هل جربت من قبل أن تخنق حلما؟ أن تجثم علي صدره ككابوس.. أن تجمع كل ما لديك من قوة, لتهزه في عنف. تهزه وتهزه وتهزه.. حتي تتناثر أنفاسه هنا وهناك .. ومن ثم تتلاشي قبل ان تلمس اي شيء .. هل جربت من قبل أن تنظر في مرآة محطمة؟ أن تلتمس العذر لتجمع شتات نفسك.. أن تبحث وسط حطامها عن بقايا روحك.. أن تلهث أثناء صعودك اللامتناهي إلي قمه ذاتك.. ثم تثور وتثور.. وتتصاعد ثورتك إلي أن تصل إلي الحقيقة.. هل جربت من قبل أن تفتح خزانة مهرج؟ أن تنظر إلي عشرات الأقنعة وأدوات الزينة.. أن تملك الشجاعة الكافية، لتقلب عشرات الوجوه الباسمة والعابثة والمقطبة والضاحكة.. أن تركز الإضاءة عليهم، وتزيل عنهم غبار الإهمال والزمن، ثم تنظر من جديد لتجد وجهك بينهم.. هل جربت من قبل أن تفعل شيئاً كهذا؟!
كنت أسير في اتجاه ثابت.. أشعر أنني أعرف اتجاهي بالضبط.. كل من حولي يسيرون في عكس اتجاهي ويرمقونني بنظرات مستغربة.. كنت أشعر أنني أنا وإن تعجبت من ملبسي.. اكتنفني شعور غامر بعدم الانتماء للمكان الذي أسير فيه.. كان كل ما يطالعني قد اكتسب لونين هما الأسود والرمادي.. في البداية ظننت أنني أشاهد مشهدا بالأبيض والأسود علي الشاشة.. ولكن شعوري بوجودي داخل المشهد جعل هذا الظن يتلاشي، كما أن اللون الأبيض كان... كان مريضاً.. باهتاً جدا حتي ظننت أنه سيتهاوي.. من هنا اتفقت مع نفسي علي أن أسميه رماديا.. طرأ سؤال غريب علي ذهني.. أين باقي الألوان؟! انتابني الهلع، ظننت أن خللاً ما قد أصاب عيني..! فكرت أن أسأل أحد المارة المتعجلين.. لكن أحدا لم يلتفت إليّ.. وكأنني غير موجود من الأساس.. بحثت عن تفسير يريح غوغاء نفسي، فلجأت إلي ضوء القمر. لا ريب أنه هو! انعكاساته منحت الوجود هذا اللون.. استكانت نفسي مؤقتاً إلي هذا التفسير.. ورحت أجد السير مجددا للوصول إلي ذلك الهدف الذي أشعر أنني أعرفه جيدا وإن كنت فعليا لا أعرفه!! أثناء خطواتي علي الأرض غير المستوية , لم يصدر عني أي صوت وكأنني أحد الأطياف.. نظرت إلي حذائي فهالني ما رأيت..كان ممزقا, متربا.. ببساطة كان مثلي.. بقايا لشيء يعرف أنه كان موجودا.. بقايا هائمة لكائن فقد هويته.. ثيابي أيضا كانت مغبرة بشدة كما أنني لم أكن أشعر بالانتماء داخلها.. أين ارتديت هذه الثياب ومتي؟! بل والأهم ،أين أنا..؟؟ حاولت عبثا أن أنظف ثيابي.. حاولت أن أزيل الغبار عنها بيدي.. عندها.. حانت مني نظرة إلي كفي.. كان هو الآخر رماديا.. جافا.. ذُعرت.. أنزلت يدي وأنا أحاول ألا أنظر إليها.. أخفيتها خشية أن يراها أحد ،وكأنها عاهة أخشي أن يكتشفها الناس.. تدريجيا اكتشفت أن الغبار يغمرني أنا شخصيا.. وكأنه غشاء رقيق احتواني داخله.. كل من كان قادما في مواجهتي كان يعاني الشيء ذاته . (اللون ذاته.. الثياب ذاتها..الغبار ذاته!!) "ماذا عن من يأتون من خلفي؟" اقتحم هذا السؤال ذهني المشتت كلص محترف.. هنا.. حاولت أن أستدير لألقي نظرة واحدة إلي الوراء.. نظرة واحدة فقط.. لكن جسدي استحال حجراً.. تمثالاً بلا قاعدة ينظر في اتجاه واحد.. لا أدري كم مرة حاولت. و لكن مرة واحدة صادفت تجاوز أحدهم لي , نجحت في أن أدير رأسي قليلا.. لحظتها.. رأيت.. رأيت.. أن خلفي ظلاما كما أن أمامي ظلاما..!! ظلاما لا يعرف الشمس ولا القمر ولا النجوم.. أما من حولي فبدوا وكأنهم صور متحركة تتلاشي بمجرد تجاوزها لي.. الآن! أدركت أن هذا غريب..! وكان هذا مؤشرا لتعود الحياة إلي جسدي من جديد.. لم أعلم ما ينبغي فعله ولكن ساقيّ تحركتا إلي الأمام بدافع الغريزة.. وصلت لاهثا إلي منزل لم أره من قبل.. أيضا هو عبارة عن تداخلات سريالية من الأسود والرمادي.. نفسي أدركت أنني أسكن هنا.. بينما قدماي تتحسسان أرضه للمرة الأولي.. دخلت من بوابته الصدئة،فشممت رائحة العطن.. وأثناء صعودي علي درجات السلم المتهدمة, وجدت أخيراً من يلقي عليّ التحية.. بل وياللعجب يناديني باسمي. نظرت في وجهه مدققا فتأكدت من أنني لا أعرفه.. تركته بلا كلمات وصعدت إلي ما أدركت نفسي أنه بيتي.. مزيج من اللوحات الممزقة والأسطوانات المحطمة والغبار.. هناك (أنا أعرف هذا المكان!!) مجموعة كتب مفتوحة مبعثرة.. أوراق متناثرة.. دفقات هواء لا أدري من أين أتت تحرك صفحات كتاب محاولة إغلاقه.. ينتفض كما لو كان يذبح.. ينتفض كحلم يختنق..!! (أين رأيت هذا؟) أسرعت لاهثا إلي حجرة جانبية.. أنا متأكد الآن من أنه أنا.. الآن أنا في غرفة نومي.. تلك صورة وجهي يبتسم.. ذكرياتي تبدو كالأطياف.. سريعة وواضحة لدرجة تغشي الأبصار.. نظرت إلي المرآة الثابتة علي الدولاب.. اقتربت منها وابتعدت.. تأملت.. دققت.. لمست.. ذعرت.. صرخت.. بكيت!! (هذا ليس وجهي.. هذا وجه رسمه الحزن!) عينان مقهورتان وسط أطنان من التجاعيد.. فم منفرج عن ابتسامة دائمة حزينة منكسرة.. نظرت إلي يدي فوجدتهما بألوان طبيعية.. فقط هما نحيلتان عظميتان.. (متي أصبحت هكذا؟!) فتحت الدولاب بتهور.. وعندما وجدته تذكرت.. تذكرت أنني فقدت كل شيء.. فقدت نفسي.. فلم أعد أعرف من أنا..!! تذكرت أنني ذات يوم أدركت الحقيقة ولمستها.. كما ألمس الآن وجهي الممزق.. حتي ابتسامتي.... تمزقت!! إلي جواره تراصت عشرات الوجوه وعشرات الابتسامات!! المشكلة الآن أنني أخشي أن أري ما خلف وجهي!! مددت يدين مرتجفتين وجذبته... و...
استيقظت من النوم , فقط لأدرك أنني لم أكن نائما.. فقط كنت أتسلي بخنق الأحلام..ولكن عندما أطبقت يداي علي هذا الحلم وهززته في عنف.. لاحظت أن أجزاءه الدامية لم تتلاش وإنما اختلطت بالواقع.. فلم أعد أدري بعد الآن.. أين الحلم وأين الحقيقة..!! وعندها أدركت أنني مازلت بلاوجه.. وأن وجهي الذي أفزعني في الحلم هو ذاته الذي يطالعني من المرآة.. "أيها السادة.. يامن تعرفونني جميعا.. من يجد منكم وجها ممزقا في أحد الأزقة.. فليعده إليّ.. أرجوكم اهتموا بهذا.. حتي لا أنضم إلي قائمة.. الرجال الذين فقدوا وجهوهم!! أرجوكم ابحثوا.. اهتموا.. احلموا.. أرجوكم..!!.