150 طالبا من جامعة الدلتا التكنولوجية بالمنوفية يزورون المعهد القومي للاتصالات لتعزيز مهاراتهم    إزالة 16 حالة تعد بالبناء المخالف على أراضي أملاك الدولة والزراعية بنقادة ضمن الموجة 26    رابطة العالم الإسلامي: رفع العقوبات عن سوريا انتصار للدبلوماسية السعودية    زيلينسكي يؤكد عدم مشاركته في محادثات إسطنبول مع روسيا    إحالة مسئولين باتحاد الكاراتيه للمحاكمة على خلفية وفاة لاعب في بطولة الجمهورية    القبض على فرد أمن سهل دخول طالب الامتحان بدلا من رمضان صبحي    فيديو.. راغب علامة يطرح كليب أغنية "ترقيص"    التأمينات الاجتماعية تقدم بوكيه ورد للفنان عبدالرحمن أبو زهرة تقديرًا لمكانته الفنية والإنسانية    إحالة 3 مفتشين و17 إداريًا في أوقاف بني سويف للتحقيق    تيسير مطر: توجيهات الرئيس السيسى بتطوير التعليم تستهدف إعداد جيل قادر على مواجهة التحديات    تركيا: هناك محرقة تحدث الآن أمام البشرية جمعاء في غزة    كيف تلتحق ببرنامج «سفراء الذكاء الاصطناعي» من «الاتصالات» ؟    تحديد فترة غياب مهاجم الزمالك عن الفريق    محافظ الجيزة: عمال مصر الركيزة الأساسية لكل تقدم اقتصادي وتنموي    ضبط سيدة تنتحل صفة طبيبة وتدير مركز تجميل في البحيرة    الإعدام شنقا لربة منزل والمؤبد لآخر بتهمة قتل زوجها فى التجمع الأول    استعدادًا للصيف.. وزير الكهرباء يراجع خطة تأمين واستدامة التغذية الكهربائية    بعد منعهما من الغناء.. «الموسيقيين» تعلن عن قرار جديد بشأن رضا البحراوي وحمو بيكا    أمام يسرا.. ياسمين رئيس تتعاقد على بطولة فيلم «الست لما»    بروتوكول تعاون لتدريب الصيادلة على معايير الجودة    لن تفقد الوزن بدونها- 9 أطعمة أساسية في الرجيم    ضمن خطة تطوير الخط الأول للمترو.. تفاصيل وصول أول قطار مكيف من صفقة 55 قطارًا فرنسيًا    الاحتلال الإسرائيلى يواصل حصار قريتين فلسطينيتين بعد مقتل مُستوطنة فى الضفة    تصل ل42.. توقعات حالة الطقس غدا الجمعة 16 مايو.. الأرصاد تحذر: أجواء شديدة الحرارة نهارا    ماريسكا: جيمس جاهز لقمة اليونايتد وجاكسون أعترف بخطأه    وزير السياحة يبحث المنظومة الجديدة للحصول على التأشيرة الاضطرارية بمنافذ الوصول الجوية    جامعة حلوان تطلق ملتقى لتمكين طالبات علوم الرياضة وربطهن بسوق العمل    زيلينسكي: وفد التفاوض الروسى لا يمتلك صلاحيات وموسكو غير جادة بشأن السلام    متحف شرم الشيخ يستقبل زواره الأحد المقبل مجانًا -صور    موريتانيا.. فتوى رسمية بتحريم تناول الدجاج الوارد من الصين    محسن صالح يكشف لأول مرة تفاصيل الصدام بين حسام غالي وكولر    محافظ الجيزة يكرم 280 عاملا متميزا بمختلف القطاعات    افتتاح جلسة "مستقبل المستشفيات الجامعية" ضمن فعاليات المؤتمر الدولي السنوي الثالث عشر لجامعة عين شمس    محافظ الإسكندرية يشهد ندوة توعوية موسعة حول الوقاية والعلاج بديوان المحافظة    "فشل في اغتصابها فقتلها".. تفاصيل قضية "فتاة البراجيل" ضحية ابن عمتها    "الصحة" تفتح تحقيقا عاجلا في واقعة سيارة الإسعاف    أشرف صبحي: توفير مجموعة من البرامج والمشروعات التي تدعم تطلعات الشباب    تحت رعاية السيدة انتصار السيسي.. وزير الثقافة يعتمد أسماء الفائزين بجائزة الدولة للمبدع الصغير في دورتها الخامسة    "الأوقاف" تعلن موضع خطبة الجمعة غدا.. تعرف عليها    عامل بمغسلة يهتك عرض طفلة داخل عقار سكني في بولاق الدكرور    رئيس إدارة منطقة الإسماعيلية الأزهرية يتابع امتحانات شهادة القراءات    شبانة: تحالف بين اتحاد الكرة والرابطة والأندية لإنقاذ الإسماعيلي من الهبوط    إزالة 44 حالة تعدٍ بأسوان ضمن المرحلة الأولى من الموجة ال26    مسئول تركي: نهاية حرب روسيا وأوكرانيا ستزيد حجم التجارة بالمنطقة    فرصة أخيرة قبل الغرامات.. مد مهلة التسوية الضريبية للممولين والمكلفين    فتح باب المشاركة في مسابقتي «المقال النقدي» و«الدراسة النظرية» ب المهرجان القومي للمسرح المصري    كرة يد.. مجموعة مصر في بطولة أوروبا المفتوحة للناشئين    تشكيل منتخب مصر تحت 16 سنة أمام بولندا فى دورة الاتحاد الأوروبى للتطوير    ترامب: الولايات المتحدة تجري مفاوضات جادة جدا مع إيران من أجل التوصل لسلام طويل الأمد    جهود لاستخراج جثة ضحية التنقيب عن الآثار ببسيون    تعديل قرار تعيين عدداً من القضاة لمحاكم استئناف أسيوط وقنا    رفع الحد الأقصى لسن المتقدم بمسابقة «معلم مساعد» حتى 45 عامًا    وزير الخارجية يشارك في اجتماع آلية التعاون الثلاثي مع وزيري خارجية الأردن والعراق    حظك اليوم الخميس 15 مايو وتوقعات الأبراج    أمين الفتوى: لا يجوز صلاة المرأة خلف إمام المسجد وهي في منزلها    أيمن بدرة يكتب: الحرب على المراهنات    جدول مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    حكم الأذان والإقامة للمنفرد.. الإفتاء توضح هل هو واجب أم مستحب شرعًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذيل قصير بنهاية مدببة
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 11 - 2015

مثل روح عريقة تنبثق من الظلام، ها أنت تقفز، تنطّ خفيفاً ولا أراك، أري خرزتيك، حجريك الصقيلين، قطرتي ضوئك تتكثفان وتصعدان، أري ذيلك سوطاً ينطّ من حقيبة لحقيبة، أري السوط يصعد ولا أراه، أسمعه يسوط الهواء الراكد ذا الرائحة، رائحة خشب قديم، عفن ومفتت ومقروض، رائحة أجساد خمّرتها لوعة الحبس، تلمس تراب الحقائب مخلفاً طبعات أطراف دقيقة، أطراف ليّنة مثل أصابع أجنّة بشريّة، أصابع ملمومة بأظافر بيضاء رماديّة مقوّسة تلمس السطح، تخدشه ولا تغور فيه، تطبع مرورها لمساتٍ عابثةً غير معنيةٍ بآثارها، بأختام أصابعها علي التراب الخفيف، بلمس رؤوس أظافرها علي الجلود الرخيصة الملوّنة، إنها مشغولة بسواه، سوي القفزة والبصمة ورائحة الجلود، سوي البصمة والتراب الخفيف ورائحة الهواء ووخامة الأجساد، الرائحة الجافة وقد أثقلتها روح الجلود المطبوعة المذهّبة. لكم تخشي جلودَ الحقائب بذرّات التراب علي حوافها، تخشي رائحتها، حيواناتٌ بعيدةٌ تهرول فيها، حيوانات تركض في رأسك المدبب الصغير فتلصف عيناك، تخطف سريعاً خشية أن تراها وخشية أن تراك، خشية أن تختلط رائحتك برائحتها، تبتلعك رائحتها فتذهب بعيداً، في أجواء السجون الخانقة مثل أجواف سفن محمّلة بالملح والجنود، في ليالي الحروب التي تركض فيها ولا تنتهي، تركض ليلاً بعد ليلٍ ولا تنتهي. عيناك تلصفان في النفق الضيّق الطويل، نفق كالحرب لا نهاية له ولا قرار. عيناك تشعّان حتي آخر لحظات حياتك. جرّب أن تقتل جرذاً مثلك، بأية طريقة أحببت وبغير أن تعبأ للفكرة أو ترتجف من شدّة هولها، راقب انطفاء جسده خلال لحظات موته، ابتداء من الذيل الذي يفقد تماسكه ويلين حتي يغدو قطعة حبل فحمي مفتول بنهاية مدبّبة، ذيله الذي يأكله إذا جاع ولم يجد ما يأكله، ذيله الذي يسوط الهواء كلما نطَّ، يغدو قطعة حبل بنهاية مدبّبة، أطرافه الناعمة ستلين هي الأخري وتفكّ أصابعها، راحاتها رقيقة طازجة ورديّة اللحم كراحتي جنين بشري، ستبدو أوضح مما هي عليه، خطوطها بنيّة وخدوشها ظاهرة. تنتفض رقبته كأنها تطلق آخر شرارة حياة تبقّت في الجسد المغزلي قبل أن تسكن وتلين هي الأخري، لكن عينيه تحافظان علي بريقهما، تبقيان كهرباءهما وقتاً أطول. ستعرف بقدرة القوارض قيمة العين التي يتراءي لها الكثير، وتفضّلها، لذلك، علي سائر أعضاء الجثث.
بعد معركة الفاو الطاحنة عام 1986، كنا قريبين من المملحة، أرض الملح التي تحتفظ طويلا بالجثث، يحمي ترابها الملح الجثث من التفسخ السريع. جثث جنود مملّحة لا يدبّ الفساد فيها سريعاً، لكن مسير الجرذان نحوها لا يعطّله ملح ولا تراب. يطلق الموت نداءه فتسمع الجرذان نداءه وتستجيب، من أقصي الأنفاق تحت الأرض المتفجّرة، من أكثرها عتمة ورطوبة تلتقط النداء، عيونها تلصف في الأنفاق البعيدة، توقدها شهوة العيون الميّتة فتلصف كأنها لأليء سود صغيرة أو خرزات دقيقة معتمة. في ساعات الصمت تتكسر سطوح الملح تحت أقدام الجنود الأحياء وهم يمشون نحو الجثث واثقين مما سيرون، محاجر خالية وأفواه مفتوحة مظلمة، أفواه الجثث تتحدّث عن العيون المأكولة والحناجر المظلمة. حديث يتواصل ويستمر، يمتد عقداً بعد عقد. في أوائل التسعينيات، بعد أن أطلقت البنادق الوطنية نيرانها علي أبناء الوطن، وبعد أن التهمت نيران الدبابات المهزومة في حرب تحرير الكويت أرواح الناس وظلّت جثثهم مرميّة علي الجزرات الوسطيّة المهشّمة، جثة هنا وجثة هناك، مثل بثور بشرية علي الأرصفة، مرّ المشاة المدنيون بخطوات بطيئة، نظروا بغير التفات ورأوا الأفواه مفتوحة والمحاجر فارغة معتمة، مررتُ بخطوات بطيئة ورأيت المحاجر معتمة، محاجر رأيت مايشبهها في أرض الملح قبل أكثر من عشر سنوات، وسمعت الأنياب الحيوانية الدقيقة تقطع كرات الشحوم، سمعت الألسن تلحس خليط الدم والملح في البرك الصغيرة المعتمة.
لن تأكل الجرذان وحدها عيون جثث الجنود أو عيون جثث أبناء التسعينيات المقتولين بالبنادق المقصوفين بنيران الدبابات المهزومة، الحراذين، ومفردها حرذون، تأكل عيون الجثث أيضاً، تلتقط نداء الموت وتشمّ رائحته فتهفو، تنطّ باتجاه النداء، تقفز بأطراف ليّنة نحو الرائحة، تستلّ عيون الخلفاء وتلتهمها، العيون التي نظرت، وفي كلّ نظرة من نظراتها آذنت مصائر وتقطّعت رقاب. أحدّثك عن الواثقي الجرذان تحب الأحاديث، تُنصت عميقاً لما تحمله من غرائب لا تنتهي أحمد بن يحيي الواثقي، الرجل الذي ولي البصرة قبل انقضاء ثالث قرون الهجرة، كان يخدم الخليفة الواثق، يخدم تحته في علّته التي مات فيها، في الوقت الذي تلف الواثق تلفاً لم يشكّ أحد فيه، تقدّم الواثقي فشدّ لحييه، وغمّضه، وسجّاه، ووجّهه إلي القبلة، وجاء الفراشون وأخذوا ما تحته في المجلس ليردّوه إلي الخزانة، وتُرك وحده في المجلس، المجلس الذي كان في بستان عظيم بين بستانين، ردّ الواثقي باب المجلس وجلس في الصحن، جلس عند الباب يحرس موت الخليفة.
يقول الواثقي:
أحسستُ بعد ساعة بحركة عظيمة أفزعتني، فدخلتُ أنظر ما هي، فإذا بحرذون قد أقبل من جانب البستان، وقد جاء حتي استلّ عيني الواثق فأكلهما
لم أكن أعلم أن الجرذان تستلّ عيون الجثث، الحرب علّمتني، رفعت ستاراً عظيماً داكناً وأرتني جثثاً بمحاجر فارغة وقالت أنظر ما تفعله الجرذان، لم تقل الحرب أنظر ما تفعله الحرب، لم ترفع الحربُ ستاراً عظيماً أياً كان لونه وتتحدّث عن نفسها، عن الجرذان تحدّثت، الجرذان التي تسمع نداء الموت وتشمُّ رائحته فتركض، تركض ليل نهار. قبل الحرب لم أكن أعلم أن الجرذان تأكل عيون الناس، موتي أو أحياء، وتلعق ما يتبقّي في محاجرهم، ما كنت أعرفه أنها تقرض أصابع اليدين والقدمين، أصابع القدمين خاصة، تلحسها وتتذوّق طعمها في غفلة من أصحابها قبل أن تغرز أنيابها فيها. كنت أكتب لها، أبحث عن فتحات جحورها في حديقة المنزل، تحت العتبة، أسفل المتروكات في المخزن الضيّق تحت السُلّم، لأكتب لها. كلما ضايقني أحد الطلاب وغالباً ما يضايقونني أو كلما ضربني أحد المعلمين وغالباً ما يضربونني قطعتُ ورقةً صغيرةً وكتبت اسم الطالب أو المعلّم عليها، أحياناً أرسم صورته تحت اسمه مؤكداً علي ما يميّزه، نظارة بعدستين مدوّرتين، أو ذقن خفيفة نابتة، أو شعر سبل يسرح علي الجبين، أرسمه وقد استبدّ به الألم، فم بغيض مفتوح وعينان حمراوان، ثم ألفّ الورقة وأرميها في فتحة أقرب الجحور إلي، في حديقة المنزل، أو تحت العتبة، أو أسفل متروكات المخزن. أعود من المدرسة وقد حدّثت نفسي أن أرد الصاع صاعين، لن أترك أحداً يمسّني بغير عقاب، أحدّث نفسي طويلاً عن الطلاب المسعورين، يعضّون ويرفسون، وعن المعلمين الذين تغيب عقولهم حالما يمسكون العصا، ثم أحدّثها عن الجرذان التي تقرأ وتستجيب. ألفّ القصاصة مرّات، ألفّها حتي تصبح مثل قصبة العصير الرفيعة وأرميها في الفتحة واثقاً من استجابة الجرذان ووقوع العقاب الذي أفكّر فيه قبل أن أنام، وفور أن أغمض عيني أري الجرذان تفتح اللفافة بفمها المدبّب ويديها الماهرتين خفيفتي الحركة وتقرأ الاسم بعيون لاصفة، تحرّك رأسها كأنها تبحث عن معلومة أو تسعي لتذكّرها قبل أن تمضي خاطفة من نفق إلي نفق. لم أكتب عنواناً علي القصاصات، الجرذان تعرف البيوت من أسماء ساكنيها، وجحورها تمتد شبكةً تحت البيوت، يكفي أن أكتب الاسم وأرسم تحته صورة صاحبه أحياناً لتعرف طريقها، كما يكفي أن أشير بسهم صغير نحو أصابع اليد أو إحدي القدمين لتعرف هدفها، الجرذان بحاجة لأهداف واضحة.
أنت تعلم كم الجرذان قريبة لنفسي، أكلّمها منذ تعلّمتُ الكلام فتسمع مني وتردّ عليّ، أجلس في حديقة المنزل الصغيرة قريباً من فتحة الجحر بانتظار أن تطلَّ برؤوسها المدبّبة حتي إذا سمعت صوتي وفهمت معاني الكلام أمِنَتْ لوجودي وخرجت تحرّك ذيولها من دون أن تغشي عيونها غلالةُ الخوف التي تمسح عنها عادةً التماعةَ الحياة، تقترب متشممة أصابعي فأري خرزات عيونها وتبهجني فصوصها اللامعة العجيبة. كنت مثل ناسك صغير في معبد كارني ماتا، أنادي أرواح الجرذان فتأنس لندائي وتجيء. وكانت رؤية جرذ ميّت، علي أية هيئة، كفيلةً بجرح طفولتي وهدم بهجة صباي فأرتجف خوفاً وجزعاً، لكن أكثر ما يثير جزعي حتي اليوم رؤية جرذ مدهوس، يظلُّ صريره لحظة صعود إطارات المركبة العمياء علي جسده اللدن، كأنها تسحق كومة خرق صغيرة مهملة، يتردد في رأسي وتتكرر صورته، تنبثق وتختفي لتنبثق من جديد كأنها مشهد مقرّب من فلم شديد الوضوح يُعاد بلا نهاية، لا صوت له سوي صرير الوجع الفاجع الأخير. في كلِّ مرّة يُعاد فيها يمحو كل معني غير معاني القسوة والجنون التي تظلُّ حتي الأخير قوية راسخة. أُغمض عيني محاولاً إسكات صياحه فيتراءي أمامي مشهد ميتته بأحشائه التي لم تعد غير كتلة من لحم وفرو تتخثّر حولها الدماء كثيفة، زيتية القوام. أجرجر خطواتي راجعاً إلي المنزل، أرمي كتبي في الفناء الأمامي وأجلس متكئاً علي سياج الحديقة المعدني القصير. يالقسوة بني أدم، كم قتلت من جرذان! تختلط حسرة الناسك الصغير بصرير الجرذ، صياح ميتته، حتي يصبحا مزيجاً من نداء تكرّره اللوعة ويغزوه الألم.
الحرب ضحكت طويلاً، ضحكت ضحكة فاجرة وأنا أحكي لها حكاية اللفافات الرفيعة، رفعت الستار وأرتني الجثث بمحاجر فارغة وقالت أنظر ما تفعله الجرذان. لم تحدّثني الحرب عن نفسها، ضحكت ضحكة فاجرة وتحدّثت عن الجرذان التي تسمع النداء وتشم الرائحة، فتركض ليل نهار. لكن الجرذان لا تنتظر علي الدوام من يكتب لها، من يدسّ قصاصاته الملفوفة مثل قصبات العصير لتقرأ ما كُتب عليها وتنظر إلي الرسم إن وجد، تحدّق بالفم المفتوح والعينين الدمويتين، ثم تنظر إلي السهم، لرأسه المدبب الصغير قبل أن تنطلق من جحر إلي جحر، خرزات عيونها تشعّ في شبكة الجحور المتقاطعة، تحت أطرافها الدقيقة تتناثر ذرات من تراب رطب. إنها تطلّ برؤوسها المدبّبة من جحورها في ليل الجبهات، رؤوس صغيرة حذرة تحرّك أنوفها متشممة روائح الجبهات المفتوحة، واسعة ومفتوحة تحت الليل، كأنها الليل نفسه، الليل الذي لا نهاية له، ليل السنوات المريرة الخانقة. رؤوسها تطلّ وأنوفها الدقيقة تتحرّك وشواربها الطويلة تهتزّ، يلامسها هواء الليل البارد فتهتزّ قبل أن تقفز خارج الجحور، تخطف بلا صوت
لتنزل إلي الملاجيء القريبة محاذرةً أن تصطدم بأحذية الجنود طويلة الرقاب المصفوفة عند العتبة وبأواني الطعام المعدنية المسندة إلي الحائط، خطواتها علي أوراق الجرائد المفروشة في مداخل الملاجيء تصدر أصواتاً أقرب إلي خربشة طائر أو نقر خفيف علي لوح زجاج قبل أن تتوقف وسط الملاجيء، تتنشق رائحة أقدام الجنود المتسللة من تحت البطانيات.
لكم يشبه الانسانُ الجرذَ! تحت الأرض يحيا وتحت الأرض يموت.
تحدّث الجرذان أنفسها محرّكة ذيولها وسط رائحة النوم وعطن الأقدام، تتحرّك الحبال القصيرة بنهاياتها المدببة، تحرّك الروائح الثقيلة الراكدة.
للناس ذيول أيضاً، ذيول رفيعة سوداء مشعّرة، ذيول مدسوسة في الأخاديد الطولية الممتدة من أسفل الأعمدة الفقرية، من نقرة الظهر حتي الخصيتين، يخبيء الناس ذيولهم الرفيعة فلا تُري، ليس كل الناس لهم ذيول، الشيعة لا ذيول لهم، الشيعة يدخلون الجنّة، لن يدخلوها بذيول رفيعة مشعّرة!
تحكي جدتي، كلَّ يوم تقريباً، عن ذيول السنّة، الذيول التي حمّلهم الله إياها بعد أن أنكر أجدادهم علي أمير المؤمنين ولايته، الذيول التي أتسلّق من أجلها سياج جامع العثمان القريب من المكتبة العامة، أسمع أذان الظهر مع خروجي من المدرسة فأتوجّه إلي الجامع. اترك كتبي أعلي السياج وأقفز مأخوذاً بفكرة ذيول بني آدم. تبلبلني الفكرة فأعبر الممر المفروش بالحصي وأندفع تحت الفناء المظلل لأطلّ علي المصلّين من الشبّاك الواسع. أراهم يسجدون في حركة منتظمة، تلتصق دشاديشهم بأجسامهم وتبين خلفياتهم ولا أري أثر ذيل من ذيولهم، لكن جدتي تواصل حكاياتها حتي بعد وقوعها من علي السُلّم في واحدة من ليالي الصيف حيث ننام، كعادة أهل البصرة، علي السطوح. كانت تنزل مستندةً إلي جدار السُلّم لقضاء حاجتها، لم يكن مرض السكّر يمنحها راحة النوم، ما إن تُغمض عينيها ويعلو شخيرها حتي تنغزها مثانتها، ينقطع شخيرها وتفزّ مستندةً إلي يديها ناظرة في الظلام، عيناها المحمرتان عمياوان في الظلمة، تدبُّ علي السطح تقودها ذاكرتها، تدبُّ علي يديها وقدميها بين الفُرش المتوزعة علي السطح محاذرة أن توقظ أحداً، وعند السلُم تُسند يديها إلي الحائط الخشن الذي يحتفظ حتي الفجر بحرارته وتبدأ المرحلة الأصعب في النزول، تنقّل يديها درجة بعد درجة، رحلة لا تنتهي. علي آخر ثلاث درجات حدث ما خشيتْ وقوعه سنواتٍ، زلّت إحدي يديها وتهاوت
صدام حسين، من جهته، كان يفكّر بالذيول، يراها تشبه الحبال الرفيعة أيضاً كلما استعاد طفولته، مستذكراً اصطياد الحيوانات الصغيرة المراوغة وتعليقها من ذيولها علي مشبك معدني والعودة بها إلي المنزل مثل صيد ثمين. كان الجميع يتوقعون حدثاً مثيراً كلَّ مرّة يعود فيها. بعد ثمانية أيام من إعلان معارك شرق البصرة الثانية عام 1988، المعارك التي سُميت بالحصاد الأكبر، كان صدام في مقر الفيلق الثالث، يتابع مع قيادة الفيلق سير العمليات علي منضدة الرمل، يدفع الدبابات الصغيرة المتجمعة برأس عصا طويلة رفيعة منعّمة بعد أن يخطّ دوائر واسعة حول وحدات عسكرية صُبغت آلياتها بلون كركمي مطفأ، تجهّم وجهه فور دخوله غرفة العمليات ورؤيته أعلاماً إيرانية منصوبة علي الآليات لا يحرّكها الهواء، إنه يعتبر من الشؤم رؤية أعلام العدو في غرف العمليات واجتماعات القيادة. من دون أن يلتفت نظر بطرف عينه نحو قائد الفيلق الثالث أفترض أنه كان وقتها الفريق الركن ماهر عبد الرشيد ففهم الأخير الأمر علي الفور علي عادة القادة القريبين من الرئيس، المتحفّزين لالتقاط أية إشارة تندّ عنه. كان يخطّ الدوائر علي الرمل، يحفر بعصاه الطويلة خندقاً حول آليات العدو، خندقاً مثل أفعي بنيّة رفيعة ملتوية. عاد إلي ملجأ القيادة محفوفاً برئيس أركانه وقادة فيالقه المشاركة في المعارك يتقدّمهم وزير دفاعه بقامته الطويلة الممتلئة وأنفه مقروض الحافة افترض أنه كان وقتها الفريق الركن عدنان خير الله، ابن خاله وخال أولاده، إشارة الأنف المقروض تؤكد ذلك بوضوح في رأسه ماتزال تتراءي وجوه أسري صغار زائغي النظرات، شعرات لحاهم الحديثة مبعثرة علي صفحات وجوه مجهدة كالحة لا تخلو، مع ذلك، من مسحة جمال مراهق، كثير منهم حفاة مضمّدون، يقفون صفوفاً منهكة في الساحة الترابية الواسعة قريباً من مهبط الطائرات. لو كنت أكتب قصة لقلت إنه رأي نفسه يلوح خلفهم، صبياً حافياً هو الآخر، كالح الوجه، يشبّ علي قدمين حافيتين مواصلاً النظر نحوه من دون خوف. تباطأت خطواته قبل أن يتوجّه نحو ملجأ القيادة وتراجع قليلاً، فاجأت حركته القادة من حوله، أربكت عناصر حمايته فأوسعوا له، اتجه بنظره نحو الخلاء المترب، سار تحت شمس ساطعة يتبعه ضباط أركانه وقد احمرّت وجوههم والتمعت خيوط رتبهم المذهبة، صقور متوترة مفرودة الأجنحة، ونجوم حادة الحواف، وسيوف باشطة متقاطعة، وبدت خطوط أركانهم الحُمر جلية واضحة. توقف عند نهاية الشارع المبلّط ونظر نحو المساحة الترابية الواسعة، تتخللها نباتات شوكية متفرّقة، حدّق في حفرة بعيدة تشبه حفر برّ العوجة، قريته، وقد تراءت له حركةٌ بعيدةٌ حذرة، سحب مسدسه علي نحو مباغت وأطلق رصاصة واحدة في تصويبة دقيقة قطعت ذيل الجرذ الذي مرّ خاطفاً نحو الحفرة، تلوّي الذيل منفصلاً مثل حبل قصير، تلوّي طويلاً والتفَّ علي نفسه وقد تطاير التراب من حوله.
(فصل من رواية بعنوان: مراقبة الجرذ)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.