كنت أتهيأ لمتابعة القضية التي أثرناها في العدد السابق، حول فوضي الخرائط والمصطلحات السياسية في مصر، ولكن مقال الدكتور عبدالحكيم راضي حول قرار وزير الثقافة بنقل السيرك القومي من العجوزة إلي 6 أكتوبر (ص5) حرضني علي مشاطرته القلق، لكن من زاوية مختلفة. وفي مفاضلة بين القضيتين رأيت أن بمقدوري حمل البطيختين في يد واحدة؛ ففوضي الحدود علي الخرائط تتصل بفوضي التخطيط للعاصمة، كأننا في سيرك، وصاحبه غائب، ومن حق كل لاعب أن يتصرف علي هواه. المصادفة قادتنا إلي الكتابين وسعينا إلي محاورة المؤلفين، وليس في نيتنا المزايدة علي أحد، فقط نريد أن نعرف كيف تتحول إسرائيل إلي دولة عربية في جداول الإنتاج بكتاب جامعي، وكيف تتمدد لتبتلع فلسطين في الخرائط؟ الزميلة منصورة عز الدين حاورت د.فتحي مصيلحي العدد السابق، وكان رده أن إسرائيل حقيقة جغرافية لا يمكنه إنكارها، أما عذره في الجداول، فكان الضرورة الطباعية لأنه كان ينوي أن يقول (جدول إنتاج الدول العربية مقارنة بإسرائيل) وأن السطر لم يسع الكلمتين الأخيرتين (مقارنة بإسرائيل)، كما أن كتابه ليس مرجعًا للحدود السياسية! وفي تحقيق الزميلة مني نور المنشور إلي جواري يقول الدكتور محمد صبري محسوب إن ابتلاع إسرائيل لمساحة فلسطين في الخريطة المصاحبة لبحثه جاء لأن المساحة لم تسع الدولتين معًا علي الورق، وإن كتابه ليس مرجعًا جغرافيًا. يبدو أن مشكلة الورق صارت مزمنة في الجامعة، وفي الحقيقة فإن التبريرين لا يحتاجان إلي تعليق يمكن أن تسمح به قوانين النشر، أما ما اشترك فيه فتحي مصيلحي مع حمدي إبراهيم (مع حفظ الألقاب الجامعية) فهو الحديث عن واقعية وجود إسرائيل، وعن الحقيقة الجغرافية. بينما اشترك ثلاثتهم في الاستخفاف بالتوقف أمام خريطة وردت في كتاب، والمبالغة في إمكانية تأثيرها علي وعي الطلاب. وهذا الكلام، يجب أن يطرح نقاشًا جامعيًا قبل أن يكون إعلاميًا حول ولاء الجامعة الأول: للعلم أم للواقع؟ بمعيار العلم، فإن إسرائيل لم تستكمل مؤهلاتها لتكون دولة، طالما لا تتمتع بحدود ثابتة ومستقرة من جهاتها الأربع. وإذا تجاوزنا عن هذا الشرط القانوني العلمي، فلا توجد دولة من الدول المعترفة بإسرائيل تقول بحق الدولة العبرية في كامل التراب الفلسطيني، بل إن العالم كله متوافق علي اعتبار الأراضي المحتلة من فلسطين بعد قرار التقسيم أراض فلسطينية، فلماذا يتبرع أساتذة أجلاء بالتنكر للعلم والتنكر للواقع معًا. ؟ ثم، إن الواقع الذي صار معبود الجامعة، ليس واقعًا منذ الأزل لكي نمنحه كل هذا الاحترام. الواقع تصنعه القوة بعناصرها المختلفة وبينها قوة المصطلح. ونحن نري كيف تعاقب إيران شركات الطيران التي تسمي الخليج العربي، وتصر علي تسميته الخليج الفارسي، ونجحت في فرض تسميتها علي الأطالس العالمية، لترجح كفتها منفردة علي اليمن وعمان والسعودية وقطر والبحرين والإمارات والكويت والعراق. وفي حرب المصطلحات تسمي إسرائيل المقاومين إرهابيين والاستشهاديين انتحاريين، بل إنها تزيف بدايتها فتجعل من تاريخ إعلان دولة الاستيطان تاريخا ل (الاستقلال) متي كانت موجودة لتستقل؟ ليست الإجابة مهمة، فالمهم ترسيخ واقع يمتثل له الأساتذة المصريون، وعندما لا تتسع الخريطة لشعبين يحذفون الفلسطينيين! الامتثال للواقع، ذاته، تمارسه الحكومة المصرية عند تعاملها مع القاهرة، المدينة الأم؛ فبدلاً من حل مشكلة التلوث تم نقل تمثال رمسيس من قلب القاهرة، وبدلا من توسيع المتحف المصري في مكانه علي مسافات متساوية من اتجاهات المدينة ووسط فنادق السائحين وزوار العاصمة تم نقله إلي الهرم، ومؤخرًا وصل الإيذاء إلي حيوانات السيرك القومي تمهيدًا لنقله إلي مدينة 6 أكتوبر. وأنا أسأل وزير الثقافة: ما معني المدينة خلت من التمثال والمتحف والسيرك والمسرح ودار السينما وساحة الاحتفال؟ ما الذي سيبرر احتفاظ القاهرة بصفتها المدينية بعد تفريغها من معالمها الثقافية، وما الذي سيبرر التمسك بالدولة الفلسطينية إذا كان أساتذتنا الأجلاء لا يجدون لها مكانًا علي الخريطة؟!