في شهادته - حوارات مع دومينيك دي رو، قال غومبروفيتش عن نفسه: "أنا ظريف، مهرج، بهلوان، محرض، تقلب أعمالي الأمور رأسا علي عقب لتحقق المتعة، فأنا السيرك، الغنائية، الشعر، الهلع، الصراع، المتعة، الألعاب - هل تبغي المزيد؟ " ذهب ديفيد هولمبيرج إلي أن رواية غومبروفيتش "كوزموس" بمثابة دراما فلسفية مربكة تنكرت في شكل لغز عادي، رسم فيها عالما تشكله علاقات بعضها مفهوم والآخر عصي علي الفهم، هذا العالم مشغول بمحاولة تفسير سلسلة من الأحداث تتحدي المنطق. خلقت الرواية علاقات مليئة بالمعاني المحتملة بين أشياء لا وجود لرابط بينها. وعندما شرع فيتولد في تشكيل رابط بين فم النادلة المشوه وفم لينا - ابنة المالك - انتقل لمرحلة أخري بمقارنة الأفواه مع العصفور المشنوق. من المؤكد أنه لا يوجد رابط بين الأفواه والعصفور، لكن فيتولد لا يزال مدفوعا نحو فرض علاقة بين الإثنين، بل والتوصل إلي معان تتجاوز هذه الإجابة. بينما يري دوجلاس جلوفر أن اختيار غومبروفيتش لاسم الرواية لم يكن مصادفة، فهذا الكاتب السيريالي الحداثي بدا مصوبا سهام نقده نحو ظاهرة خلق العالم، الآلية الذهنية التي نشكل من خلالها صورة ذات معني لأنفسنا. ويؤكد جلوفر أن غومبروفيتش حداثي حتي النخاع، يؤمن بفلسفة إدموند هاسيرل، الفيلسوف الألماني الذي أسس فلسفة الظواهر. العالم في حقيقته هو عالمنا، أيا كان وضع العالم الموضوعي. الرواية في داخلها وخارجها، أي في العالم الواقعي، طريقة عمل الوعي منطقية جدا لحد إثارة الضحك، هزيمتها تكمن فيها، وقد أشار هاسيرل إلي أن المنطق لم يذهب أبدا حيث قررالذهاب. تبدأ في ملاحظة تلميحات التكرار والنمط؛ تنظر لأمثلة أخري للنمط في فوضي اندفاع المشاعر؛ وأخيرا تقرر أن هذا النمط حقيقي. وهذه هي طريقة المنطق والعلم. لكن، بالطبع، في رواية غومبروفيتش "كوزموس"، ما يبدو واقعيا بالنسبة للراوي هو في الحقيقة محض صدفة مثيرة للضحك في الغالب، أو حتي مهلكة. صار العصفور، كما يري هولمبيرج، مركز عالم فيتولد، ومحور حياته، إلي الحد الذي جعل هذا العصفور بمثابة شيء يمتلك قوة جاذبة قادرة علي سحب الأشياء من حوله في اتجاهه، فيدخلها في مداره المدمر. ثم يشير ديفيد إلي البعد الحسي العميق في هذه الروابط السيريالية بين الأشياء، فقد خنق فيتولد قطة لينا لحبه الصامت الأحادي الجانب لها. حتي تشوه فم مدير المنزل جذبه للاستجابه لرغبتها الجنسية في منتصف الليل.ويري تيد جيويا أن غومبروفيتش نجح في كشف الحقيقة، تلك التي كان بإمكانها خداعنا في السرد التقليدي. يقول سكوت أدليربيرج في مقال له عن رواية "كوزموس": تفقدك رواية كوزموس للكاتب البولندي غومبروفيتش توازنك منذ البداية. سأحكي لك عن مغامرة أخري أكثر غرابة. سطر افتتاحي عجيب، وبعد بضعة صفحات، يتواصل العجب. يتسكع الراوي ورفيقه فكس عبر الغابة بمكان ما بأوروبا الشرقية بحثا عن فندق رخيص. يقول فكس أنه يعرف واحدا في الجوار. الجو حار، وهم متعبون، وما إن خرجا عن طريق الغابة حتي عثرا علي شيء مربك: "عصفور." "آه." كان عصفورا. عصفور معلق علي سلك. مشنوقا. رأسه الصغير علي جانب، منقاره مفتوح علي اتساعه. تعلق علي سلك رفيع مشبوك في فرع شجرة. عجبا. طائر مشنوق. عصفور مشنوق. صرخت غرابته بصوت عال موجهة الإتهام ليد بشرية مزقته في الأحراش ذ لكن من؟ من شنقه، لماذا، بأي ذنب؟ وهكذا انطلق اللغز، ورغم مواصلة الراوي (المدعو فيتولد) وفكس في رحلتهما إلي الفندق وحجزالغرف، لم تغادر صورة الطائر المشنوق بالهما. في فراش الغرفة التي شارك فيها فكس، في تلك الليلة، أدرك فيتولد بشكل مفاجيء أنه لا يكاد يسمع صوت نفس فكس في الفراش الآخر. أين ذهب فكس؟ لكن في هذه الحالة...ماذا لو ذهب لرؤية العصفور؟ لا أدري لماذا فكرت فيه، لكني أعرف تماما أن هذا ممكن، ربما ذهب، اهتمامه بالعصفور أمر واضح، كان في الأحراش يبحث عن تفسير، وجهه رابط الجأش، البرتقالي المائل للحمرة، ربما يكون دليلا لمثل هذا البحث، يشبهه تماما ... ليفكر مليا، يخطط، حتي يصل للفاعل، لماذا فعلها... علي أية حال، لقد استيقظ، أو ربما لم ينم علي الإطلاق، ثار فضوله، نهض، ربما ذهب للتحقق من بعض التفاصيل، وتفحص الأجواء في الليل؟...هل يلعب دور المخبر السري؟...كنت ميالا للتصديق. يزداد أكثر فأكثر ميلي للتصديق. من الواضح أننا لسنا بصدد رواية لغز تقليدية، وفي الحقيقة، لا يمكن تصنيف رواية "كوزموس"، فهي لا تنتمي لنوع أدبي معين تماما. لا أحب التصنيفات التي تقيد العمل في هذه الفئة أو تلك، وعلي سبيل التبسيط، يمكننا أن نطلق علي رواية "كوزموس" رواية أدبية. نشرت الرواية عام 1965، وهي آخر روايات غومبروفيتش الخمس. يمتلك غومبروفيتش القدرة علي قلب التقاليد الأدبية رأسا علي عقب. تبدو روايته "كوزموس" تلك الرواية البوليسية التي يعبث بها، وقد حرصت علي اقتنائها لأنها مثالا حيا علي قدرة روائي خارج التصنيف وظف قصة بوليسية بطريقة مبتكرة. تتحرك حبكة اللغز من العشوائية إلي النسق المحكم. جريمة أو سلسلة من الجرائم تتسبب في اختلال التوازن في بنية الأشياء. يساهم الحل الذي يتوصل إليه المحقق في استعادة التوازن، إذا كان فقط في إطار عالم الرواية المحدود، أو القصة التي يقرأها الشخص. تعتبر مسألة استعادة التوازن تلك من سمات الجذب في قصة اللغز، وتعد سببا أكيدا لشعبية هذا الصنف من القصص. ربما يكون العالم في الخارج فوضوي وعشوائي، بأسئلة ليس لها أجابات، دوافع لا يمكن تفسيرها، جرائم لا تحل، لكن بقراءة لغز جيد، ستجد أن أعقد معضلة، أكثر الدوافع النفسية شذوذا، ينتهي بها الحال كأشياء مفهومة.يمثل التوصل إلي الحل المتماسك راحة للقاريء؛ بالنسبة للقاريء المدمن للألغاز، هذه راحة يتوق إليها مرة ومرات، ويشبعها فقط بالمزيد من الألغاز. لا تشيخ الرغبة في تتبع مسيرة فك اللغز أبدا، من خلال التحقيقات والأدلة التي يعثر المحقق عليها ويحاول تفسيرها. ومن بين تفسيرات كثيرة متنوعة، نحاول الوصول لإجابة واحدة قاطعة. لكن ماذا عن اللغز الذي يعمل بطريقة معاكسة؟ ماذا لو فتح تصرف بسيط، ربما ليس جريمة، بابا لسلسلة من الأحداث المحيرة؟ ماذا لو قاد اكتشاف غريب إلي تدفق الأدلة علي نحو يثير الدوار؟ رواية "كوزموس" تعمل وفق هذه القاعدة. بعد حادث العصفور المشنوق، يلاحظ أبطال الرواية فيتولد وفكس ما رآه فكس علي سقف غرفتهما، علامة علي شكل سهم. أثارت الشك عنده علي الفور لأنها تشبه علامة رآها فيتولد في غرفة الطعام. يثق فكس أن السهم بغرفة النوم يشير إلي نفس اتجاه سهم غرفة الطعام. وطالما كان سهما، يقول فكس، إذن "فهو يشير إلي شيء ما." ، أجاب فيتولد: "إذا لم يكن سهما، فهو لا يشير لشيء." يعرف السيدان الفضوليان أنه ربما ما يريانه أنماطا ليس لها وجود، لكنهما لا يستطيعان أن يمنعا انفسهما. إنهما يتبعان الإشارة التي يعتقدان أنهما وجداها، ويسيران في اتجاه السهم، والمدهش أنهما خرجا إلي حديقة الفندق، حيث لم يجدا سوي عصا معلقة. إنها "عصا صغيرة بطول بوصة. معلقة علي خيط أبيض، ليس طويلا. كانت مربوطة علي طوبة مسننة." لما عادا لحجرتهما، ناقشا مكتشفاتهما، التي لم تقل عن نتائج توصل إليها فريق تحقيق سري: "قل ما تشاء، لكن السهم قادنا لشيء، قالها بحذر، ثم غمغمت أنا، بحذر مماثل، مثل ماذا؟" لكن كان من الصعب ادعاء أن أحدا لم يعرف: عصفور مشنوق - عصا معلقة - تعليق العصا علي الجدار يشبه الذي في الأحراش، نتيجة غريبة زادت فجأة من تكثيف حالة العصفور...العصا والعصفور، تعزز أمر العصفور بالعصا! كان من الصعب عدم التفكيرفي أن أحدا قادنا للعصا ليدفعنا لرؤية الرابط مع العصفور... لكن لماذا؟ ما السبب؟ مزاح؟حيلة؟ ربما خدعة قام بها شخص ليستهزيء بنا، ليتسلي...شعرت بالانزعاج، الذي شعر به فكس أيضا، مما استدعي توخي الحذر. في الواقع، نزل الاثنان في فندق منعزل به عدد محدود من النزلاء، وهي أجواء نموذجية للغز بمنزل ريفي تقليدي. يتحدثان عن الجميع من حولهم، معتبران أن كلاً منهم متهم محتمل، وهما يتأملان الدوافع. لابد أن الجاني بينهم، هذا ما توصلا إليه، لكن ما إن يصلا لليقين، لجأ كلاهما للاعتراف بأن ما يحققان فيه قد يكون كلاما فارغا. فلنتأمل سرد فيتولد المليء بالمتناقضات: لكن الأمر لا يزال غامضا. من من شأنه اللهو بمثل هذه الدعابات المعقدة؟ ما الهدف؟ من علم كشفنا أمر السهم واهتمامنا به علي هذا النحو من الجدية؟ كلا - هذا التلازم، مهما كان بسيطا، بين العصا علي الخيط والعصفورعلي السلك - ربما كان محض صدفة. مؤكد، عصا علي الخيط، لا يري المرء هذا كل يوم... لكن ربما تعلق العصا هناك لألف سبب ليس له علاقة بالعصفور، قد يكون هناك ثمة مبالغة منا في أهمية هذا لأن الأمر تحول في نهاية تحرينا كعاقبة له - بينما في الحقيقة لم تكن هناك أية عاقبة علي الإطلاق، اقتصر الأمر علي عصا معلق علي خيط في النهاية... صدفة بحتة إذن؟ نعم...وإضافة لذلك، ربما يستطيع المرء أن يدرك في هذه السلسلة من الأحداث، نزوعا نحو التناغم، شئ غامض يربط بينها جميعا - العصفور المشنوق - الدجاجة المشنوقة - السهم في غرفة الطعام - السهم في غرفتنا - العصا المعلق علي الخيط - شيء ما يحاول النفاذ وكشف معني ما،كما في لعبة الكلمات، عندما تبدأ الحروف في تشكيل كلمة. أي كلمة؟ حقيقة، يبدو أن كل شيء يريد أن يمثل فكرة... أي فكرة؟ من الممكن أن يطرح مخبر سري العديد من الأسئلة؟ أن تستجوب المشتبه فيهم وتكون افتراضات أمر يشكل الجزء الأكبر من عمل المخبر السري، لكن قد لا يؤدي الاستجواب والتنظير إلي توضيح الموقف؟ وفي قصة بوليسية نموذجية، يفعلون، لكن ليس في رواية "كوزموس." ورغم تخلي فكس عن الأمر تماما، مبتعدا علي نحو ما عن الراوي، شاغلا نفسه بمغامرات رومانسية تجري في الفندق، بينما فيتولد يغوص بعمق في الأحداث الغريبة التي غرق فيها. لا يمر حادث، تعبير علي وجه شخص آخر، حديث أجراه أو عبارة بالكاد سمعها، من التفاهة ألا يخضعه لتحليل مكثف. معاناته من وسواس قهري أمر واضح، لكن مجددا هو نفس عناء هيركيول بوارو - مخبر أجاثا كريستي السري- أو، علي التلفاز، مونك - مخبر سان فرانسيسكو. أي مخبر سري قدير ليس غريب الأطوار؟ لكن ما توصلنا إليه أن الراوي في كوزموس لا يملك القدرة علي التوازن. وكما قال شيرلوك هولمز في "لغز ريجيات": "أمر بالغ الأهمية في فن الاستدلال أن تملك القدرة علي إدراك عدد الحقائق العابرة والجوهرية. وإلا تبخرت طاقتك وانتباهك بدلا من تركيزها." يعرف فيتولد نفسه، وهذا الأمر في صالحه؛ يقول إنه "يميل بطبيعته للتفاهات" وإنه "ممزق ...أوه، كنت متشظيا تماما..." لكن هذا لم يمنعه من رؤية الإشارات والأدلة في كل مكان. المحصلة أنه بدلا من فصل الخيوط وحل لغز جريمة معينة، يفرض المنطق علي أحداث غير منطقية، وينتهي به الحال غارقا في عالمه العقلي الخاص. لقد جعل أشياء تافهه حوله تهديدا، كما أضفي علي أبسط إيماءات وتعبيرات الناس صفات الزيف والخداع. يري فيتولد أن كل شيء يبدو مترابطا مع ما عداه، الأمر جد خطير، فوفق رؤيته للعالم، ندرك أنه علي شفا حالة بارانويا كاملة. وصف فيتولد غومبروفيتش روايته "كوزموس" أنها: "رواية عن واقع يخلق ذاته." قال كذلك أنه بما أن الرواية البوليسية تدور بوضوح عن "محاولة تنظيم الفوضي،" فقط منح الكتاب شيئا من "شكل الروايات البوليسية المثيرة." الشكل، ليس المضمون. لأن فيتولد، الشخصية، أصبح غارقا في تفاصيل الحياة اليومية، يري إشارات محتملة وروابط في كل مكان، لذا يتزايد انزعاجه لفشله في فهم لغز معقد يمكنه حله. بينما يري عددا من الأنماط الغائمة، لم يصل إلي نمط واحد محدد. الواقع ذاته هو اللغز الأعظم، يقوده سخطه علي الواقع نهاية إلي ارتكاب جريمة. ستمنح هذه الجريمة الحياة لنمط بناء لم يوجد من قبل، وستصبح جريمة يمكن حلها بكل تأكيد (يا لها من راحة) طالما يعرف من فعلها. " هل تعرف أي شيء؟" ] سئل فيتولد [. "من، كيف؟ ألم تلحظ أي شيء." كلا، لم أفعل، تجولت في وقت متأخر ليلة أمس، عدت بعد منتصف الليل،عبرت المدخل، ليس لدي أدني فكرة سواء كانت القطة مشنوقة بالفعل أم لا- تصاعدت نشوتي في تضليلهم بهذه الشهادة الخادعة، لم أعد في صفهم بل ضدهم، علي الجانب الآخر. وكأن القطة حولتني من وجه ميدالية إلي الوجه الآخر، إلي عالم آخر حيث تحدث الألغاز، عالم الرموز السرية. كلا، لم أعد في صفهم. داعبتني الرغبة في الضحك وأنا أري فكس يحاول جاهدا البحث عن إشارات علي الجدار بينما يستمع بيقظة لأكاذيبي. أعرف لغز القطة. أنا الفاعل. علي الأقل هناك فاعل. الآن لدينا مجرم يمكننا الإشارة إليه. ليس لأن قتله للقطة أنهي الرواية. علي فيتولد أن يمر بسلسلة من الأحاديث العبثية مستخدما كلمات فارغة يتحدث بها رفاقه النزلاء، وسرعان ما سيعثروا علي شخص مقتول، متدليا من شجرة من حزامه. تبخر احساس السكينة القصير الذي شعر به فيتولد، بشنق القطة وتحقيق مخطط - عصفور مشنوق، عصا معلق، قطة مشنوقة - بمجرد رؤيته للجثة. يعلم أنه لم يرتكب هذه الجريمة لذا بدأت الأسئلة تراوده مجددا. من فعلها؟ لماذا؟ وما الرابط بينها وبين الأفعال السابقة، العصفور، العصا (مع استبعاد القطة)؟ فيض من الاحتمالات عصفت بعقله؛ اللغة نفسها لا تسعف؛ الحياة اليومية، حتي لو كانت عادية في ظاهرها، هي بالفعل صراعا لا متناهيا مع الفوضي. والقاريء؟ حسنا، ربما تشعر بشيء من الإحباط لأمل راودك في أن ينجح فيتولد، لكنك ربما ستضحك رغما عنك علي تشوشه واضطرابه. غومبروفيتش لا يملك إلا أن يكون مرحا.هل علي أن أشير إلي أمر شديد الوضوح الآن؟ لا يشعر القاريء عند انتهائه من رواية "كوزموس" أنها الخاتمة. ليس هناك ثمة حل حاسم لأي شيء.تعتبر رواية "كوزموس" نموذجا رائعا لشكل أدبي سمته العبث المتماسك كتبه روائي متفرد.