دفء أنفاسها..!! رحت أسرع الخطي ، هرباً من تساقط الأمطار بغزارة ، تلك الأمطار التي ظلت تطاردني وحدي .. الصقيع الشديد ، جعل أسناني تصطك ببعضها البعض في تناغم مستمر ، مما دفعني أن أسرع الخطي .. بيد مرتعشة رحت أخرج المفاتيح .. أدخل الفاتح في عين الباب .. أدخل .. حيطان البيت الغارقة في نوم عميق تخرج أنفاساً شديدة البرودة .. أسرع إلي حجرتها .. أفتحها .. بعد أن نقرت عليها نقرتين ، إيذاناً بالدخول .. أجدها في انتظاري .. ابتسامتها تضئ الحجرة كأفضل قنديل .. أنفاسها الخارجة في بطء منتظم ، جعلت من الحجرة مدفأة سريعاً رحت أستنشق زفير أنفاسها ليتغلغل داخلي .. سريعاً تعود إليّ قوتي التي هربت ، ويستقيم عودي .. أنظر إلي ملابسي المبتلة ، أجدها قد جفت تماماً .. أرمي برأسي المثقل بهمومي اليومية فوق ركبتها .. تتحرك أصابعها الملائكية فوق رأسي ، وما استطاعت أن تطولها أصابعها من جسدي ، وهي تهمس بآيات الذكر الحكيم رويداً .. رويداً .. تزول آلامي .. أدخل الفاتح في عين الباب أدخل .. ماء المطر الذي تشربته ملابسي ، راح يتساقط من ورائي أسرع إلي حجرتها .. أفتحها .. عجباً .. أين هي ..؟! رحت أفتح أبواب البيت المغلقة ، ولم أجدها .. قلت لنفسي وأنا أرتدي ملابسي غير المبتلة : ربما في زيارة أحد جاراتها .. قفزت كالقطة فوق السرير ، في انتظارها ، وبجواري تجلس هديتها في عيدها السنوي .. ورغم أنني قد تلحفت ب ثلاث بطاطين ، ولحاف واحد إلا أن صوت اصطكاك أسناني الذي يكاد أن يسمعه الجيران لم يتوقف لحظة واحدة ، رحت أنفخ في كفي ، نفخات دافئة ، كثيرة متتالية ، كما كنا نفعلها في طابور الصباح ونحن أطفال أنفاسي الخارجة في سرعة متناهية ، جاءت نتيجتها صفراً .. غياب أمي الطويل قد أقلقني بشدة .. وجدتني أرفع رأسي عالياً .. رحت أحدق في ابتسامات ( أمي ) الدافئة .. المعلقة علي جدار الحجرة ، حبيسة بروازها الخشبي ، ذي الإطار الأسود الجانبي شديد السواد .. ينتفض جسدي ، انتفاضة تذكرني بموتها .. تسقط من عيني دمعتان دافئتان لتغرقا المكان . رنات ثلاث ..!! ولأنني دخلت مرغماً في تروس الحياة الحديدية التي لا ترحم ولأنني .. ولأنني .. ولأنني .. لذلك قلت لقاءاتي الأسبوعية بست الحبايب ، من ثلاث مرات أسبوعياً إلي يومين فقط ، هما السبت والجمعة ، الأول والآخر من كل أسبوع .. ولأنني .. ولأنني .. ولأنني .. صارت زيارتي لست الحبايب يوماً واحداً فقط ، هو يوم الجمعة حيث إجازتي الأسبوعية ولأنني .. ولأنني .. ولأنني .. ولأن عجلة الحياة لا يمكن سيرها بدون المجاملات ؛ لذا قد خصصت يوم الجمعة لمجاملة الأصدقاء ، ورؤسائي في العمل ولأنني .. ولأنني .. ولأنني .. صارت رؤية ست الحبايب مستحيلة إلا في الإجازات ، والأعياد الرسمية ، وفي آخر لقاء جمع بيني وبينها ، أفهمتها ذلك ، بالتفصيل الممل ، تبسمت بعدما تفهمت موقفي ، وبذات الأسلوب الذي يلين له الحديد ، كما وصفني ، وقد بصم بالعشرة سيادة المدير ، رحت أعرض عليها فكرة طرأت علي مخيلتي فجأة ، وهي أن أقوم ب الرن عليها ثلاث رنات يومياً في الصباح ، وعند الظهيرة ، وفي المساء ، وليس مطلوباً منها غير أن تبادلني نفس الرنات ، جلست أنتظر ردها الذي جاء سريعاً ، إرضاء لي كما تفعل معي ، ابتسامة ابتسامة لا لون لها، ثم راحت تقول : - يا حبيبي كل اللي يهمني سعادتك .. إنني ما قصدت من وراء هذه الرنات الثلاث المجزأة علي هيئة هذه الأحرف الثلاثة " أ.. م .. ي " إلا لشئ واحد لا ثاني له ألا وهو التأكد: هل أمي ما زالت علي قيد الحياة ..؟! ماتت ست الحبايب .. وأصبت بشلل نصفي من جراء المجهود العقلي والعضلي الزائدين ، من جراء ما أبذله يومياً ، هذا ما صرح به الطبيب وتباعد كل الأصدقاء .. وفي لهفة وشوق راح لساني يسأل زوجتي ما بين اللحظة والأخري : - فيه حد اتصل بي ..؟! تجيبني بنفس الإجابة التي لم تتغير ، منذ أن أقعدني المرض: - لأ .. لقد انقطع الاتصال ، إلا من ثلاث رنات يومياً ، اعتادت أن تأتيني من تليفون ست الحبايب ، الذي أوصت بدفنه معها. نور وجهها..!! إلي أمي التي برحيلها توحش كل جميل أمس .. الشموع الكثيرة التي اشترتها أمي؛ من جراء الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، راحت ترصها من حولي حتي أستطيع أن أستذكر دروسي .. رويداً .. رويداً .. تموت الشموع واقفة .. جن جنون أمي التي راحت تضرب كفاً بكف: - حتي الشمع اتغش وما عدش فيه بركة .. رحت أُهَدِّئ من روعها: - والله العظيم أنا شايف أذاكر أحسن من الأول يا أمي .. نظرت إليَّ في عجب، ثم تبسمت وراحت تقول: - طب إزاي بس يا بني .. وحتي تتأكد أمي من صدق كلماتي، وحتي يهدأ بركان غضبها المشتعل، اقتربت منها حتي لاصق جسدي جسدها، رفعت الكتاب الذي بين يدي عالياً حتي كاد أن يلاصق وجهها، عندئذ أضاء الكتاب بنور وجهها من بعد ظلمة. اليوم .. رغم عدم انقطاع التيار الكهربائي؛ إلا أنني لم أعد أري أن أستذكر دروسي. وحدة وتوحش..!! وبمجرد وصولي إلي دارها الجديدة ألقيت عليها تحية الإسلام خرج لساني من محبسه الطويل .. رحت أشكو إليها سوء حظي وقلة حيلتي .. وتوحش إخوتي معي .. وأسد دنياي الجائع الذي لم يزل ينهش لحمي دون غيري .. وعن حاجة أولادي إليها .. وعن شمس دنياي التي غربت ولم تعد تشرق من جديد .. وعن ............ وعن .............. وعن ............. أرهقتني شكواي .. توقف لساني .. عاد مرة ثانية إلي محبسه.. وجدتني أحدق النظر فيها .. رحت أنتظر ردها .. طال انتظاري، ولم تجب - لماذا لا تفتح جدتي الباب وترد عليك يا أبي ..؟!! - ........................ قالها ابني أحمد - لماذا لا ترد جدتي عليك يا أبت ..؟!! قلت والدموع تود الفرار: - هذا وقت القيلولة، وهي الآن نائمة يا بني قبلت قبرها الساخن وانصرفنا. صورتها..!! أطفالي يفترشون الأرض من حولي .. ملابس العيد تزداد بريقاً ولمعاناً .. كلما طلبت منهم الخروج للعب في الشارع مع باقي أطفال الحارة رفضوا بشدة .. أكتم حزني وهمي .. أطفالي الجالسون من حولي بملابس العيد يحدقون في صورة أمي الحاجة حليمة حبيسة بروازها الخشبي .. أكتم دموعي .. - لو أن جدتي معنا الآن لأعطتنا العيدية .. قالتها ابنتي الكبري مروة .. طأطأت رأسي في أسي .. - الله يرحمك يا ست حليمة .. تقولها رحمة أوسط أبنائي في ألم وحزن .. قلت في همس: - ألف رحمة ونور عليك يا أمي ..