الأنوار تغمر الساحة، الشيخ علي الدكة العالية، تحمحم ليفتتح القراءة، بدا لي شابا نوعا ما، بذلك الزي الأزهري: الجبة و الكاكولا و عمامة خفيفة ملفوفة علي طربوش أحمر، بجواره كوب ينسون، يرتشف منه و يجرب صوته؛ الناس زاد عددهم، لم تعد الدكك كافية، فمدت حصر و فرشت فوق الأرض المبللة بالماء في محاولة لتلطيف السخونة الناشعة منها، الكل صامت في انتظار الشيخ. بيوت أبوابها مفتوحة تطل علي الساحة، و درب يقود لداخل البلدة، رحت أعدد البيوت: بيت العريان، أبو خليل، أم سليمان، بيتنا، بيت أبي و أمي، بيت عزيز، بيت أبو ضب، رجعت لبيتنا، أنظر لبوابته العالية، يقيم به الآن أخوي أبو زيد و عاطف، و قد اقتسما البيت بينهما، الباب مفتوح و صبية يدخلون و يخرجون، لكن بيت أبو مريم مغلق و مظلم علي غير العادة. جاء ولد بحصير و فرشه لنا، جلسنا و أنا أرد علي الأيادي التي ترتفع بالتحية، رغبت في القيام لمصافحة أصحابها لكن الشيخ تعوذ و بدأ القراءة. صوته المضخم عبر المكبرات لم تكن نبراته واضحة، بدا هادئا، رخيما، ربما ترقبا للحظة الهجوم القادمة، قال عبد السلام: لسه بيسخن. و حطت يد فوق كتفي، رفعت وجهي مستديرا لاستطلع الذي يقف خلفي، عاطف، همست و أنا أقف لأحتضنه، و هو يقول: إيه نسيت إخواتك. و أنا تحسبا لم أعلق مكتفيا بحضه الصادق، وضع يده في يده، قال: تعالي. و قادني بعيدا عن الحصير و الجلسة و هو يقول: بعد إذنكم يا جماعة. و دون أن ينتظر ردا مني أو من أحد دفعني برفق، وضعت رجلي في الحذاء و مشيت بجواره. الشيخ يتلاعب بصوته بين علو و خفض، قربا و بعدا من المايك، يعرف قدرة هذه الأجهزة، فيستفيد من إمكانياتها و هو يتمايل في جلسته القرفصاء، لم يكن الصوت حلوا، به نقص ما، ربما التكلف و الصنعة و الرغبة في الإبهار بالصوت العالي المتردد، رأيت بعض الناس و قد مالوا متقاربين، يتهامسون، و البعض يتململ، و رأيت "سمسم" متواريا بيده سيجارة يشد أنفاسها بشبق متناه. بدا واضحا أننا نقصد البيت، حاولت التوقف، إلا أن العيون المنصرفة عن الشيخ وجدت ما يشغلها، فراحت تتابع خطونا نحو البيت، و تجبرني علي ترك التردد، و عدم إظهار أي نوع من المشاعر الآن، فالجميع، أو معظمهم علي الأقل يعرف الحكاية، فلا داعي أن يجري هذا الفصل السيئ أمامهم أيضا. بعض العيال الصغار و البنات يتقافزون علي نصبة الكوشة الخالية، مسرح معد و مجهز بإضاءته و فرشه و الكرسيين، و أيضا أعمدة الهواء و الدخان البنفسجية تتمايل مبتسمة، صوت العيال عالي، قام شاب بعصا رفيعة و هش العيال بعيدا، لكنهم وقفوا غير بعيد، و راحوا يقتربون في حذر لاقتناص لحظة الغفلة التالية. تابعنا التقدم صوب البيت، و أنا أحاول استدعاء المشهد الأخير لي هنا، بقلب هذه الساحة، حقيبتي علي معلقة علي كتفي، الخلاء من حولي و شمس هائلة قريبة لدرجة مفجعة تجبر الجميع علي الاختباء في مثل هذا الوقت، وقفت متطلعا للبوابة العالية، بمثلثات و طبقان من الصيني، مغروزان في أعلاها علي الحائط المرشوش بالجير الأبيض، بينهما هلال أبيض، كيف قدته أمي من أطباقها الصيني؟ الباب خشبه العريض و الثقيل مدهون بالبني المحروق، و عيني سرحت علي الباب المجاور، نفس التشكيل و البناء، و طبقان من الصيني بينهما صليب من الصيني أيضا، كيف قدته دميانة؟ أم مريم؛ البابان مغلقان، ما أزال أشعر بثقل تلك الأبواب علي قلبي، وحيداً في قلب الظهيرة الملتهبة، و عيوني تحاول لمّ المشهد المفتوح أمامي: النهر و النخل و الزروع القليلة، و الجبل في الخلفية. أغمض عيني في محاولة أخيرة للقبض عليه، بيقين من يدرك أنها المرة الأخيرة التي سوف أري فيها هذا المكان. خرجنا من بين الناس، الباب مفتوح و مصباح مضاء فوقه، الباب الآخر بجواره مغلقاً و مصباح مضاء و رجل يجلس علي المصطبة بلصق الباب، عرفت فيه جرم عزيز الضخم، تهللت قليلاً و سرت نحوه، حاول عاطف أن يوقفني، لكني واصلت سيري، فتبعني علي مضض ثم توقف. وقفت أمامه و مددت يدي و أنا أقول: أزيك يا عم عزيز. بدا الرجل غائباً، فلمسته برفق في كتفه، انتبه، و تحامل كي يقف، قلت خليك زي ما أنت. مد يده و وضعها في يدي التي ما تزال ممدودة نحوه، انتفضت و أنا أحس بنفس البرودة القاسية التي لاقيتها و أنا أسلم علي دميانة، و دون أن أشعر أو أرغب أفلت يده، فسقطت في حجره كأنها تنهيدة خلاص، رفع عزيز عينه يتطلع فيَّ، هالني البياض الغائم بعينيه، و تمتم بكلمات غطت عليها القراءة العالية للشيخ، و بدا واضحاً لي أن الرجل لم يعرفني، فضربتني الخيبة، و عدت لعاطف و سألته بتوتر: ما لهم؟!.