومن أكثرهم صلابة في الحق، وصرامة في الكتابة منذ أن تعرفت عليه بعيد خروجه من المعتقل بعام أو عامين. وصاحبت رحلته في الكتابة والغربة معا. قدمت قصصه لمجلتي (الآداب) و(المجلة)، وكنت أول من كتب عن روايته العلامة (أيام الإنسان السبعة) في مجلة (المجلة) أيام أن كان للمجلة صيت ودور. وقرأت بعدها الكثير من أعماله وهي لاتزال مخطوطة لم تنشر بعد. فقد كان رحمه الله حريصا علي أن يقرأ أعماله فور الفراغ منها، وأحيانا قبل الفراغ منها، علي أصدقائه. ولازلت أذكر بوضوح صوته وهو يقرأ أعماله عليّ، وطقوس تلك القراءة الحميمة التي توشك أن تكون مكملة لعملية الكتابة عنده. كما صحبته في رحلة الغربة، ولا أريد أن أغالي فأقول أن تغربي وسفري إلي بريطانيا، فقد كنت أول من سافر في مطلع عام 1973 للإقامة في الغرب من أبناء جيلي، كان الدافع أو ريما الوازع علي غربة عبدالحكيم قاسم وسفره إلي برلين، وتصميمه علي عدم العودة برغم الصعاب الكثيرة التي واجهته فيها. وقد زرته في غربته البرلينية أكثر من مرة، كما أنه زارني في غربتي اللندنية، وكانت شقتي التي نزل فيها في زيارته الوحيدة للندن، من البيوت التي كتب عنها في رائعته الأخري (قدر الغرف المقبضة). كما أنه بعث لي من غربته البرلينية بمخطوطة نصه النبوءة »المهدي« وكتبت عنه وقتها دراسة وهو لايزال مخطوطة، بل وسعيت لنشره في أكثر من مكان. أقول هذا كله كي لايشك أي قارئ في مدي اعتزازي بعبد الحكيم قاسم الشخص والكاتب معا، وتقديري الكبير لهما، فأنا أول من يذكره كلما جاءت مناسبة للكتابة عن إنجاز هذا الجيل. لكن أقلقني أيضا أن يأتي الاحتفال به في هذه الظروف وفي هذا السياق الغريب، الذي كان عبدالحكيم قاسم أول من سيتحفظ عليه لو كان بيننا، لأنه نأي بنفسه دوما عن مواضع الشبهات. حيث يجيء الاحتفال بعبدالحكيم قاسم في سياق عملية غسيل سمعة المجلس الإعلي للثقافة بعد تعثر مؤتمر المثقفين، وهو مؤتمر يعتزم أكثر من 120 مثقف نادوا يإقالة وزير الثقافة بعقد مؤتمر مناهض له، وشكك السيد الوزير الفنان في أنهم مثقفين، وبقية القصة معروفة. فلو كان الهدف، وأنا أحاول هنا أن اتلمس للمجلس الأعلي للثقافة الأسباب، هو الاحتفال بأهمية إنجازه الكبير، لجري الاحتفال به في العام الماضي كما ذكرت بمناسبة مرور نصف قرن علي نشر (أيام الإنسان السبعة). ولو كان الاحتفال بالعيد الماسي لميلاده، لكان قد تم الإعلان عن هذا الاحتفال قبل ذلك الوقت بزمن كبير، ولجري قبل هذا التاريخ الذي يجيء بعد انصرام عيد ميلاده الخامس والسبعين، والعام يلملم أوراقه ويستعد للرحيل. ولتم الإعداد له بصورة تليق بإنجاز هذا الكاتب الكبير، وليس بتلك الصورة المتسرعة والفقيرة والتي قرأت عنها في برنامج الاحتفال المزري، والذي لايليق بقامة عبدالحكيم قاسم ولا بمقامه. لهذا كله أحب أن يعرف المحتفلون، أن عبدالحكيم قاسم لو كان بيننا ربما لما رضي أن يتم الاحتفال به بهذا الشكل المنقوص، ناهيك عن أن يوظف بتلك الصورة أو في هذا السياق. ولو كان لايزال بيننا لكان من المؤكد - وهذه شهادة واحد من أقرب أصدقائه - أن يرفض دخول الحظيرة، وأن يساهم في فضح السلبيات التي تملأ الممارسات الثقافية الراهنة، ناهيك عن استخدامه في التعتيم عليها أو الترويج لها. [email protected]