«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خمسون عاما علي رحيل بديع خيري
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 05 - 2016

لم يكن يعرف الأب التركي الذي نزح من الدولة العثمانية إلي مصر عام 1890 ،أن مولوده الوحيد من زوجته المصرية الذي استقبل صرخاته الأولي في 18 أغسطس 1893،سيكون هو لسان المصريين ،ولسان حال الثورة وروح الرؤية الشعبية ،والتي تجسّدت في أزجال وأشعار وسيناريوهات وأعمال مسرحية وسينمائية عديدة علي مدي نصف قرن كامل.
شكل حي المغربلين ومقاهي الجمالية والبغّالة والإمام الشافعي وجدان وانتماء وإبداع بديع خيري الذي يقول في مذكراته:
" أنا ابن شارع المغربلين" وقد اصطبغت شخصيتي منذ نعومة أفكاري بالصبغة الشعبية ،وكنت أقضي وقت الفراغ كله بين مقاهي الجمالية والبغالة والإمام الشافعي، استمع لغناء الربابة ،وقص وإنشاد الشعر الشعبي ،واستعرض في نفس الوقت ما تزخر به هذه المقاهي من ألوان الناس وصور الحياة كانت المقاهي هي مدرسة بديع الأولي الكبري في التأليف المسرحي ،فقد كان يجلس عليها أناس من بلدان شقيقة جاءوا للدراسة أو التجارة أو السياحة، فحفظ لهجاتهم العربية ،بالإضافة إلي اللهجات المصرية من الوجهين القبلي والبحري «.
بدأ الدراسة بالكتّاب، ثم مدرسة أم عباس الابتدائية ،ثم الحلمية الثانوية وانتهي بالمعلمين العليا .
نظم في سن الثالثة عشرة أول قصيدة شعرية عن عقيدة الحزب الوطني ،ووقعها "ابن النيل "وأرسلها إلي جريدة الأفكار الأسبوعية ونشرت ،ومن فرحة بديع اشتري ثلاثين نسخة من الجريدة ووزعها علي الأهل والخلان ،ثم كرر النشر بعد ذلك باسمه صراحة ، وأرسل إلي جريدة المؤيد قصيدة علي خلفية اختيار صاحبها الشيخ علي يوسف أول رئيس لجمعية الهلال الأحمر بعد تكوينها ،وانتشر اسم بديع في جرائد أخري مثل "مصر" و"الوطن " و "العلم"، ولاقت أشعاره من هذه الجرائد الترحيب ،وبدأت تنشر علي صفحات الأهرام والمقطم ،والأفكار ،والمؤيد، وكانت هذه الصحف من أوسع الصحف انتشاراً في ذلك الحين .
كل هذا لم يرض طموح بديع فكتب للمرحوم الشيخ علي محمود قصيدة أقرب إلي التواشيح الدينية تحت عنوان "في الغزل" كان الناس ينظرون إلي الزجل نظرة الازدراء والاستهانة مثلما كانوا ينظرون إلي الزجالين آنذاك ،فقد كان هذا العصر هو عصر الشعر، فبعد استقرار بديع في وظيفة التدريس انتابته هوية نظم الزجل ،فكتب أول أغنية زجلية في عام 1915 كان مطلعها :
إكمنه شايف روحه قمر
والناس عشقاه
تقلان عليه ومهما أمر
أنا روحي فداه
فثار عليه الزجالون، واتهموه بأنه شاب عابث بالقيم الزجلية ،وذلك لأن بديع أراد التجديد ،فكتب الزجل الواحد علي أوزان مختلفة .
عقب الحرب العالمية الأولي بدأ "سوق" الزجل في الانتعاش ،وتباري الزجالون في إلقاء المنولوجات عن الحوادث التي كانت تتوالي علي البلاد.
عندما حاول بديع أن يخوض تجربة التمثيل وتم امتحانه من فرقة "جورج أبيض" قال له جورج وفق ما جاء في مذكرات بديع: "شوف لك شغلة تانية غير التمثيل...وساق لي القدر هذه الشغلة الثانية ، التأليف المسرحي" .
هذه"الشغلة" كانت السبب في تعرفه بنجيب الريحاني ،وارتباط نجيب به مدي حياته ،وارتباط بديع بذكراه مدي حياته.
كتب بديع خيري أول منولوج له عام 1917 للمنولوجست فاطمة قدري ،وكان مطلعه
ليلة العيد كنت مخدر
في ميدان عابدين ماشي اتمختر
وانتشر هذا المنولوج انتشار النار في الهشيم ،وأفسح لبديع مكاناً في عالم المسرح ،ووقف هذا المنولوج علي قدميه ،إلي جانب المنولوج التراجيدي "نابليون" الذي كان يلقيه الكاتب الممثل الهاوي"محمد تيمور" والمنولوج الفكاهي "هشتكوه" الذي كان يلقيه ممثل آخر آنذاك وهو "يوسف وهبي" .
كان نجيب الريحاني وقتئذ في أوج عظمته ،وكان يمثل علي مسرح "الإجبسيانا في شارع عماد الدين ،وكان مؤلف الفرقة "أمين صدقي " يقدم لها المسرحية ،ويتقاضي أجرها دون مسئولية عن نجاحها أو فشلها ،حتي مثلت الفرقة روايته "حمار وحلاوة " وقدر لها نجاح ضخم ،أغراه بأن يطلب من الريحاني بتعديل طريقة تعامله معه وطلب اقتسام الأرباح معه فرفض، وأخذ الريحاني يبحث عن مؤلف لفرقته .
في ذلك الوقت كان بديع يعرض مسرحيته الأولي "أما دي حتة ورطة" التي ألفها لفرقة نادي التمثيل العصري .
وفي إحدي الحفلات النهارية دخل عليهم في الكواليس أحد أعضاء النادي "جورج شفتشي" وكانت مهمته أن يرتدي بدلة سوداء أنيقة ،ويضع في عروة سترته شارة حفلات ،ويقف علي باب الصالة يستقبل المدعوين ،وقال في انفعال و ارتباك :
عارف مين ح يتفرج علينا الليلة ؟
مين؟
نجيب الريحاني
مش معقول ، نجيب يتفرج علي جماعة زينا .
لازم عاوز يشجعنا كهواة ومش هيقعد أكتر من 10 أو 15 دقيقة .
ولكن نجيب بقي ليلتها إلي آخر المسرحية .
وسأل جورج شفتشي عن مؤلف المسرحية بعد إبداء إعجابه بها ،فقال له شفتشي إنه هو المؤلف (فقد كان بديع يخفي اسمه خشية أن يفقد وظيفته الحكومية ).
اندهش الريحاني لذلك وخاصة أن لغة جورج نفسها سورية ولا توحي بأن في استطاعته أن يؤلف مسرحية بالعامية.
وطلب الريحاني من شفتشي أن يكتب له لحناً عن "جماعة أعاجم "وكتب بديع اللحن ومطلعه
إحنا يا فندم تجار أعاجم
جينا من شان نبيعوا بضاعة تمام
قدمها "جورج شفتشي "للريحاني علي أنها من تأليفه وكان الوحيد الذي يعلم هذه الحقيقة هو صديق لجورج وكان اسمه توفيق ميخائيل ،الذي حدث أن وقع سوء تفاهم بينه وبين جورج ،فذهب وأخبر الريحاني بالحقيقة ، فطلب نجيب أن يقابل الريحاني .
ويقول بديع: " أخذت اتصور كيف تكون هذه المقابلة ، طبعاً سأدخل علي السكرتير أولاً ، ثم يدخل السكرتير علي نجيب الريحاني ..وعندئذ كيف أواجهه؟ ..كيف أقف أنا الصغير البسيط أمام العملاق الكبير ...
ولأول مرة في حياتي وأنا ابن البيت المحافظ وحي المغربلين المحافظ جداً أن أشرب كأساً يشدّ أوصالي ...وشربت كأس نبيذ .
وعندما ذهب بديع للمسرح لمقابلة الريحاني لم يجد سكرتيرا ولا أبوابا مقفلة ، بل رأي نفسه أمام نجيب الذي كانت حجرته في غاية الهرجلة ....
اتفقا وكتبا أول عقد بينهما في 18 أغسطس 1918، وكان هذا اليوم من عجائب المصادفات لأنه نفس اليوم الذي ولد فيه بديع 18 أغسطس 1883.
وبدأت رحلة بديع مع نجيب كمؤلف لفرقته ،وقدم بديع مسرحيته الأولي " علي كيفك" ثم المسرحية الثانية " كله من ده" ،التي كانت بطلتها المطربة فاطمة سري ،ثم استقال من خدمة الحكومة وانقطع للتأليف المسرحي وأعلن اسمه كمؤلف للرواية الثالثة "استعراض 1919-1920" الذي كان يعرض أحداث 1919البارة والأحداث المنتظرة في 1920 علي ضوء أحداث 1919.
في نفس الوقت الذي صعد نجم "بديع" فيه ، كان نجم آخر يرسل أشعته ويلمع في سماء الإبداع ،وهو سيد درويش الذي ترك كوم الدكة، وشد الرحال إلي القاهرة مصطحباً معه أمه التي كانت لا تفارقه .
وجد سيد درويش الناس في مصر ترتسم علي وجوههم الكآبة والحزن من آثار الدمار الذي لحق بهم من جراء الحرب العالمية .
قرر أن يستقر في القاهرة فسكن سكناً متواضعاً في حارة النصاري ،وبدأ يتعامل مع كبار الفنانين، فلحن لجورج أبيض أوبريت "فيروز شاه"،وهذا الأوبريت مثل فتحاً مختلفاً في التلحين العربي .وعندما ذهب بديع لمشاهدة "فيروز شاه" وجدها عملا غنائيا مسرحيا رائعا ،وأصابه الانبهار البالغ. فلم يتمالك نفسه واقتحم باب الممثلين وعندما منعه البواب قال له: "أنا عاوز سيد درويش ، قول له بديع خيري" .
استقبله سيد درويش بالأحضان والتقبيل كما لو كان بينهما صداقة مر عليها سنوات طويلة ،وقال له:
-لا تستعجب فأنا أعرفك من كتاباتك
- كتابات إيه؟
- الحاجات الحلوة التي تنشرها في مجلة السيف والمسامير.
احنا متصلين بالروح والقلب ... عارف الكلام اللي قولته عن السودان "دنجي دنجي"... رحت ملحنه علي طول وبأغنية في القهوة في كوم الدكة .
وقرر سيد درويش أن يسمعه الجن في تلك الليلة ،وطلب من بديع أن يأخذه إلي مكان به بيانو ...وخرجا معاً إلي الشارع وذهبا إلي بيت الممثلة "إحسان كامل "الأرمنية الأصل في الزيتون وعزف علي البيانو "دنجي...دنجي" .
وقدر لهذا اللحن أن ينتشر إلي الحد الذي كان سعد زغلول في حفلات الوفد السياسية يطلب إنشاده .
وهكذا بدأت رحلة الثالوث الذهبي " بديع خيري ،سيد درويش، الريحاني "معاً ...بداية الألحان الوطنية وعقدت بينهم رابطة وثيقة ،ويذكر بديع في مذكراته أن سيد درويش كان يطٌب عليه في أي ساعة وربما في الفجر ، ويوقظه من النوم ويقول له:قوم نشتغل ويكون قد اختار قالباً للحن علي إثر سماعه لنداء بائع سريح مثلاً ، فيطلب منه أن يصوغ الكلمات المناسبة له .
لقد وجد كل من بديع وسيد درويش كشاعر وموسيقار من خلال تعاونهما معاً مجالاً غنيا وخصبا لشحذ الهمم والعواطف الوطنية ،فقدما أغنيات واستعراضات مسرحية للعامل والفلاح وابن البلد والموظف ،أغان وألحان تعالج أوضاعهم من الناحية الاجتماعية والسياسية ،تستعرض آلامهم ومخاوفهم وشقاءهم ،فلحن الصنايعية،أصبح لحنا مميزا ومشهورا جدا ،يعزفه الملحنون في حياة خيري وسيد درويش.
الحلوة دي قامت تعجن في البدرية
والديك بيدن كوكو كوكو في الفجرية
ياللا بنا علي باب الله يا صنايعية
يجعل صباحك صباح الخير ياسطي عطية
كان تأثر بديع خيري بالأحداث الوطنية عميقاً ، فقد كتب نشيد "قوم يا مصري" الذي ظهر في غضون ثورة 1919 الذي لحنه سيد درويش
قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك
خد بنصري نصري دين واجب عليك .
وأوبريت "العشرة الطيبة" الذي قام بتأليفه الروائي محمد تيمور ،وكتب أغانيه بديع خيري ، ولحنه سيد درويش ،وأخرجه وشارك في تمثيله عزيز عبيد، قدمته فرقة الريحاني في 11/3/1920، يمثل نقطة تحول من الاستعراض إلي الأوبريت ،وكان موضوعه تصويراً لما كان عليه حكم الأتراك والمماليك قديماً ،وقد احتوي علي تصوير كثير من العجرفة والتحكم والسخرية بحكام هذه العهود ،وثار لذلك ثائرة الكثيرين ممن ينتمون إلي تلك الأسر بالقرابة والنسب، مما نشأ عنه توقف عرضه إلي حين ،وقد أدي العشرة الطيبة إلي إفلاس الريحاني ، فقد بلغت نفقات المسرحية وقتذاك ثلاثة آلاف جنيه ،وعلي إثر هذا الفشل انحلت فرقة الريحاني وواجه بديع خيري وسيد درويش أزمة مالية حادة .
فرجعوا إلي مسرح الإجيبسيانا وقدموا المسرحيات الاستعراضية مرة أخري .
وفي فجر اليوم الخامس عشر من سبتمبر عام 1923 رحل الفنان سيد درويش ودفن في مقابر المنارة بالإسكندرية . ولم يشيع بموكب يليق به فقد شيعه زمرة ضئيلة إلي القبر وفقد بديع رفيق الإبداع والوطنية.
في سبتمبر 1924 سافر نجيب الريحاني وفرقته إلي البرازيل ،فكتب بديع خيري للفرق الأخري حيث عرضت له فرقة الكسار مسرحية "الغول "،وطلب بديع خيري من الكسار أن يخفي اسمه حرصاً علي شعور أمين صدقي مؤلف فرقة الكسار وشريكه ،لكن أسلوب بديع كانت لا تخطئه العين ولا الأذن فسرعان ما علم الجميع أن "بديع" هو مؤلف المسرحية .
وفي العام نفسه كونت منيرة المهدية فرقتها من جديد وأسندت إلي بديع خيري تأليف جميع مسرحياتها،وكانت تستعين بالملحن الكبير داود حسني .
عندما عاد الريحاني في 25 أكتوبر كان بديع منشغلاً بتأليف أوبريتات الكسار ،كون مع المؤلف أمين صدقي في ديسمبر 1925"فرقة الريحاني وصدقي" وعملا معاً علي مسرح دار التمثيل العربي .
لم يقف بديع خيري عند حد كتابة أزجال وأشعار بالمسرحيات ، بل أصدر مجلة "ألف صنف" في 23ديسمبر 1925 وهي مجلة اجتماعية ثقافية أصدرها بالعامية واهتم فيها بالحركة الزجلية ،وخلق شخصيات أفرد لها أبوابا ثابتة مثل: مشكاح وريمة وزعيط ومعيط والشيخ بعجر ،ماميش أغا، ومصطبة العمدة ،والأدباتي وساعة لقلبك .
وفي يناير 1926 أصدر مجلة سياسية هي "الغول" وكان أهم أبوابها (جولة في المنام)التي كان يعرض فيها بالسياسيين في عصره ،وكانت جميع المقالات والأزجال المنشورة في مجلة الغول" بدون توقيع ".
وعاد الريحاني للعمل مرة أخري مع بديع خيري في عام 1926، لأنه لم يحقق النجاح بدون "بديع"وفشل مشروعه مع أمين صدقي وفشل مع بديعة مصابني عندما ذهب معها إلي الإسكندرية وكونا فرقة باسمهما معاً ،وخرج الريحاني مفلساً من هذه التجارب.
عاش بديع خيري مع الريحاني يقتسمان الثراء ويقتسمان الفلس عندما تضن عليهما الحياة. فلم تكن كل أيامهما رخاء.
قام محمد محمود باشا بمصادرة مجلة الغول سنة 1929،وعطل محمد محمود باشا "ألف صنف" وفي 1930/8/10 أصدر بديع خيري جريدته "النهارده" ،وهي جريدة يومية هدفها الأساسي الجهاد من أجل الدستور ،ولم تستمر الجريدة طويلاً إذ صادرها إسماعيل صدقي بعد صدور عددها الثامن في 1930/8/17،وعادت "ألف صنف" للظهور مرة أخري في 1930/8/19 واستمرت حتي 1931/2/17وعطلها نهائياً إسماعيل صدقي.
وفي عام 1937 أصدر مع محمود طاهر العربي جريدة الاستقلال والتي كان شعارها البناء والتجويد والعمل علي تدعيم الإستقلال ،إلا أن اسم بديع خيري رفع من الجريدة .
كما كان بديع يكتب في مجلة روزاليوسف الأسبوعية بدون توقيع، فقد كتب 1930/3/17 تحت صورة كاريكاتيرية تصور محمد محمود باشا ،وزملاءه المستقلين من الوزارة وهم يلبسون ملابس الحداد حزناً علي فراق الحكم وحسداً للوفد الذي انتصر:
"أحيه يا دنيا يا كدابة يا مسقطة محمد محمود ...يا مبكيانة بندابة في الأربعين يوم السود صحيتي زملاءه غلابة ... فوق الحيطان بوزهم ممدود ولا شغلة ولا كرسي نيابة وكل باب يلاقوه مسدود ...أحيه....أحيه....."
في عام 1933 كتب بديع خيري لفرقة بديعة مصابني مسرحية "البريمو " ومسرحية "أما ورطة" ومسرحية "عريس الغفلة" ،وعرضت فرقة الكسار لبديع خيري مسرحية "هانت" ،وفي نوفمبر من نفس العام عرضت له مسرحية "يا بنت الإيه" ،كما عرضت له أيضاً مع فرقة منيرة المهدية في سبتمبر العام نفسه مسرحيتا "عامللي فالح" و"جوازة بالمحضر" ،أما فرقة الريحاني فقدمت له مسرحيتي "الشايب لما يدلع " والدنيا لما تضحك" وكانت المنافسة بين المسرح التراجيدي والمسرح الكوميدي قد بلغت أشدها في هذا العام وتوالت مسرحيات بديع .
السينما
في عام 1939كتب بديع خيري حوار فيلم "العزيمة "، فبديع أول من كتب للسينما في مصر كتب لها صامتة وناطقة ،وكان يكتب القصة والسيناريو والحوار والأغاني .
ومن أفلامه الصامتة "المندوبات "أما أفلامه الناطقة فهي بالمئات فقد كانت جميع الأفلام المصرية الأولي من كتاباته .
كتب بديع 60 سيناريو فيلم سينمائي وكتب لها الحوار والأغاني .
ذات يوم بينما كان بديع يسير هو والريحاني في حي العباسية . ،إذ استدعي انتباههما لافتة علي واجهة متجر ، وقد كتب عليها "مستودع الأمانة لصاحبها ل. أنجر وص عثمان" فقال بديع خيري للريحاني ألا تري أن عنوانا كهذا جدير وقد لفت أنظارنا نحن أن يلفت إليه كذلك أنظار الناس، فيما لو أطلقنا مثله علي مسرحية اجتماعية ،نعالج فيها ذلك الاتجاه الذي يوفق بين مختلف المعتقدات في سبيل التآخي من أجل العيش ؟ وعلي الفور أجابه الريحاني : "وكم يكون أجمل وأروع إذا أضيف إلي الشريكين المسلم والمسيحي شريك آخر يهودي ".
ومن هنا جاءت فكرة مسرحية " حسن ومرقص وكوهين "والتي عولجت للسينما فيما بعد ،وقد أحدثت هذه المسرحية آنذاك ضجة كبري ،حيث اعترض عليها الأزهر وبطريرك الأقباط الأرثوذكس والحاخام الأكبر ،وطلبوا تغيير الأسماء ،فأجابهم بديع أن هذه الأسماء من الحياة ومن أصحابها ،مجرمون ومجانين وأغنياء وفقراء ، ولا معني لهذا الاحتجاج ، وعرضت المسرحية في مارس 1943 .
وفي الفترة من 1946 إلي وفاة الريحاني في 8 يونيو 1949 لم يقدم بديع خيري نصوصاً جديدة ، كما توقف بديع خيري عن التعامل مع الفرق الأخري . واعتمدت فرقة الريحاني في عروضها علي المسرحيات القديمة .
كون بديع فرقة سماها "الريحاني" تخليداً لصديقه الريحاني .
في عام 1960 تعرض بديع خيري لأزمة صحية اضطر معها الأطباء إلي بتر أصابع قدمه اليسري وذلك لإنقاذه ولم يمنعه ذلك من الكتابة ، وفي هذه السنة أيضاً فقدت الفرقة مخرجها عبد العزيز أحمد فتولي "عادل خيري" الأبن الأكبر لبديع مهمة الإخراج بالإضافة إلي بطولة أدوارها ووصل عادل إلي قمة نجاحه في مسرحية "إلا خمسة" .
لكن القدر لم يمهل عادل مواصلة نجاحه ففي 1963/5/25 اختطفه الموت وتأثر بديع بذلك تأثراً أضني أعطافه .
فلقد كان الموت يقف بالمرصاد مرة أخري بينه وبين رفيق كفاحه الفني ...وفي المرة الأولي فقد نجيب الريحاني وهذه المرة فقد ابنه عادل ،و خيم الموت علي مسرح الريحاني.
بعد موت عادل أصبحت الفرقة بدون بطل فتقدم فريد شوقي وحسن يوسف ليقوما بأدوار البطولة ،وأعاد فريد شوقي تقديم المسرحيات التي قدمها الريحاني .
وفي فبراير 1966 رحل بديع خيري بعد أن ترك لنا ارثا فنيا خالدا ،197 أغنية ،و135 مسرحية كتبت في الفترة ما بين 1918 -1965 منها 90 مسرحية لفرقة الريحاني ،و29 مسرحية لفرقة الكسار ، 8مسرحيات لفرقة منيرة المهدية ، و8 أخري لفرقة بديعة مصابني ،والعديد من الإعلانات الزجلية والمقالات الحوارية والنقدية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.