"سرابيوم"، قرية مصرية صغيرة في منطقة القناة، تبعد حوالي أحد عشر كيلو مترًا عن مدينة الإسماعيلية، وكانت قريبة من محارق حرب أكتوبر 1973م، حيث يتبدَّي أتُونُ هذه الحقبة الزمنية نطاقًا زمنيًا تاريخيًا لأحداث رواية "سرابيوم" الجديدة، للروائي والقاص "محمود عرفات"، والصادرة مؤخراً عن سلسلة روايات الهلال. علي أن هذا النطاق الزمني لا يُعدُّ إلا بُؤرةً زمانية مركزية متوهجة، حيث نجد النطاق الزمني لأحداث الرواية مفتوحًا علي حُقَبِ التداعيات التاريخية للحرب حتي نهاية السبعينيَّات، ويُطلُّ علي تداعياتها في المجتمع المصري فيما بعد ذلك، ليصل إلي اللحظة الزمنية الممتدة لوقفة "دسوقي" الديمومية علي مصطبة الذكري، يواصل انتظار المجهول في لحظة زمنية لا نهائية، وعينه علي الشرق كما يحدد المؤلفُ نهايةَ البطل، الذي بدأ حياته مُخلَّصًّا مُحتَملاً، وانتهي ضحيةً مجهولة المصائر. تحاول هذه الدراسة استقصاءَ بعض المناطق المفعمة بالرموز والإشارات الغنية في فضاء التأويل، ونقتصر علي تناول نطاق دلالي يُعدُّ هو الأكثر تأثيرًا في السياق العام للسَّرد، وهو نطاق "دوائر الفقد والغياب". ملخص الرواية: تحكي رواية "سرابيوم" مأساة "دسوقي"، الذي تطوع بالقوات المسلحة عقب النكسة (1967م)، والتحق "دسوقي" بأحد التشكيلات القتالية في منطقة القناة، وشارك في ملحمة العبور، وذاق حلاوة النصر، وأمسك بأهداب أملٍ في غدٍ تشرق فيه شمس الحياة والحرية. غير أن الأحداث توالت موجعة مفجعة علي المستويين الذاتي والجمعي فبينما فَقَدَ البطلُ زوجتَه وحبيبتَه "رئيفة" -التي اختطفها جنود العدو- فقد بدأ الحلم الجمعي يتسرب بين أيامه، حيث اخترق العدو ثغرة الدفرسوار، واستطاع أن يضع النَّصرَ في حرجٍ لئلا يكتمل بتحقيق شروط النصر وأرباحه كما كان في أذهان المحاربين. تتوالي دائرة الكوارث الجمعية بتوجُّه السياسة المصرية نحو مهادنة العدو لمعادلات سياسية مجهولة، بعد عقد اتفاقية "كامب ديفيد"، ومعاهدة السلام. وكان الأقسي عليه هو موت مشروعه الذاتي الذي يتجسد في طلب الثأر ممن قتلوا وجودَه الحيَّ، فحرموه من الأهل والزوجة والابن الجنين الذي لم يره، أو لعله تجسيد آخر لموت الحلم الغضِّ. تحكي الرواية الكثير من مشاهد الحرب، وتعكس بقليل من المشاهد أهوالَها في الميدان، وفي الحياة المدنية. وتقوم البِنيةُ السرديةُ للرواية علي آلية التقطيع أو التشظِّي التاريخي، فلا تنبَسِطُ حوادثُها في تسلسلٍ ذاتيٍّ تصاعديّ، وإنما تتشظَّي الحوادث والمشاهد في غير نسقٍ منتظم، بحسب ما يري المؤلف من تداخُلاتِ تَلاطُمِ الذكرياتِ في النفس الخفية التي تقف وراء التاريخ، ترصده، وتُوجِّه دفَّةَ الاستدعاء التاريخي لصياغة المنظومة السردية للعمل. المشاهد المقطعة جاءت علي لسان ثلاثة أبطال مركزيين من شخوص الرواية الكثيرين، وهم: "دسوقي"، وأمُّه، ثم "متولي" شقيق "رئيفة". هذه التقنية في بناء الرواية عمَّقت الأجواء الدرامية الإنسانية للعمل، وساعدت علي بروز تعدد الأصوات الساردة، مع تضفير حكايا بقية شخوص الرواية بحكايا الأصوات المركزية التي تتبادل الحكي الصامت عبر آلية التذكُّر، وسرد المشاهد باعتبارها ذكريات انقضت ميِّتةً بوجودها الماديِّ العَينيّ، وبَقِيَتْ بين الحياة والموت في وجودِها الحِسِّي الذي لا يُفارقِ أعماق الباقين من شخوص الرِّواية. ويُهنِدسُ المؤلف المبدع "محمود عرفات" روايتَه بحيث تلتحم مستوياتُ الدلالة في شبكةٍ متقاطعة المسارات، وعلي نحو شديد التعقيد، ثم يُحيل بعض المسارات الدلالية علي مستوي سطح البنية السردية، ويُحيل المساراتِ الأكثر تعقيدًا إلي البِنَي التحتية لمنظومة السرد الشجري المتفرع في كل الاتجاهات. فعلي مستوي سطح البنية السردية يراقب "محمود عرفات" المشاهد بكاميرا عين الذكري، لا بكاميرا عين الرائي، حيث يحكي الساردون حوادث لا يعيشونها، وإنما يتذكَّرونها. وعلي مستوي سطح البنية نري المشاهدَ كما يراها ويُحسُّها الساردون، فيُوجِّهُون مساراتِنا الحِسِّيَّةَ في الاتجاه التأثيري الذي يُريدونه، فننقادُ معهم إلي حيث يقودوننا بين الأيام الماضية المستمرة التي تزول ولا تزول، وتدور في صيرورة الذكري، وديمومة الآلام، ثم تغوصُ بنا رويدًا إلي الأعماق. وعلي السطح نجد مشاهد من ميادين المعركة، ومشاهد من القُري المتاخمة للجبهة، والقُري البعيدة للفلاحين المصريين، ونشم روائحَ الدفء وأفران الخبيز، وعبق الحقول والمساجد وبخور أضرحة الأولياء. وعلي السطح نتهشم بين مشاعر الغبطة والفرح والنشوة في المشاهد المبكرة للحياة الأسرية لدسوقي ورئيفة، وبين مشاعر الألم واللوعة بعد فقدانها المريب فجأةً عن الوجود الحي في عالم الرواية، وإن بقيت في الأعماق هي الأكثر تأثيرًا في مسارات الحزن المتبقية في الرواية بعد غيابها الفجيع. ولكن "مصطبة دسوقي" تحتل موضِعَها المركزيَّ في المتن والحواشي، فإليها ينتهي مصير البطل المحارب، جالسًا علي منصة الذكريات، حيث هذه المصطبة كانت مسرحًا من مسارح الأحداث، ومنصَّةً من منصَّات مراقبة تحركات العدو، وتوجيه الضربات إليه، ثم أصبحت -بعد انتهاء الحرب باتفاقية السلام- طللاً لا قيمة له عند أحد، حتي أن الدولة تفكر في إزالتها، والتخلص منها. ولا يزال دسوقي يرفض مغادرة المصطبة بعد تقاعده من الخدمة عقب المعاهدة، ويهرول إلي قمتها مع شروق الشمس (كما في المشهد الافتتاحي)، ثم يظل يسكنها طوال اليوم حتي غروب الشمس (كما في المشاهد الأخيرة)، لتكتمل دائرة السَّرد عودًا علي بدءٍ، مطبوقة علي دائرة الفقد والعذاب، بكل ما تكتنفها من دوائر متوالية لا تنفك عن البؤرة الدلالية للأعماق، وهي "الحضور بين الفقد والغياب". وعليه لا نستبعد التشفيرات الدلالية المفعمة بالرموز في كل ثنايا الرواية، فما أوردناه سلفًا يؤكد قضية التشابك الدلالي الإنساني، بالرغم من أن سطوح السرد مفعمة بالمشاهد اليومية والعسكرية، علي جبهات القتال وفي الحياة المدنية، فإذن كيف نفضُّ هذا الاشتباكَ المُتساوِقَ المحبوكَ بين ما هو إنسانيٌّ، وبين ما هو تاريخيّ. لا شك أن العلاقة بين الذات الفردية والجمعية وبين التاريخ علاقة تلابُسِيَّة تلازُمِيَّة، ولكن مصائر الأبطال لابد وأن تدعونا إلي النظر في رمزية الشخوص والحوادث والمصائر، بل وإلي رمزية الأزمنة والأماكن. ألم تكن المصطبة هي المسرح الأول والأخير للسياق السردي، وكأن بنية الرواية تشير إلي "صِفرِيَّة" الزمن، أم تشير إلي اكتمال الدائرة، في إيهام بالكمال والتمام، بينما هي تُحِيلُ إلي الحصار وانسداد الحدود والآفاق. علي أنني أريد ألا أتجاوز الإهداء، والذي جعل منه "عرفات" عتبةَ التأويل لارتقاء مصطبة في أول المشاهد وآخرها. الإهداء يقول: (إلي رئيفة.. الحاضرة في الغياب)، وهذا يعني أن "عرفات" قد أراد أن يجعل من "رئيفة"، الشخصيةَ المركزيةَ الأهمَّ والأخطر، بكل ما للمرأة والزوجة والحبيبة من إحالات دلالية لا تنتهي. ولا أريد الإشارة لهذه الإحالات، مكتفيًا بالتدقيق في عبارة الإهداء، لنلحظ النعتَ الوصفِيَّ لرئيفة (الحاضرة في الغياب)، حيث تنحصر جملة الإهداء في مبتدأ وخبر يتواريان في قسرٍ دلالي- لهيمنة التابع الوصفي (النعت)، والذي يُملي علي الجملة القصيرة كلَّ تجلياتها الدلالية. وكأن هامشَ الجملة أصبح هو المتن، حيث صار التابعُ أهم من المَتبوعِ، وصارت مُكمِّلاتُ الإِسنادِ الخبريِّ أهمَّ من عناصر الإسناد. وعليه أجِدُ مما يُرضيني أن أربط ذلك بين هيمنةِ الدَّوالِّ الوجودية والإنسانية علي سائرِ الدوالِّ الظاهرة والرئيسة علي الأسطح، لتكون دلائلُ إشاراتِ الأعماق والحواشي أهمَّ وأكثرَ تأثيرًا وفاعليةً من دلائل المتن في كتلته النَّصِّية والسَّردية الظاهرة في المشاهد والأحداث. فنحن إذن- بين غياب لإشاراتٍ ودوال، وبين حضورٍ لإشارات ودَوال، بَيْد أنَّ جوهرةَ الدلالة (وتشير إليها رئيفة) هي الحاضرةُ (أي الحقيقة) في الغِيابِ (الذي هو الواقع ظاهرًا، والحلم باطنًا). إن تقديمَ الحُضورِ علي الغياب ربما يشير للونٍ من الأمل، وإلي حياة تتأبَّي علي الموت، بَيْدَ أنَّ حرفَ الجرِّ يُحيلنا إلي معني الظرفية، حيثما يكون المظروفُ هو "الحضورُ"، والظرفُ هو "الغِياب"، وهذا يعني انتصارَ الغِيابِ وهيمنتَه، حيثما يبتلع الغيابُ الحُضورَ، ويحتويه ويحيط به إحاطةَ دائرةِ الفَقْدِ المُستحكَمَةِ حول مصائر الأبطال. حضور الذكريات في دوائر الغياب: بنية الرواية القائمة علي التذكُّر، واستدرار الذكريات، هي في حد ذاتها مؤشر دلالي هو الأخطر لتأكيد تغُّول معني الفقد والغياب في المنظومة الدلالية للرِّواية، المعني الذي يتأكَّد بمصائر الأبطال مفردين ومجتمعين. فالأبُ دائمًا مصيرُه الغياب موتًا مبكرًا، أو قتلاً بأيدي زبانية العذاب الأرضيين ، وهم بصفة خاصة سفَّاحو الحروب، الذين لا يُفرِّقون بين المدني والعسكري. وغياب رئيفة كان شكلاً أكثر إيلامًا وقسوة من الفقد بالموت؛ حيث لا يعلم "دسوقي" إن كانت حيَّةً أم ميِّتة، وذلك أقسي مما لو انتهي مصيرها بالموت كسائر المفقودين من الأهل والأحباب، خاصة مشاهد قتل المطرودين من قُري القناة إلي "نفيشة"، قتلاً جماعيًا مجددًّا للمدنيين الأبرياء من النساء والأطفال (ص117-120)، بعد أن تم من قبل إعدام الرجال جميعًا في مذبحة سرابيوم (ص62-65). وليست رئيفة وحدها هي التي تغمدها هذا المصير من مصائر الفقد الأشنع من القتل، وإنما أيضًا- الجنين الذي سمَّاه أبوه بإبراهيم من قبل أن يولد، ليفقد الأبُ وليدَه إلي الأبد، ولا يعلم إن كان قد مات بأحشاء أمِّه إن ماتت قبل ولادته، أم قُتِلَ في أحشائها إن قُتلت، أم تراه وُلد إن بقيت أمُّه علي قيد الحياة، ولا نعلم مصيرًا له بعد ذلك، وأين هو الآن. كذلك نَجِدُ الفقدَ الجماعيَّ مصيرًا يترصَّد هذا المجتمعَ البائس، المحكوم عليه بالفقد بكل أشكاله الأليمة. فقد وجدنا رجال بلدة "سرابيوم"، يُساقون للإعدام الجماعي بِيَدِ جنود العدو، علي مرأي ومسمع من أبنائهم الذين كانوا جمهورَ المذبحة، في مشهد عبثي درامي موجع، يُعمِّق المأساة في أغوار النفس البشرية للمشاهدين من الأهل والأقربين، بحيث يستحيل علي الذاكرة النسيان، فتعيش كلَّ حياتها مذبوحةً بسكين الحدث، بكل ما فيه من القسوة والمهانة. كان ضحايا المذبحة من رجال القرية وشيوخها، تعميقًا لفكرة قتل الرجل والراعي والأب بشكل جماعي، وهو ما يحيلنا لإشارات دلالية خطيرة في أعماق السَّرد التاريخيّ المأساويّ، وكأنَّ المجتمعَ -الذي نشأ علي الاعتماد علي الذات الأبوية- قد فَقَدَ راعيه وسندَه، في يُتْمٍ جميعًا لكلِّ أهلِ القرية المنكوبة، وهو شكل هائل مروع لمعني اليُتْمِ الذي علمناه في الوعي المعرفي بأنه حالة فردية، فإذا بنا نجده يُتمًا جماعيًا، يتحول بتداعياته إلي شكل آخر من القتل الجماعي، حيثُما يُقتَلُ الضحايا اليُتَمَاءِ قتلاً ديموميًّا متكررًا بسكين الذكريات، أو يُقتلون قتلاً أبديًا باستحالة استدراك المأساة أو الانعتاق من قسوتها، حيثما تأبَّد الحدثُ المأساويّ، وتغوَّلت المرارةُ والحسرة، واستحالت عودةُ المفقودين من الغيب، وغاص المجتمعُ الإنساني في قرارة الوجيعة والانسحاق النفسي، بالحرمان من الراعي والسند الذي يظلل الجميع بالعطاء والحنان الأبوي المصري الخاص. هذه الديمومة المأساوية لليُتم، يؤكدها "محمود عرفات بقوله: "لم يُغادرني الإحساس بِاليُتم" (ص77)، ثم يواصل الحديث حتي يقول: "يتواري هذا الشعور وراء مشاغل الحياة، لكنه يصحو ليُطلَّ برأسه.. أحيانًا بدون مناسبة.. وأحيانًا بمناسبة. حين وقَّع السادات معاهدة السلام مع المفترين، هاجمني هذا الشعور الأليم. أعرف أنه صاحب قرار الحرب.. وأنه استند إلي بطولته وانتصارنا ليُنجزَ السَلام.. لكن أيُّ سلام؟". ولنا أن نتساءل عن ذكر السادات والمعاهدة في سياق الحديث عن اليُتم أكان ذلك إحالةً إلي أبوِيَّةِ الحاكم في الذهنية الجمعية المصرية بالذات، وهل كان هذا الموقف التاريخيُّ شكلاً آخر من أشكال التلويح بغياب هذه السلطة الأبوية عن واقع المنكوبين (؟).