سرت في جسدي قشعريرة باردة لكني لم أستيقظ، فقط انتفض جسدي انتفاضة خفيفة- أو هكذا هييء لي- ضوء الشمس يُداعب جفنيّ رغم أنهما مغلقان علي عينين زائغتين، عدة أياد تعبث بملابسي، يدان تحرران أزرار قميصي، يدان تسحبان بنطالي وما تحته، يدان تضعان خرقة من القماش الأبيض الشفاف في محاولة لستر عورتي، ويدان تحاولان إخراج رأسي الكبيرة من فوهة البلوفر الصوف ذي الرقبة العالية الضيقة الذي اعتدت ارتداءه في الآونة الأخيرة لعله يفلح في تخفيف آلام الصدر التي صاحبتني لما يربو علي العامين أو يزيد قليلا. من فرط دهشتي، عجزت تماما عن إيراد تحديد دقيق لعدد الأيدي التي عبثت في جسدي أو تلك التي خلعت عني ملابسي أو هاتيك التي وضعت جسدي برفق علي طاولة معدنية باردة ذات فتحة واحدة في منتصفها، دون أن يجذب انتباه أحد صوت رأسي وهو يرتطم بحافة الطاولة، الشيئان الوحيدان اللذان أدركتهما أن تلك الأيادي تعمل بسرعة فائقة كأنها تتحين اللحظة التي ينتهي عندها عملها وأن الشفاه ظلت في حالتي بسملة وحوقلة تصلان إلي مسامعي بنبرة صوت هي مزيج من اللهاث والخوف والبكاء لايقطعهما سوي زفرات توحي بأن أصحابها يتأففون من رائحة عفنة تفوح من جسدي ويبدو أنها لاتصل إلي أنفي!!! البردُ القارس يدغدغ أوصالي، ويبدو أن أحداً لن يُكلف نفسه مشقة غلق النوافذ، وضع أصغرهم سناً وعاءً مليئاً بالماء قرب الطاولة، بدأ أكبرهم سناً ذو اللحية المُخضبة بالحناء بُرتقالية اللون أو هكذا صار لونها، بدأ في سكب الماء علي جسدي بدءاً من مفرق رأسي حتي أخمُص قدمي، انتفض جسدي بشدة من صدمة الماء البارد واستحال الدم في رأسي وسائر جسدي إلي كتلة من الثلج، بيد أن صاحب اللحية الكثة لم يلحظ انتفاضتي تلك أو لم يكترث لها- لستُ أدري- رغم علمه بأن الماء البارد يُسبب لرأسي صداعاً خبرته كطبيب -بالإقلاع عن تناولها والابتعاد عن الاستحمام بالماء البارد. ساعتان مرتا، بعدهما إنتهي كل شيء، جسدي ملفوفٌ في عدة رقائق من القماش الأبيض، تفوح من جنبات جسدي رائحة المسك والعنبر، وضعوني علي أول درج السُلم الهابط لأسفل حيث حدود مقبرة لايزيد اتساعها عن مترين علي أقصي تقدير، هالة من التراب والغبار تنبعث من فوهة المقبرة، صوت أدعية وأذكار وبضع آيات من سورة يس تصل إلي مسامعي خارجة من حنجرة يبدو أنها تيبست من فرط تدخين صاحبها. صرخت بصوت عال، ردد الصمت صوتي إلي مسامعي مصحوباً بحروف من أدعية صاحب الحنجرة المشروخة، ميزت رغم صعوبة الموقف أنه أخطأ في كلمة من إحدي آيات السورة التي يتلوها دون أن يستوقفه أحد، أعدت المحاولة كرة أخري، صرخت بصوت أعلي أشبه بفحيح الأفعي، لكن لاحياة لمن تُنادي، رفعت يدي وقدمي في عصبية بالغة لعل أحداً يُنقذني. حملوني برفق- أو هكذا حاولوا- ونزلوا بجسدي درجات السُلم شديدة الانحدار بعد أن ارتطم رأسي بالحائط أكثر من مرة، همستُ في أذن أقربهم إلي فهمي بأن وقتي لايسمح بهذا الهُراء، وأن أجندة مواعيدي اليوم مكتظة عن آخرها، وأن موعداً في البنك الذي يحتوي علي حساباتي قد حان للانتهاء من صفقة رابحة، لم يبد عليه أنه سمعني، عرضتُ عليه كل ثروتي، عرضتُ عليه وعرضتُ عليه، إلا أنه فيما يبدو قد أصيب بصمم مُفاجيء. وضعوني في التراب، أمال أحدهم جسدي جهة اليمين قليلاً، بدأ آخرون في غلق فوهة المقبرة مستخدمين الطوب والأسمنت، بكيتُ كثيراً حتي ابتلت قطع القماش البيضاء المحيطة بجسدي من كل جانب. قبل أن يضع أحدهم الطوبة الأخيرة التي بها يكتمل البُنيان الصلد ويُغلق الباب نهائياً إلي غير رجعة، أطلت من عينيه شبح ابتسامة وصوت ضحكة مكتومة. ملحوظة : بعد عشرين عاماً فتح القبر لدفن آخر فوجدوا جثماني وقد تحلل تماماً رغم طبيعة التربة الصخرية لكنهم وجدوا هاتين الورقتين لم تتحللا!!!.