كان مطلع التسعينيات وبالا علي المشهد الجزائري، ليس من الناحية الأمنية فقط حيث شرعت آلة الموت تحصد الإنسان والأفكار المستنيرة بعمي مقيت، ولكن فيما يخص النشر أيضا، حيث تم الاستغناء عن سياسة دعم الكتاب، وحلّ المؤسسة الوطنية التي كانت البوابة الأرحب لذلك في إطار سياسة اقتصاد السوق الوليدة بعد ثلاثة عقود من النزعة الاشتراكية حيث كان الكتاب يصل إلي أطراف "القارة الجزائرية" كلها بأثمان لا تكاد تكون أثمانا، كان شروع الموت الإرهاب في حصاده المقيت بداية العقد الأخير من القرن العشرين بالتوازي مع الكف عن سياسة دعم الكتاب موتا آخر لم يحظ بالانتباه الكافي كما حصل مع الموت الأول، ليجد الكاتب الجزائري نفسه مدانا أمام هذا الوضع علي أنه يكتب أصلا، كان يبذل جهودا للتخفي مثلما بذل جهودا قبل ذلك من أجل الظهور حتي لا يُتهم بكونه مثقفا فيموت.. كانت الكتابة ومن النشر طريقا معبدا للانتقال إلي عالم "النشر الأخروي"، ما فتح عالم النشر في الجزائر طيلة السنوات العشر الموالية علي الركود الموات والعشوائية، أشير إلي أنني أتحدث هنا عن الكتاب الأدبي والفكري تحديدا، أما الكتاب الاستهلاكي من قبيل كتب الطبخ والكتب شبه المدرسية والكتب التي تدّعي كونها دينية فقد وجد في هذا المناخ فرصته الذهبية للرواج، وحتي إن توفرت جرعة من الشجاعة علي الظهور لهذا الشاعر أو الروائي أو المفكر رغم التهديد القائم، فإن دور النشر التي كانت مستعدة لأن تتبني عمله نادرة ومحصورة في العاصمة فقط، لذلك فقد كان ما اصطلح علي تسميتهم بكتاب الداخل وهم المقيمون في المحافظات البعيدة عن الجزائر العاصمة يعانون المرارتين: مرارة الكتابة في حد ذاتها ومرارة النشر إن هم أرادوا أن يتحدّوا مخاطر الظهور وينشروا، وهنا ظهر ما عرف بالنشر المشترك ومعناه أن الكاتب يدفع من جيبه الخاص نصف أو ثلثي تكلفة طبع الكتاب علي أن تدفع دار النشر أو الجمعية الثقافية الباقي، وقد كانت الجمعية الثقافية الجاحظية التي يتولاها الروائي الطاهر وطار رائدة في هذا المجال، مع مطلع الألفية الثالثة، حيث تراجعت تهديدات الإرهاب، وعادت سياسة دعم الكتاب من طرف وزارة الثقافة، بدأ الأمر يختلف، وكانت بداية العودة عام 2003 حيث تظاهرة سنة الثقافة الجزائرية بفرنسا، أين تمت طباعة عشرات العناوين الأدبية والفكرية، ثم إنشاء صندوق دعم الكتاب والآداب علي مستوي الوزارة الوصية الذي أصبح يدعم دور النشر الخاصة التي تتولي نشر هذا النوع من الكتب بالإضافة إلي منشوراته الخاصة، ما أدي إلي ظهور العشرات من دور النشر منها الجادة ومنها الطفيلية المنساقة وراء النزعة الربحية، وتشكلت أكثر من نقابة للناشرين منها الجادة ومنها الطفيلية أيضا، غير أن اختيار الجزائر عاصمة للثقافة العربية عام 2007 كان العتبة الكبري التي شهدت طفرة في عالم النشر الجزائري، أكثر من ألف عنوان أدبي وفكري وتاريخي، لأقلام من مختلف الأجيال والحساسيات المتفاوتة جماليا وإبداعيا، وقد تكررت الفرصة في العام الموالي لذلك من خلال المهرجان الثقافي الإفريقي لتقرر الوصاية بعدها فكرة دعم طباعة ألف عنوان سنويا علي حساب الخزانة العامة، بتنفيذ دور النشر الخاصة التي تجاوز عددها المائتين ما يُمكن التأكيد عليه ونحن نقارب واقع نشر الكتاب الأدبي والفكري في الجزائر اليوم، أن المستوي الجمالي لطباعته وإخراجه بات محترفا لدي معظم دور النشر، ولعل الأمر يحتاج مزيدا من التراكم حتي ترافق جمالَ الشكل جديةُ المضامين التي تشتغل عليها العناوين المنشورة من خلال انفتاح الناشر الجزائري علي حقيقة ما يُكتب في المشهد الإبداعي فعلا، من شعر وقصة ورواية وفكر ونقد ومسرح، انفتاح يقتضي استشارة جادة للعارفين الحقيقيين بملامح المشهد حتي يكون دعم الكتاب الذي اقتنعت به الوصاية بعد سنوات الفوضي والعنف دعما للجودة المؤسّسة لوعي جديد لدي الإنسان الجزائري المعرّض مثل شعوب عربية وإسلامية كثيرة لإكراهات التطرف. لقد بات الكاتب الجزائري اليوم معربا كان أم مفرنسا لا يجد مشكلة في نشر ما يكتب كما كان الأمر سنوات التسعينيات، لذلك فقد بات الرهان الذي يواجهه هو رهان الكتابة المبدعة والمفتوحة علي التجاوز والاختلاف، وهو رهان ربحته عشرات الأسماء من الأجيال المختلفة والحساسيات المختلفة وباللغتين: العربية والفرنسية. إشارات: 1 باتت دور النشر الخاصة التي تنشر لكاتب ما كتابا مدعوما ملزمة بإبرام عقد معه ونسبة الحقوق التي يتقاضاها هذا الكاتب تكون في حدود 10 بالمئة. 2 أعادت سياسة دعم الكتاب الدواوين الشعرية إلي الوجود بعد أن كانت تُرفض بالمقارنة مع الأجناس الأدبية الأخري. 3 ما زالت سياسة توزيع الكتاب بعد طبعه تحتاج إلي رؤية جادة من أجل وصوله إلي القارئ البعيد عن العاصمة والمدن الكبيرة. روائي وإعلامي جزائري