كانت السنوات الأولي من الخمسينيات في القرن الماضي منذرة بتغييرات حاسمة، ومنبئة بانفجارات إيجابية كبيرة وكثيرة. ولذلك كان الصراع محتدماً بشكل مخيف، ولا يحتمل الجو أدني احتجاج يذكر، ورغم ذلك كانت الحياة السياسية والفكرية والثقافية مشتعلة، واستطاع الدكتور طه حسين بعد إعلانه التاريخي: »التعليم كالماء والهواء من حق أي مواطن أن يتعاطاه« استطاع أن يخوض معركة ضارية لتثبيت ذلك المفهوم، وترسيخه علنياً، والذود عنه، وتحديد فاعلياته في جميع مستويات التعليم، وفي تلك المرحلة- أوائل الخمسينيات- ظهر كتاب حدد لهم ملامح فكرية مختلفة مثل خالد محمد خالد الذي كتب كتابه الشهير »من هنا نبدأ« عام 0591، وصودر الكتاب، ومُنع من التداول، وجرت معركة ساخنة علي صفحات »أخبار اليوم« لمناصرة الكتاب، وامتدت المعركة لصحف ومجلات أخري، وتم الإفراج عن الكتاب، وظهرت طبعات متتالية في الأسواق تنذر بروح جديدة، ودم فتي، ولم يكن هذا علي المستوي السياسي والفكري فقط، بل علي المستوي الأدبي أيضاً، فكان نجيب محفوظ بدأت تعرفه الأوساط الثقافية والأدبية والعامة بشكل جيد، وظهرت كوكبة أخري مثل سعد مكاوي ومحمود البدوي وعبدالرحمن الشرقاوي ومحمد يسري أحمد ويوسف إدريس وصلاح حافظ ومصطفي محمود وغيرهم.. ومد هؤلاء الحياة الأدبية بإبداعاتهم القصصية المتنوعة، وكانت مجلات الرسالة والثقافة والنداء وقصص للجميع وغيرها تتباري من أجل نشر ذلك الجديد، بالإضافة إلي الصحف مثل المصري والملايين والكاتب والقاهرة والزمان وصوت الأمة وغيرها.. كما ظهرت أيضاً أصوات في النقد تتقاطع مع هذه الإبداعات. في تلك الفترة وفي النصف الأول من عام 2591 أنشئ نادي القصة، وأصدر لائحة تنظم شروط العضوية والنشر، وتوضح الغرض من إنشاء هذا النادي، ومن بين بنود هذه اللائحة.. تقول: »الغرض من النادي خدمة القصة المصرية وإعلاء شأنها وإنشاء مؤسسة ثابتة لكتّابها والمهتمين بأمرها، وقررت اللائحة أن يتكون النادي من هيئة فنية إدارية من الأعضاء المؤسسين تضم نخبة من كتّْاب القصة تقوم بمختلف نواحي النشاط التي تقرها الهيئة وتشترك في إصدار مختلف النشرات والمطبوعات.. وكانت تلك الهيئة في ذلك الوقت تضم في إهابها: توفيق الحكيم ومحمود تيمور وفريد أبوحديد ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وصلاح ذهني وعبدالحميد جودة السحار وأمين يوسف غراب ومحمد عبدالحليم عبدالله وعلي أحمد باكثير ويوسف السباعي.. وأصبح السباعي هو المدير الفعلي للنادي.. وكانت اجتماعات النادي تنعقد في دار روزاليوسف أسبوعياً بشكل مؤقت وذلك يوم الأربعاء.. وتقرر أن يصدر النادي كتاباً شهرياً يسمي »الكتاب الذهبي« يحوي كل شهر مؤلفاً لأحد كتّاب القصة، وعلي أن تطبع منه كميات وفيرة، وتتولي- آنذاك- دار روزاليوسف تقديم المعونة المادية من طباعة وورق حتي يتكون للنادي كيانه المادي، وعلي أن تكون الطباعة أنيقة، ولا يزيد ثمنه علي عشرة قروش حتي يكون في متناول الجميع. هذه هي أهم بنود لائحة النادي الفني، التي حرص علي تنفيذها بجدارة، فالتزم الميعاد، والسعر، والمستوي الأدبي، والإخراج.. وكان الإصدار الأول للكاتب الشاب والصحفي الثائر إحسان عبدالقدوس، وصدر العدد الأول تحت في إجازة« و»سيدة صالون«.. والتزمت السلسلة تقديم بعض الكتّاب أو معظمهم في شكل محايد، أي بطاقة تعريف هادئة دون أي بهارات، الحقيقة فقط، لذلك كانت بطاقة تعريف إحسان تقول إن عمره 23 سنة، تخرّج في كلية الحقوق عام 2491، اشتغل بالمحاماة سنة واحدة ثم اعتزلها ليتفرغ للصحافة، ويتطرق التعريف للظروف الحقيقية التي عاناها الكاتب، فيذكر أنه دخل السجن عام 5491 بسبب حملته لإخراج لورد كيلرن من مصر، ودخل عام 1591 بسبب إحدي حملاته علي حزب الوفد.. وهكذا.. ويتصدر التعريف صورة حديثة للكاتب، ودوماً كان يوسف السباعي يكتب كلمة قصيرة في بطن الغلاف الأخير تحت عنوان »حديث الشهر«، ربما تكون عن الكاتب أو عن الكتاب أو عن قضية ثقافية عامة وهكذا، لتصبح هذه الكلمة أداة اتصال حميمة مع القارئ.. فيكتب في نهاية كلمته في أول عدد: »نحن أولاً أصدقاء في ناد واحد، وهذا الكتاب أول مظاهر الصلة بيننا، وندعو الله وندعوكم أن تزيدوا من مظاهر هذه الصلات«. وبالفعل نجح الكتاب الأنيق والمتميز نجاحاً مبهراً، وقدم كتاباً ينشرون لأول مرة كتباً كاملة مثل مجموعة »أرخص ليالي« ليوسف إدريس، ونعرف جميعاً الدوي الذي أحدثته هذه المجموعة، ودشنت لصاحبها بشكل كبير، واستقبلها النقاد والمبدعون والقراء والأوساط الصحفية بشكل خرافي، وهذا قد سبب بضعة هواجس بالنسبة للسلطة السياسية، وذلك لأن قصته »الهجانة« توحي ببعض الآراء السياسية التي تخص العسكر الذين هجموا علي العباد بشكل همجي، وتم القبض علي يوسف إدريس بعد صدورها مباشرة في أغسطس 4591، ليخرج في 81 يناير 6591 في صفقة سياسية مع الدولة، وكان يمثلها صلاح سالم الذي أرسل يوسف إدريس وكمال عبدالحليم وفتحي خليل وزهدي للسودان للوساطة مع الحزب الشيوعي السوداني لتذليل الحوار مع السوفييت من أجل إجراء صفقة السلاح، ومنذ ذلك الوقت قرر إدريس ألا يدخل السجن مرة أخري، وصدرت أيضاً في ذات العام مجموعة »العشاق الخمسة« ليوسف الشاروني، وهي أيضاً مجموعته الأولي، والتي تُعد نقلة في مجال القصص التعبيري، وهي رغم أنها المجموعة الأولي للشاروني إلا أنها من أبرز مجموعاته، وصدرت في ديسمبر 4591، وصدرت رواية »الأرض« في مجلدين لعبدالرحمن الشرقاوي، واعتبرها بعض النقاد بمثابة بداية الرواية الواقعية في مصر.. بينما اعتبرها أنور المعداوي من أدب الريبورتاج الصحفي، ودارت حولها معركة حامية في ظل الصعود الواقعي للأدب. بالطبع لم تقف السلسلة في صف نوع أو اتجاه واحد في الأدب، فنشرت مثلاً للكاتب الرومانسي محمد عبدالحليم عبدالله »بعد الغروب« و»شجرة اللبلاب«، ونشرت ليوسف السباعي عدداً من الروايات مثل »ليل وخمر« وغيرها من روايات، وأعادت نشر روايات الأربعينيات لنجيب محفوظ مثل »زقاق المدق« و»السراب« و»خان الخليلي« و»القاهرةالجديدة«، ولكن لأسباب تجارية غيّر السباعي العنوان وجعله »فضيحة في القاهرة« وهذا أغضب نجيب محفوظ، ولذلك استعاد عنوانه القديم في الطبعات التالية.
ونشرت السلة لكتّاب مثل طه حسين فأصدرت يونيو 3591 »شجرة البؤس«، وأصدرت لتوفيق الحكيم »شجرة الحكم«، ولسعد مكاوي مجموعة قصصية عنوانها »في قهوة المجاذيب«، ونشرت لعلي أحمد باكثير »الثائر الأحمر«، وروايته الشهيرة »وا إسلاماه«.. وأصدرت لكتّاب رحلوا مثل إبراهيم عبدالقادر المازني روايته »إبراهيم الكاتب«.. كانت الإصدارات تتنوع وتتعدد، ولكنها لا تتحزب ولا تتعصب لاتجاه، ورغم الاتجاه الذي كان يمثله يوسف السباعي إلا أنه كان يخضع لقرار مجلس الإدارة، والذي ضم إلي إهابه الدكتور طه حسين مما زاده ثقلاً وقيمة، وكان هذا المجلس هو الذي يختار وينتقي ويقرر، ويوسف السباعي يكتب التذييل بصفته الإدارية، وأظنه كان قديراً في مسألة الإدارة، وأظن أيضاً أن السباعي ظُلم كثيراً في تغييب دوره، وذلك لأنه دخل معارك مع من كانوا يمثلون السلطة الثقافية، فسلبوا منه كل الأدوار بسبب خلافاتهم معه. والذي يطالع إصدارات نادي القصة في ذلك الوقت، ويعدد الأسماء التي قدمتها، يتعرف علي المناخ الاستثنائي الذي كان سائداً في تلك الفترة، هذه المرحلة الفنية، ولكنها مرحلة ملغومة بالكثير، لكن علي المستوي الثقافي والأدبي، قدمت الكثير، ولا أنسي أن أشيد بالإخراج الفني المتميز في تلك المرحلة، لأنها كانت مرحلة إحلال شكل وإخراج جديدين، وولدت أسماء جديدة مثل حسن فؤاد وزهدي وجمال كامل وغيرهم.. كانت هناك ماكينة متعددة الأوجه تدور لإنتاج مرحلة ثقافية ذات مستوي جيد. عنوان »النظارة السوداء« مع قصتين أخريين هما »راقصة