الزمان: الثلاثاء، 19 يونيو 2007 . المكان: شارع "حسن صبري" بضاحية الزمالك، القاهرة. كان لقائي الأول به .. "الأستاذ" صلاح عيسي، المناضل القديم والثائر الدائم، ذهبت له دون مقدمات أطلب منه أن يمنحني مساحة للكتابة في جريدته، كان وقتها رئيس تحرير جريدة "القاهرة" الصادرة عن وزارة الثقافة والتي صار الآن رئيسا لمجلس إدارتها، وأعطيته نماذج لبعض الموضوعات التي كتبتها، قرأها بعناية وكان تعليقه "عناوين جميلة، ومقدمة رشيقة.. فقط اضغطي الموضوعات لأن مساحة النشر محدودة"، لم أتخيل أبدا أن هذا الرجل الذي أشاهده فقط عبر شاشة التليفزيون سيمنحني هذا الشرف بنقده لما سطرته يدي، وبعد جلسة قصيرة طلب مني أن أجري حوارا مع المحلل السياسي الدكتور سمير غطاس، وعندما علم بأني لا أملك وسيلة اتصال بالرجل منحني أرقام تليفوناته، ولكن عليّ أن أسلم الحوار خلال 48 ساعة للحاق بالعدد الأسبوعي القادم، خرجت من مكتب الأستاذ صلاح عيسي وبداخلي كل ألوان التحدي لإنجاز الحوار في صورة مشرفة وفي الوقت المحدد. وفي يوم الأربعاء 20 يونيو 2007، شارع القصر العيني في قلب القاهرة، كان جهاز التسجيل (الكاسيت) الخاص بي أمام الدكتور سمير غطاس، حوار استمر ثلاث ساعات وعشر دقائق، لم أجري حوارا مثله من قبل، عدت إلي المنزل قرب منتصف الليل وكلي حماس أن أكتب الحوار قبل طلوع الشمس، ومع بداية نهار الخميس كان الحوار علي البريد الإلكتروني الخاص بجريدة القاهرة ومعه صور حية للحوار. اتصلت بأستاذ صلاح ووجدت نبرة الأبوة تقول "برافو.. أنتظر منك المزيد"، تم نشر الحوار علي صفحة كاملة وعليها اسمي .. كانت فرحتي لا توصف؛ رغم أني نشرت من قبل في الكثير من الصحف، لكن أن يكتب اسمي في صحيفة يرأسها "الجميل" صلاح عيسي هو شرف كبير لكل صحفي في الوطن العربي. استمر العمل بيني وبينه لمدة ستة أشهر عن طريق الهاتف.. يكلفني ببعض الموضوعات أو أذهب يوم "ثلاثاء" - وهو يوم صدور العدد - لزيارته في مكتبه الذي يفتح بابه من العاشرة صباحا لكل من يزوره دون كلل أو ملل، مهما كان هذا الشخص. في شهر يناير 2008 فوجئت بهاتفي المحمول يرن واسمه يزين شاشته وطلب مقابلتي في صباح اليوم التالي، لم أكن أتخيل أبدا أن هذه المكالمة ستكون جواز مروري إلي عالم "صلاح عيسي" الملئ بالمفاجآت في كافة النواحي المهنية وغير المهنية، طلب مني أن أكون سكرتير تحرير جريدة "القاهرة"، وسكرتير التحرير في "القاهرة" العامرة بحس عم صلاح هو "الرجل الثاني"، كانت ثقة كبيرة خشيتها في باديء الأمر وأبلغت عم صلاح أن المسئولية كبيرة فكان رده عليّ ردا لا يتوقعه أحد، جملة لا تزال ترن في أذني حتي الآن "هنتعلم مع بعض"، يالك من رجل متواضع أستاذي الجليل.. استمرت العلاقة بيني وبين أستاذي طوال السنين الماضية، كان جميع العاملين بالجريدة يعرفون أنني أطلق عليه خارج مكتبه "بابا"، ولم يكن يعرف طوال سنتين أني أناديه "بابا" لأنني طوال التعامل معه أناديه "يا ريس"، عرف بكلمة "بابا" بالصدفة حينما كنت أسأل سكرتيره: "هل وصل بابا مكتبه؟"، فسمعته يناديني من مكتبه "آه وصلت .. انتي بتقولي عليا بابا؟ تسلمي يا جميل". تعلمت منه المعني الحقيقي للصحافة، تعلمت منه كيف يكون الصحفي خلوقا، كيف أستخرج عنوانا يجذب القاريء، تعلمت منه الكثير والكثير في الحياة قبل الصحافة، تعلمت منه الصبر، وحب الناس، والأهم التواضع. عشت معه كيف يصنع كتابه بنفسه، حتي في تصميمه وترتيب فقراته وكل شيء بيده الجميلة، عشت معه كيف يكتب مقالاته وكيف يعود إلي مراجعه دون خجل كلما التبس عليه تاريخ أو اسم، عشت معه كيف يبحث وسط مكتبته عن كتاب بعينه وكيف يتذكر حتي شكل غلاف الكتاب رغم أنه صادر من عشرات السنوات، عرفت كيف يعشق القطط، لدرجة أنه عنفني يوما لأنني أري القطة جائعة ولا أعيرها اهتماما. كان يخرج علينا في صالة التحرير يوم "الأحد" - وهو يوم تجهيز العدد للطباعة - ليداعبنا جميعا دون تفرقة بين محرر وفني، الجميع يحبه والكل ينتظر خروجه بابتسامته الوقورة ليلقي علينا تحية الصباح أو المساء.. حقا إنه "الجميل صلاح عيسي".. وها أنا أسبح في بحر صلاح عيسي منذ أول يوم التقيته وحتي اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات التي لن تفيه حقه.. أطال الله في عمرك يا أبي.