لكل مقام مقال ، وفي العيد ينبغي أن يقال شيء ما لطيف . ولا يعقل أن أكتب عن شيء ، أي شيء ، مما يخطر في بالي ويؤرقني ، لأن كل ما يخطر في بالي لا يقال في مناسبة مفرحة ، فإن كتبت شيئا منه سأكون ببساطة قليل الذوق . فلنبدأ بعبارة كل عام وأنتم بخير ، ربما تتفتح علي وقعها المعاني الطيبة . كل عام وأنتم بخير صحيا ، وماديا ، ومعنويا . أعني قراء أخبار الأدب الذين نعتبرهم أصدقاء مقربين حتي وإن كنا لا نراهم . فالقاريء الذي لا يظهر في المشهد هو صانع المشهد ، لأن كل كاتب يكتب وفي ضميره أنه يتوجه بكلماته لقارئ معين ، قد لا يستطيع تحديد لون عينيه، أو ملامح وجهه ، لكنه حين يكتب يراه ، ويتخيله رقيبا عليه ، ويتصور أن ذلك القارئ المجهول سوف يزجره حين يتهاون أو يخط شيئا بعجلة ودون مبالاة ، ويظن الكاتب أيضا أن القارئ المجهول سوف يمتدح هذا المقطع أو ذاك ، أو يشيح بوجهه بملل عن هذه السطور أو تلك . القارئ الذي لانراه هو الذي يصنع الكتابة ، لأنه يحدق في روح الكتاب باستمرار ، ودونما غرض ، أو حساب لمصالح ، إنه فقط يريد الحقيقة ، وإلي هذا القارئ يعود الفضل في كل كلمة حق نشرتها أخبار الأدب علي مدي وجودها . لأولئك القراء ، البعيدين ، القريبين جدا ، الذين لا نراهم، ولا نري سواهم ، أقول : كل عام وأنتم بخير ، وعيد سعيد . ولتكن أعوامكم كلها سعادة . أية سعادة ؟ . كثيرا ما فكرت في أن العالم يخلو من هذا المفهوم تماما ، وأن " السعادة " فكرة اخترعها الإنسان لكي يلهث وراءها طيلة حياته ، فإن كانت السعادة شيئا يمكن بلوغه ، فإن هناك طريقا واحدا إليها ، عبر عنه في أحد نصوصه الجميلة الشاعر العظيم جبران خليل جبران ( 1883 _ 1931) ، النص أدرجه هنا وأعتبر أنه " هدية العيد " . يقول جبران : " لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل، إذا صمتّ.. فاصمت حتي النهاية، وإذا تكلمت.. فتكلّم حتي النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت. إذا رضيت فعبّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت.. فعبّر عن رفضك، لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.. النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك، النصف هو أن تصل وأن لاتصل، أن تعمل وأن لا تعمل، أن تغيب وأن تحضر.. النصف هو أنت، عندما لا تكون أنت.. لأنك لم تعرف من أنت. النصف هو أن لا تعرف من أنت .. ومن تحب ليس نصفك الآخر.. هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه!!.. نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلي أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة.. النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان. أنت إنسان.. وجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة!! " . وإلي حد كبير عاش جبران خليل جبران حياته كما تمني لنا في ذلك النص أن نعيش حياتنا ، رغم قسوة الظروف التي مر بها ، ورغم حبه المحبط لمي زيادة التي كتب يقول لها : : " أنت تعيشين في وأنا أعيش فيك ، أنت تعرفين هذا وأنا أعرفه " . أما مي زيادة فقد عبرت في مقال بعنوان " أنت الغريب " عن حبها له ، لذلك " الذي تبحث عن صوته بين كل الأصوات التي تسمعها " أي عن جبران . ولم يكن لتلك العاطفة أن تشتعل لولا أن جبران كان يؤمن من أعماق روحه بأن : " نصف شربة لن تروي ظمأك ، ونصف فكرة لن تعطيك نتيجة ، ونصف الطريق لن يوصلك لشيء " ! كل عام وأنتم بخير ، هكذا ، علي طريقة جبران خليل جبران !