المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: إسرائيل ارتكبت 26 مجزرة دموية في غضون 48 ساعة    رؤساء النواب الأردني والبريطانى يؤكدون ضرورة وقف الحرب على غزة وإنفاذ المساعدات    مواعيد مباريات اليوم الخميس في بطولة الكأس الذهبية    محمد شريف: وقعت للأهلي 5 سنوات ووسام أبو علي رقم واحد في النادي    40 حكما يجتازون اختبارات الانضمام لدورة الحصول على رخصة تقنية VAR    أمريكا تتأهل لنهائي كأس كونكاكاف بثنائية في جواتيمالا    انتداب الطب الشرعي لمعاينة جثامين الأطفال الثلاثة بالمنيا    وما زال الحر مستعرا، حالة الطقس اليوم الخميس 3 - 7 - 2025    محكمة أمريكية تقرر الإبقاء على مغني الراب "ديدي" رهن الاعتقال    صبا مبارك تدافع عن شيرين عبد الوهاب: "لما بسمع صوتها بدمّع.. وهي أسطورة حقيقية"    البلشي: لست مسؤولًا عن تظاهرات أحمد دومة على سلم نقابة الصحفيين    الأمم المتحدة: نحو 85% من أراضي غزة تحت أوامر نزوح أو ضمن مناطق عسكرية    الخارجية الأمريكية: واشنطن لن تتكهن بموعد اتفاق وقف إطلاق النار في أوكرانيا    قوات الدفاع الجوى السعودي تدشن أول سرية من نظام "الثاد" الصاروخي    "القائمة الوطنية من أجل مصر" لانتخابات الشيوخ.. تضم 13 حزبًا وتجمعًا سياسيًا    بعد 12 عامًا.. الإخوان ترفض الاعتراف بسقوطها الشعبي والسياسي    عصام السباعي يكتب: مفاتيح المستقبل    محاضر الغش «بعبع المعلمين» في امتحانات الثانوية!    أيمن يونس يهاجم ترشيح عبدالناصر محمد لمنصب مدير الكرة في الزمالك    قناة mbc مصر 2 تذيع مباراتين في ربع نهائي كأس العالم للأندية 2025    ترامب: حالات عبور المهاجرين غير الشرعيين الشهر الماضي هي الأدنى في تاريخ الولايات المتحدة    النساء على رأس المتضررين ..قانون الإيجار القديم الجديد يهدد الملايين ويكشف غياب العدالة الاجتماعية    تريلا تدهس 7 سيارات أعلى الطريق الدائري بالمعادي.. صور    رئيس شعبة الدخان يكشف موعد تطبيق زيادة أسعار السجائر الجديدة    "المؤتمر" يدفع ب 5 مرشحين على المقاعد الفردية في انتخابات "الشيوخ" بالقاهرة    طارق الشيخ يكشف كواليس صداقته مع أحمد عامر..ماذا قال؟    مي عمر أنيقة ونسرين طافش بفستان قصير على البحر.. لقطات نجوم الفن خلال 24 ساعة    ملك أحمد زاهر تحتفل بعيد ميلاد والدتها: إحنا من غيرك دنيتنا تبوظ (صور)    هل الجنة والنار موجودتان الآن؟.. أمين الفتوى يجيب    فرنسا: وفاة طفل وإصابة 29 بسبب إسهال نجم عن تناول لحوم ملوثة    أجمل 10 أهداف فى مباريات دور ال 16 من كأس العالم للأندية (فيديو)    "الصحة العالمية" تطلق مبادرة لزيادة ضرائب التبغ والكحول والمشروبات السكرية    الأعداد المقرر قبولها ب الجامعات الحكومية من حملة شهادات الدبلومات الفنية 2025    تعرَّف علي قيمة بدل المعلم والاعتماد ب مشروع تعديل قانون التعليم (الفئات المستحقة)    زيادة كبيرة في عيار 21 الآن.. مفاجأة بأسعار الذهب اليوم الخميس بالصاغة (محليًا وعالميًا)    للمسافرين.. مواعيد انطلاق القطارات لجميع المحافظات من محطة بنها الخميس 3 يوليو    يكفر ذنوب عام كامل.. موعد صيام يوم عاشوراء 2025 وأفضل الأدعية المستحبة    المصري يكثف مفاوضاته للحصول على خدمات توفيق محمد من بتروجيت    إسماعيل يوسف: الزمالك ليس حكرا على أحد.. ويجب دعم جون إدوارد    مصرع عامل صعقًا بمزرعة دواجن في بلطيم بكفر الشيخ    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات الأخرى اليوم الخميس 3 يوليو 2025    محافظ سوهاج: تخصيص 2.15 مليون فدان لدعم الاستثمار وتحول جذري في الصناعة    سعر البطيخ والخوخ والفاكهة ب الأسواق اليوم الخميس 3 يوليو 2025    وفقًا للكود المصري لمعايير تنسيق عناصر الطرق.. استمرار أعمال التخطيط بإدارة مرور الإسكندرية    وزيرا خارجيتي الإمارات وغانا يبحثان هاتفيا العلاقات الثنائية    مملكة الحرير" يحقق رقمًا قياسيًا على يانغو بلاي ويتصدر الترند لليوم الثالث على التوالي    شاهد.. بهذه الطريقة احتفلت مادلين طبر بثورة 30 يونيو    3 أبراج لديها دائمًا حل لكل مشكلة    رابطة العالم الإسلامي تُدين التصريحات الإسرائيلية بشأن فرض السيادة على الضفة الغربية    "القيادة الآمنة".. حملة قومية لتوعية السائقين بمخاطر المخدرات بالتعاون بين صندوق مكافحة الإدمان والهلال الأحمر    أمين الفتوى: التدخين حرام شرعًا لثبوت ضرره بالقطع من الأطباء    إعدام المواد الغذائية الغير صالحة بمطروح    جاسم الحجي: قوة صناعة المحتوى وأهمية في عصر الإعلام الرقمي    مستشفى الأطفال بجامعة أسيوط تنظم يوم علمي حول أمراض الكلى لدى الأطفال    فريق طبي ينجح في إنقاذ طفلة مولودة في عمر رحمي بمستشفى في الإسكندرية    ما هي الأنماط الغذائية الصحية لمصابين بالأمراض الجلدية؟.. "الصحة" تجيب    هل "الدروب شيبنج" جائز شرعًا؟ أمين الفتوى يجيب    «الإفتاء» توضح حكم صيام يوم عاشوراء منفردًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا تموت الكاتبات كمداً ؟
معطف نازك الملائكة الذي تم تمزيقه
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 05 - 2016

عندما رحلت الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة في يونيو عام 2007 ، أقام المجلس الأعلي للثقافة ندوة تأبينية للشاعرة ، وأصدرت وزارة الثقافة بيانا تنعي فيه الكاتبة بشكل مؤثر، وذكر البيان بعضا من جهود نازك الملائكة في حركة الشعر الحديث منذ الأربعينيات حتي أن نضج ،وقدمت في ذلك كثيرا من الدواوين والدراسات النقدية المهمة، وفي ظل ذلك الاهتمام الذي أبدته وزارة الثقافة ،قرر السيد فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق آنذاك ،إنشاء مسابقة للشاعرات العربيات باسم الشاعرة نازك الملائكة ،وكانت هذه المبادرة جاءت وفقا لاقتراح قدمته في الندوة الكاتبة الروائية سلوي بكر ، وانتظرنا طويلا حتي تعلن الوزارة عن أي خطوات لتنظيم المسابقة ، ولكن الآمال كلها ذهبت أدراج رياح وزارة الثقافة ،واكتشف الجميع أن تلك المبادرة لم تكن إلا للاستهلاك المحلي والعربي ،مثل مبادرات كثيرة.قبل ذلك الرحيل الفعلي ،راجت عام 1990 شائعة قالت بأن الشاعرة نازك الملائكة ، قد رحلت عن دنيانا،بعد رحلة طويلة من العطاء الشعري والنقدي والأكاديمي ، ونشرت الصحف والمجلات أخبارا وصورا ومقالات ، وكتب صديقنا الراحل الشاعر حلمي سالم مقالا مؤثرا لينعي فيه الشاعرة الراحلة ، وذلك في مجلة »أدب ونقد«، ولكن عندما اكتشف الجميع أن الملائكة كانت علي قيد الحياة ، صمتت جميع المجلات والصحف، ولم تتقدم أي واحدة منها بأي اعتذار ، فقط كتب الكاتب الصحفي الكبير جهاد الخازن اعتذارا مؤثرا ،وذلك لتقديره مدي مهنية الصحافة،وإدراكه أن هذا الاعتذار هو بمثابة ردّ اعتبار لشرف المهنة ،وردّ اعتبار للشاعرة الكبيرة ، والتي تجاهلت كل الصحف التي نشرت خبر رحيلها الاتصال بها ،وللتأكد من صحة الخبر، أو من عدمه، مماجعل الشاعرة تمعن في عزلتها الكبيرة ،إذ أنها كانت قد أنهت آخر عمل وظيفي لها منذ زمن ،حيث كانت تعمل في قسم اللغة العربية بجامعة الكويت مع زوجها الدكتور عبد الهادي محبوب،وكانت تقطن في منزلها في منطقة »حدائق القبة« بشرق القاهرة
لم تكن هاتان الواقعتان ،اللتان حدثتا قبل رحيلها وبعده ، الأسوأ في مسيرتها ،إذ أنها تعرضت لأشكال كثيرة من الاستبعاد والتهميش والتشكيك في ريادتها ،حيث أنها كانت قد قادت الشعر العربي في نهايات الأربعينيات ،مرورا بالخمسينيات ،حتي أواخر الستينيات ،وبعد ذلك بدأت تستسلم لجميع الطعون النقدية التي توالت عليها.
وكنا في حلقات سابقة أبرزنا الموقف النقدي الذي كان سائدا عن شعرية المرأة ،واستعرضنا ماكتبه عباس العقاد في كتابه «شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي»، والذي كان قد صدر عام 1937، وقصّر أمر الشعرية علي الرجل ، مستبعدا بشكل قاطع قدرة المرأة أن تكون شاعرة ، وإذا أصبحت شاعرة ،فسوف تكتب في الرثاء مثلما فعلت الخنساء مع أخيها صخر ، ومثلما فعلت عائشة التيمورية مع ابنتها توحيدة ،وهن استثناءان نادران،وماعدا ذلك فلم تنجب الدنيا كلها علي مدي تاريخها أي شاعرة ذات شأن ، لأن المرأة لا تستطيع أن تتأمل مثلما يفعل الشعراء ، ولكنها هكذا حسم العقاد تصلح للقص والحكايات ، ومن المعروف رأي العقاد في الفرق بين الشعر والقص ،وكانت له جملة شهيرة يقول فيها :"ماذ يفعل قنطار من الخشب أمام درهم من الحلاوة»،حيث إن الخشب هو القص، والحلاوة هي الشعر، وكان القصّ يأتي في مرتبة دنيا جدا بالنسبة للشعر ،وقد خصّ العقاد فن القصة الأدني للمرأة.
ولاحظنا كذلك أن كثيرا من الأكاديميين لم يدرجوا المرأة بشكل قاطع في تاريخ الأدب العربي ،وبالتالي الشعر ،وكان أبرزهؤلاء الدكتور شوقي ضيف ،والدكتور محمد حسن ،وكانت كتب هذين الناقدين ، يتم تدريسها علي طلا ب الجامعات في القاهرة والأسكندرية ، وظلت هذه النظرة قائمة وفاعلة إلا قليلا ،مثلما فعل الدكتور محمد مندور في كتابه »الشعر المصري بعد شوقي«، والذي كتب فيه عن الشاعرة جميلة العلايلي ، وخصّها بدراسة في كتبه الثلاثة ،مثلما خصّ ابراهيم ناجي وعلي محمود طه وآخرين ،وربما جاء ذلك تأثرا بزوجته الشاعرة الكبيرة ملك عبد العزيز ،والتي أبدع لها نظرية »الشعر المهموس«،وهذا التأثير والتأثر حالة محمودة في الثقافة العربية بين الرجل والمرأة ،ومن الممكن في العلاقات الطبيعية بينهما يحدث ذلك التأثر العميق.
ولكن ماعدا ذلك ، كانت الدراسات النقدية ،والتي تتعلق بتاريخ الأدب، تتجاهل المرأة بشكل واضح ومجحف ومخل ،وفي تلك الآونة ، أي في مرحلة الأربعينيات ، أطلّت علينا الشاعرة نازك الملائكة ، والتي كانت خريجّ أسرة أدبية بامتياز ،فوالدها كان مدرسا للغة العربية ،وكانت تدور في صباها بينها وبينه حوارات كثيرة مثمرة ،وكانت لديه مكتبة عامرة بأمهات الكتب ، والتي كانت في متناول نازك طوال الوقت ، وكانت والدتها سليمة عبد الرازق ،وكان اسمها في العائلة »سلمي«، تكتب الشعر ،وتوقّعه باسم »أم نزار«،كذلك كان خالاها عبد الصادق الذي ترجم رباعيات الخيام ، وجميل الذي نشر ديوانا من الشعر عنوانه »إرادة الحياة« ،لهما اهتمامات واسعة بالثقافة والشعر والأدب ، كذلك خالتها إحسان الملائكة ، لها اهتمام بالغ مثل بقية العائلة.
أما عن دراستها ، فهي درست اللغة الإنجليزية واللاتينية ، ومنهما قرأت عيون الأدب الإنجليزي ،وتحدثت كثيرا عن الأثر الذي تركه ذلك الأدب في وجدانها ،وكانت بحكم التأثر الثقافي والعائلي تقرض الشعر ، ولكن ثقافتها الإنجليزية ،عرّفتها بالاتجاهات الأدبية الغربية عموما ،مما جعلها تجرّب الأشكال المتنوعة من الكتابة ،وملأها بالرغبة العارمة في تغيير شكل كتابة الشعر ، فكتبت قصيدتها الأشهر في تاريخ الشعر الحر »الكولير« بتاريخ 27 أكتوبر 1947،وأرسلتها إلي مجلة »العروبة« في لبنان ، ونشرتها المجلة في عدد ديسمبر عام 1947،ونشرت المجلة تعليقا للشاعرة علي القصيدة قالت فيه :»وكنت كتبت تلك القصيدة أصوّر بها مشاعري نحو مصر الشقيقة خلال وباء الكوليرا الذي داهمها ،وقد حاولت فيها التعبير عن وقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتي من ضحايا الوباء في ريف مصر وقد ساقتني ضرورة التعبير إلي اكتشاف الشعر الحر«.
ومنذ نشر تلك القصيدة ،راحت نازك تتربع مستريحة علي عرش الشعر الحر الجديد ، وكتبت لها مكانة ريادية لا يدانيها أحد ، وتوالت قصائدها بشكل ملحوظ في المجلات الأدبية ، وأصدرت ديوانها «شظايا ورماد» عام 1949، وكتبت له مقدمة ثائرة ،وشارحة فيها منهجها وثورتها أو تمردها علي الشكل الشعري القديم ،وتضمن الديوان قصيدتها البديعة »الكوليرا« ،والتي قالت فيها :
(سكن الليل
أصغ إلي وقع صدي الأنّات
في عمق الظلمة ، تحت الصمت ، علي الأموات
صرخات تعلو، نضطرب
حزن يتدفق ، يلتهب
يتعثر فيه صدي الآهات
في كل فؤاد غليان
في الكوخ الساكن أحزان
في كل مكان روح تصرخ في الظلمات
في كل مكان يبكي صوت
هذا ما قد مزقه الموت
الموت الموت الموت ياحزن النيل الصارخ مما فعل الموت!)
وتستمر القصيدة بوتائر مختلفة ، لتعطينا نازك شكلا جديدا من الكتابة ،ذلك الشكل الذي وجد أشكالا عديدة من الصدي ، والتأثير في كافة أرجاء العالم العربي ،وخرج من معطف نازك شعراء كثيرون ،وشاعرات كثيرات ، وراحت الحركة الشعرية لتنجب في مصر صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وكمال نشأت وغيرهم ،وفي لبنان جاء خليل حاوي وأدونيس، وفي العراق نفسها جاء الشعراء عبد الوهاب البياتي وشاذل طاقة وبلند الحيدري وبدر عبد الوهاب البياتي وشاذل طاقة وبلند الحيدري وبدر شاكر السياب.
وراحت نازك الملائكة تكتب الشعر، وفي الوقت نفسه تكتب الدراسات النقدية ، وهذا ما لم يفعله آخرون ، وفي عام 1954 نشرت دراسة في مجلة »الأديب« عنوانها »حركة الشعر الحر في العراق«، وقالت إنها أول من كتب قصيدة حرة في العالم العربي، هاجت عليها الدنيا كلها، وجاء كل واحد برواد كثيرين ،كانوا قد كتبوا قصائد حرة قبل نازك ،والأكثر من ذلك أقيمت لها محاكمات طويلة وعديدة ، مرة لمحاكمتها حول هذا الزعم، ومرات لأسباب أخري ، فها هو الناقد مصطفي عبد اللطيف السحرتي أصدر كتابا عام 1957 ،وبعد أن قام باستعراض بعض فقرات من أشعارها كتب قائلا ،»وهذه الشاعرة وإن بهرتنا بصناعتها الفنية وتقنيتها الجديدة المتحررة البارعة، إلا أنها تضيّع فنها في تجارب سلبية شرود ،غافلة أو متجاهلة المضامين الجديدة ، وما يضج به العصر من اتجاهات ،كالثورة علي وضع المرأة، والمناداة بتحررها، وطلب الأمن لها، وما إلي ذلك من موضوعات مما يدخل في نطاق الجنس المرهف،وأخشي أن أقول أن نازك تلقي الظلال علي فنها بهذه القتامة النفسية والتجارب السلبية«.
ولم يكن السحرتي ناقدا استثنائيا آنذاك، ولكن مأساة نازك أنها قالت بأنها أول من كتبت قصيدة الشعر الحر ،وكذلك هي التي أطلقت عليه تلك التسمية ، وهذا دفع ناقدا كبيرا، ذا تأثير بالغ في الثقافة العربية،وهو رجاء النقاش، ليردّ عليها قائلا: »والحقيقة أن هذا الكلام خاطئ، فنازك الملائكة من الناحية التاريخية لم تكن أول من فكّر في الشعر الحرولا أول من قدم نموذجا من نماذجه ، بل ولم تكن أول من أطلق عليه هذا الاسم ، فقد سبقها إلي ذلك كثيرون، والمحاولات في هذا المجال منذ بداية الثلاثينيات متعددة ، منها محاولة محمد فريد أبو حديد، في ترجمته »ماكبث« لشكسبير ، وقد أسمي أبو حديد محاولته باسم الشعر المرسل، وفيه تخلص من القافية الواحدة ، ثم ذكر النقاش عددا من التجارب والمحاولات الأخري لعلي أحمد باكثير في ترجمته لمسرحية »روميو وجولييت« لشكسبير كذلك ،وأيضا ذكر النقاش قصيدة لخليل شيبوب ،نشرتها مجلة أبوللو في الثلاثينيات، وهكذا راح النقاش يورد المثال بعد الآخر، لكي ينفي عن نازك شرف الريادة ،ذلك الشرف الذي حازته بامتياز، حتي بعد أن ذكر النقاش وغيره تلك المحاولات.
لماذا إذن الريادة؟، الإجابة في غاية البساطة ،لأن كل المحاولات التي ذكرها النقاش وغيره،لم تحظ بأي اهتمام في حينها ، ولكن تم استدعاؤها فقط ، للتدليل علي أنها لم تحظ بأسبقية الريادة ، ولكنها أي نازك لم تكن تعرف كما قالت في أحد حواراتها ،أن كل هؤلاء كانوا قد كتبوا قبلها ،ولكن قصيدتها تلك وما تلاها من قصائد ، حظيت باهتمامات بالغة ، كما أنها تركت تأثيرات ملحوظة في الحركة الشعرية العربية ، كما أنها راحت تعمل علي تأسيس الظاهرة بكتاباتها النقدية والنظرية ،منذ أن راحت تعمل جاهدة في مقالاتها بمجلة الآداب اللبنانية، كذلك كتابها المهم »قضايا الشعر العربي المعاصر«، والذي تناولته أقلام كثيرة فيما بعد ، ولكن لقي بعض الهجوم القاسي كذلك.
وإذا كان رجاء النقاش قد نفي ريادة نازك الملائكة للشعر الحر لأن هناك من كتبوا قبلها مثل خليل شيبوب ومحمد فريد أبو حديد وعلي أحمد باكثير ،سنجد أن جدالا واسعا قد دار من قبل ، حول المنافسة حول تلك الريادة بينها وبين بدر شاكر السياب، ففي كتابه »حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر« ، نفي كذلك الدكتور كمال خير بك تلك الريادة عن نازك ، وهذه المرة يحاول كمال خير بك أن يثبت الريادة للسياب باعتراف نازك نفسها ، إذ كتب يقول :»تشير نازك الملائكة في كتابها »قضايا الشعر العربي المعاصر« أنها كانت أول من نشر قصيدة »حرة« عام 1947،ولكنها تعترف في الكتاب نفسه أن بدر شاكر السياب قد نشر في الشهر ذاته مجموعة شعرية تحمل عنوان أزهار ذابلة تحتوي علي قصيدة حرة عنوانها هل كان حبا؟ ...ويستطرد خيربك قائلا :»هذه الملاحظة التي توردها نازك الملائكة إنما تدعم الأطروحة التي يكون بموجبها بدر شاكر السياب أول من كتب قصيدة الشعر الحر ،نظرا للمدة التي يستغرقها إعداد مجموعة شعرية وطبعها«.
من هنا يتبدي لنا عمليات الترصد السلطوي، والذي يحاول اختراع تأويلات وتحليلات واضحة المغزي، فما معني أن يحاول الراحل الكبير التفتيش في التاريخ من أجل الحصول علي قصائد لم يلتفت إليها أحد ،فقط ليثبت بأن الملائكة لم تكن رائدة ولا سابقة علي كل هؤلاء ، وما الذي يبرر ذلك الانحياز العجيب عند خير بك ، للسياب ،حتي يقول بأن مجموعة »أزهار ذابلة« ، من الطبيعي أنها أخذت وقتا كبيرا من أجل إعدادها،ولم تكن تأويلات خير بك ،ولا اكتشافات رجاء النقاش ،سوي نماذج من سيل من الكتابات النقدية التي راحت لتنزع ذلك المعطف الشعري عن نازك الملائكة ، ذلك المعطف الذي خرجت منه كل الأجيال الشعرية التي جاءت بعد ذلك ، رغم التباينات الواضحة.
وإذا كانت تلك الكتابات النقدية ،والتأويلات التاريخية ،حاولت انتزاع الريادة من نازك الملائكة ، فهناك كتابات أخري جاءت بعد منتصف الستينيات، لتطلق حملة شعواء علي نازك ، ربما كان أساسها منطلقا من مجلة »شعر « ، ويوسف الخال علي وجه الخصوص ،والذي هاجم كتاب نازك»قضايا الشعر العربي المعاصر« بضراوة ، ولكن الهجوم الأعنف، وربما الأذكي ،كان علي يد الراحل الكبير غالي شكري في كتابه »شعرنا الحديث إلي أين«، وقد أورد فيه أربعة اتجاهات أساسية ،وخصّ نازك الملائكة علي وجه التحديد بالسلفية الشعرية ، ووضع معها علي استحياء الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي ، ولكنه التمس لحجازي بعض محاولات مجتهدة ، يعمل فيها للخروج من تلك السلفية، وشنّ غالي شكري هجوما واضحا علي نازك الملائكة ،دون كل شعراء المرحلة ، لدرجة أنه امتدح بعض شعراء بائسين،لم يكونوا علي مستوي تجربة الشعر الحر ، كما كانت نازك، واتهم غالي شكري الملائكة بأنها تراجعت تماما عن بداياتها ،وأنها قد أفلست بامتياز، وليس لديها ما تقوله، وكأنه أراد أن يقول :»ليتها تصمت«.
وكانت نازك قد نشرت ديوانها «شجرة القمر» عام 1967، وكتبت مقدمة نقدية ، وأبدت بضع ملاحظات حول الاستسهال الذي كتب به بعض الشعراء ،لذلك فهي قالت ببعض القيود التي يمكن أن توجد في الشعر ، وفي العام نفسه نشرت الطبعة الثانية من ديوانها »قرارة الموجة«، وقالت فيه كلاما مثل ماسبق قوله في »شجرة القمر« ومن هنا تلقفتها الأقلام الحادة والقاسية ، فأضيفت إليها تهمة الرجعية والسلفية ،وفي العدد الوحيد الذي ترأس تحريره الشاعر صلاح عبد الصبور ، وصدر عام 1972 ،ونشر فيه قصيدة لنازك الملائكة ،بعثت رسالة إلي عبد الصبور، نشرها في مقدمة العدد كله ،وفيه تعلن الشاعرة عن بعض شجونها ،وبعدها ذهبت نازك إلي عزلتها الطويلة ،والفعل الإيجابي الأهم ، هو صدور أعمالها الكاملة عن المجلس الأعلي للثقافة ، في أربعة مجلدات ضخمة ، بغلاف رائع للفنان الكبير محيي الدين اللباد ، ورغم تلك المجلدات الضخمة ،إلا أن الملائكة لها كتابات كثيرة لم تجمع ولم تنشر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.