مصروفات المدارس الحكومية 2025– 2026.. التفاصيل الكاملة وقواعد الإعفاء والسداد لجميع المراحل التعليمية    تقرير حكومى: توقعات بنمو مبيعات الأدوية إلى 5.7 مليار دولار خلال 2025    آمال ماهر عن صوت مصر: «مش عايزة أكون رقم واحد.. واسمي أكبر من أي لقب» (فيديو)    المسلمون يصلون الفجر قبل وقته بساعة ونصف    مواجهات جديدة بين الشرطة ومتظاهرين أمام فندق يؤوي مهاجرين في لندن    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 21 يوليو 2025    رئيس مجلس أمناء الجامعة الألمانية: مشروع الهوية البصرية تعزيز للانتماء وتأصيل للقيم المصرية    «الرقابة النووية» تُنهي جولتها التوعوية من أسوان لتعزيز الوعي المجتمعي    إنفوجراف| حصيلة 650 يوما من الحرب الإسرائيلية في غزة.. «أرقام الشهداء والجرحى»    رئيس الأركان الإسرائيلي لجنوده: إنجازاتكم تسرع هزيمة حماس    جريمة داخل عش الزوجية.. حبس المتهمة بقتل زوجها بالقليوبية    اليوم| محاكمة المتهمين في قضية فض اعتصام رابعة    السجن المؤبد ل 5 أشخاص لإتهامهم بالإتجار فى المخدرات بالبحيرة    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 21 يوليو 2025 في القاهرة والمحافظات    رئيس مجلس أمناء الجامعة الألمانية: هناك علماء مصريين متواجدين في كل دول العالم    مستشفى العامرية تنجح في إجراء جراحة دقيقة لطفل حديث الولادة يعاني من كيس سحائي    لاحتوائها على مواد سامة.. 3 منتجات يجب إزالتها من منزلك    وفاة امرأة تبلغ 82 عاما في إيطاليا نتيجة إصابتها بعدوى فيروس غرب النيل    "تموين الدقهلية" يحرر 196 مخالفة في 48 ساعة (صور)    بين الهلال وليفربول، الكشف عن مصير إيزاك    طريقة عمل الحجازية في خطوات بسيطة وأحلى من الجاهزة    بالأصفر الساطع وتحت شمس البحر المتوسط... ياسمين رحمي تخطف الأنظار بإطلالة صيفية تبهر متابعيها على إنستجرام    متحدث الوزراء: جاهزون لتعيين وزير بيئة جديد في التوقيت المناسب    ما أهمية عودة الحكومة السودانية إلى العاصمة من جديد؟    تقديم 40476 خدمة طبية وعلاجية بحملة "100 يوم صحة" في الإسماعيلية    أسامة عرابي: الطريقة التي تعامل بها وسام أبو علي مع الأهلي خارج نطاق الاحترافية    «عيب وانت بتعمل كدة لأغراض شخصية».. خالد الغندور يفاجئ أحمد شوبير برسائل نارية    نشرة منتصف الليل| خطوات حجز شقق الإسكان.. وخسائر قناة السويس خلال العامين الماضيين    رئيس "الحرية المصري": رجال الأمن خط الدفاع الأول في مواجهة التطرف والمخططات الإرهابية    برئاسة ماجي الحلواني.. "الوطنية للإعلام" تعلن تشكيل لجنة لرصد ومتابعة انتخابات الشيوخ    بعد مد فترة التقديم لاختبارات القدرات لطلاب الثانوية العامة.. «اَخر موعد للتقديم»    إصابة 3 سيدات من أسرة واحدة في انقلاب سيارة ملاكي أمام قرية سياحية بطريق العلمين    "شباب النواب" تثمن الضربات الاستباقية لوزارة الداخلية في دحر البؤر الإرهابية    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. سعر الذهب اليوم الإثنين 21 يوليو 2025 بالصاغة    التليجراف: وزير الدفاع البريطانى سيعلن حملة مدتها 50 يوما لتسليح أوكرانيا    يوسف معاطي: لست ضد الورش التي تكتب السيناريوهات ولكنها لا تنتج مبدع كبير    لا تأخذ كل شيء على محمل الجد.. حظ برج القوس اليوم 21 يوليو    نادية رشاد: أتمتع بحالة صحية جيدة.. وقلة أعمالي الفنية لضعف مضمونها    شقيقة أحمد حلمي عن منى زكي: "بسكوتة في طريقتها ورقيقة جدا"    واشنطن بوست: قراصنة يشنون هجوما عالميا على وكالات حكومية وجامعات أمريكية    دعاء في جوف الليل: اللهم أجرني برحمتك واجبر بلطفك كسر قلبي    فيديو- عالم بالأوقاف يوضح حكم إقامة الأفراح وهل تتعارض مع الشرع    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 21 يوليو 2025    اعتذار الهلال عن عدم المشاركة في السوبر السعودي.. والاتحاد يؤكد اتخاذ الإجراءات اللازمة    عبد الكريم مصطفى يشارك فى مران الإسماعيلى بعد التعافى من الإصابة    "يريد أكثر من مبابي".. سبب تعقد مفاوضات تجديد فينيسيوس وخطوة ريال مدريد القادمة    "تدخل الإدارة".. نجم الأهلي السابق يكشف مفاجأة بشأن غضب لاعبي الفريق    أنغام فؤاد ومنيب تتألق في صيف الأوبرا 2025 بحضور جماهيري كبير    السيطرة على حريق محدود بجوار مزلقان الرحمانية قبلي بنجع حمادي    باسل عادل: الوعي ليس حزبًا قائمًا على التنافس الانتخابي الضيق    Golden View Developments تطلق مشروع "TO-GTHER".. رؤية جديدة للاستثمار العقاري المدعوم بشراكات عالمية    مبعوث أمريكي: متفائلون بإمكانية التوصل إلى صفقة بين إسرائيل و"حماس"    آدم كايد: حققتُ حلمي بالانضمام إلى الزمالك    هل يستخدم نتنياهو حالته الصحية لشلّ المفاوضات وتجميد محاكمته؟ (تفاصيل)    غرق مركب في نهر النيل بالغربية.. إنقاذ 3 أشخاص واستمرار البحث عن مفقود    وزير الثقافة يفتتح الدورة ال18 من "المهرجان القومي للمسرح المصري" ويكرم رموز الفن المسرحي    أمين الفتوى: التقديم على شقق محدودي الدخل بغير وجه حق «حرام شرعاً»    دعاء الفجر | اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايتان من مراكش
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 03 - 2012


تصاريف العميان
في يومياته المعنونة ب » مساءات غير عادية بعيدا عن بوينس أيرس«، يخبرنا الدون لويس ، الملّقب في كل أرجاء المعمورة »الحكيم الشاعر علي نهج ابن المعّرة«، أنه حل ّ بمدينة مراكش سنة 1952 حلول العارف الذي أبصرها قبل أن يرتحل إليها ، حينما كتب ، بإيحاء من ابن عربي ، عن محنة ابن رشد في »كتاب الألف«.
أمّا وصوله الحقيقي إلي الحاضرة الحمراء، فكان بعد عقدين من ذلك التاريخ الأول، وتحديدا منتصف شهر مارس من العام 1975.
كانت زيارة خاطفة ، لم تستغرق سوي يوم واحد ، قضّي الدون لويس سحابته برفقة دليله السياحي السّي الأمين ، الذي تفضل بقيادته وسط حشود ساحة « جامع الفناء » ، قصد الاستماع إلي رواة الحلقة وهم يسردون حكايات « ألف ليلة وليلة » ، كما توقفا عند امرأة تقرأ الفأل في خطوط اليد وتجاذبا معها لبعض الوقت أطراف الحديث وطوالع النجوم .
وعندما اقتعدا كرسيين لشرب الشاي الأخضر المنعنع علي ناصية مقهي « ماطيش »، أخذ السّي الأمين يحدث الدون لويس مطولا عن فنان مقعد وغريب الأطوار ، سليل المدينة القديمة ، يدعي مولاي لحسن ، كان يعاني فضلا عن شلل سيقانه منذ الولادة من صداع غير طبيعي يشبه طرقا لا يتوقف علي قحفة الجمجمة ، لدرجة أضحي معها مرصّعا بوهم أن ثمة شيئا مّا داخل رأسه مثل الديدان .
أسراب منه كانت تخترق طبلة أذنه وهو نائم ، وتبيض هناك طوال الوقت بأعداد غزيرة لها صوت كسحّ الرمل ، لكنه لا يدري لم لا تخرج تلك المخلوقات المائعة القذرة من الجهة الأخري ، وترفض بإصرار أن تغادر المياه الإقليمية لدماغه .
الأدهي من هذا ، كما روي السّي الأمين ، أن مولاي لحسن أصبح مقتنعا بأن الهسيس الذي تحدثه يده وهي توقع ضربات الفرشاة أثناء الرسم ، هو السبب في نمو ذلك الشيء بأذنه .
فعلي نحو غير معقول ، ساوره الشعور بأن الموجات الصوتية الناجمة عن الحركة النشيطة لأصابعه ، كانت تذكي دورة التناسل في الديدان بشكل لا حدّ له ، وتجعلها تتمادي في النقّر داخل رأسه .
إلي أن أتي يوم ، لم يعد مولاي لحسن قادرا علي الاحتمال أكثر ، فرسم لوحة رائعة كما لم يرسم في حياته قط.. لوحة بث فيها كل مكابداته وعبقريته التي تستوجب أن يموت المرء قبل هذا عدة مرات حتي يرسم بمثل تلك البراعة المعجزة ، ثم أقدم علي بتر مصدر الموجات الصوتية إلي الأبد .
بتر يده اليمني ببلطة ساطور .
تخبرنا نفس اليوميات ، أن أصابع الدون لويس ، المشوهة من كثرة الخلق ، ارتعشت لحظتها علي رأس قطته »بيبو« ، وطفحت عيونه الكليلة بماء الدهشة عند سماعه لهذه الواقعة ، التي منّي النفس ووطد الخيال لكتابتها عما قريب علي شكل أمثولة أو قصة قصيرة ، تحت عنوان : »اللوحة الأخيرة«.
وعلي ما يبدو أن هذا العزم أكلته عجلة النسيان ، لأن أي قارئ أو خبير لم يعثر علي أدني أثر يذكر لهذا التدوين ، سواء في الأعمال الكاملة للدون لويس التي صدرت بعد وفاته بجنيف في 14 يونيو 1986، أم في مخطوطاته المحفوظة بأرشيف المكتبة الوطنية للعاصمة الأرجنتينية إلي يوم الناس هذا .
لكن ، عند تصفح مذكرات الّسي الأمين ، الموسومة »تصاريف العميان في رحاب سبعة رجال« ، تكشف لنا سطورها ، أن الدون لويس قام بزورة ثانية بمعية زوجته ماريا إلي مراكش العام 1985 ، وعبّر للسّي الأمين عن رغبته في التعرف إلي الفنان صاحب اليد اليمني المبتورة .
وهو الأمر الذي نفذه الدليل السياحي الوفي دون تردد وبكل الكرم المشهود للمغاربة .
إذ يحكي أنه قاده عبر سلسلة من الأزقة المظلّلة والدروب الملتوية ، التي يمكن أن تنشب وسطها في أية لحظة حرب أهلية بين الوساوس والجنّ ، إلي مقر سكناه بأحد المنازل المتداعية »الملاح اليهودي« ، ثم قفل راجعا لاصطحاب ماريا إلي الفندق .
بعدها ، اختفي الدون لويس لمدة نهار وليلة بأتمهما، ولما عاد السّي الأمين إلي الفندق للاستفسار ، اكتشف بأن الزوجين غادرا في صباح اليوم التالي إلي وجهة غير معلومة ، لكن موظف الاستقبال سلّمه رسالة تحمل اسمه و ممهورة بتوقيع الدون لويس .
ففضّها السيّ الأمين ، وشرع في القراءة :
انتابتني حمّي طارئة بمجرد دخولي إلي منزل مولاي لحسن .
الرجل أكرم وفادتي واعتني كما يجب بما ألّم بي ، غير أن وعكتي واصلت اعتلالها ، لدرجة أني لم أعد أدري علي وجه اليقين إن كنت متيقظا أم أني احلم .
أردت أن أفيق بيد أني لم أعثر علي نفسي كي أصحو ، ورغبت أن لا أنبثق من غمد الحلم غير أن حواسي ظلت قيد العمل في الجهة الأخري من جسدي .
وفي مهب ذلك السقم ، كنت أري مولاي لحسن علي نفس حالتي بين اليقظة والحلم . أغمض عيوني الجامدة كعيون التماثيل وأراه مغلولا علي هيئة طائر « باز» له حجم إنسان ، يخبط خبط عشواء بجناح واحد واهن لا يكفي للنهوض أو للتحليق .
عيناه فاغرتان علي سعتهما وعتمة طاغية تمتد كالصراط أمام ناظره . تغازله ، فيقع في شرك المشاهدة. يمعن التحديق إليها بإرادة مسلوبة ، إلي أن تطل منها نقطة نور بعيدة تنوس بين الالتماع والانثمال ،وتتحرك في اتجاهه مثل جرم صغير . تكبر تدريجيا، وتبزغ من قلبها فجأة يد تخرق السواد ، ثم تنشب أصابعها في رقبته منعقدة كانشوطة .
تواصل إطباقتها حتي يمتلئ حلقه بالبكاء وتفيض روحه .
آنئذ ، يعود إلي صورته البشرية ويقوم من سريره كما يقوم الميت علي نفخة الصور .
أغمض عيوني وأراه ..فالعيون المغلقة تري ولا تخون.. أراه يسحب أعضاءه ككرسيه المتحرك الذي خلّفه وراءه . أضناه تعب شديد هدم جسده كأنما اصطدم في سباته بكتل وحواف لم يشعر بها في حينها ، لكنه يمشي واقفا في ما يشبه المعجزة . أراه يدخل إلي مشغله ويوصد الباب. ومن خلف خشب الباب أراه يقف أمام حامل خشبي كبير الحجم تغطيه ستارة بيضاء .
أغمض عيوني وأراه يدس نفسه تحت الستارة ، ثم يبدأ الرسم بيده اليسري . يغيب طويلا ويشرق لهنيهات كي يغير الأصباغ أو الفراشي ، وسرعان ما يعود ليخفق تحت الخباء مثل قلب علي وشك الانفجار .
لا أري ما الذي يرسمه ، لكنني أري مقدار ما يغدقه من حماسة وشغف. أري روحه التي ترفع بدنه عن الأرض بعدة سنتمترات . أري مخلوقات الظلام التي تذرع القماشة جيئة وذهابا كي تمد له يد التفاصيل وجوهر الشكل الذي يقول له كن فيكون . أري البقع التي تنفذ إلي مسام الستارة . أري لوحة ثانية تشكلت في غفلة من الأولي ، وسمع سحّ الرمل الذي يعزف بينهما كالناي .
أغمض عيوني وأري مولاي لحسن يخرج أخيرا من تحت الستارة مضّرجا بالألوان التي تغطي ساعديه وتسيل علي أطراف أصابعه . أراه يتراجع قليلا عن الحامل الخشبي ليري ما صنعت يده الفريدة المتبقية . أري نصلا حادا كضربة نور يشق بغتة ما يحيط به من ليل فضفاض لانهاية له . وأري رشاش دم يندفع من معصمه المقطوع ، ويطمس بقع الستارة .
تنكسر يقظتي، فأهب من سريري كالملدوغ لأنقده . أقف دون ما حيلة إلي جانبه بعد أن خرّ أرضا مغشيا عليه . أنظر بجزع إلي اليد المبتورة التي مازالت تتحرك مثل ذيل سحلية . أتقدم وأنضّو عن اللوحة ستارتها .. لم يشبها لون.. وفارغة مثل وجه الظلام .
أفيق فعلا من حلمي. كان أسفل سريري طافحا بالديدان ، ولما حانت مني نظرة إلي معصمي كانت يدي اليمني قد طارت من مكانها.. ولا أثر لأي دماء !» .
»مينوش«
سبب اللقاء الأول ، نبش الفضلات وسدّ الرمق . ومنذ تلك المزبلة العمومية الواقعة علي أطراف مدينة مراكش ، لم يفترقا أبداً .
أطلق عليه عباس اسم »مينوش« ، وعدّه بمثابة ذلك الابن الذي لم ينجبه. عباس الذي تلّف عقله ضبابة عمياء بسبب الحشيش ، ومن فرط عبّه لكميات هائلة من الكحول تكفي لإزهاق روح عمارة بأكملها ، كان أيضا رسام بوهيمي يعبر الأيام كريح قلقة .
هو رجل تركض الكثير من الخيول في ظهره كما يقال. اللّيل له ، والنهار لهزائم أخري. لكن منذ أن التصق « مينوش » بحياته وطفق كلّما أكلت ساقاه الطريق يتبعه مثل ظله ، قرر أن يتفرغ لمنازلة الألوان .
ليس ثمة من سبب معقول لهذا الحلف الوجداني الوثيق ، لكن علي ما يبدو اكتملت دورة روح عباس واستقام تلعثم أفكاره لمّا أصبح له ، أخيرا ، رفيق دائم يمسّد سواد جلده مثل بيانو جديد ، ويري في وميض عينيه الحيوانيتين أصباغا لا حصر لها ستولد عما حين علي أهداب الفرشاة .
في مرات عديدة ، رفض عباس بيع »مينوش« لأي كان من المعجبين بأصله التركي الرفيع ؛ بغرّة البياض التي تتوسط جبهته كحروف الزين، أو بالأناقة التي تنساب في سيقانه كراقصي الباليه ، غير أنه كان يتخلي بأي ثمن عن دفاتر تخطيطاته بالحبر الصيني لصديق العمر لأول سائح فرنسي التقاه بساحة »جامع الفناء« علي قارعة مقهي »كلاصي«.
كان يقول : « كلّما بعت واحدة من أرواحه ، استردها في التو » .
ولأن أرواح « مينوش » لاعدّ لها ، وسعرها أضحي يرتفع مع كلّ تخطيط، توجه عباس ، بعد مدة ، إلي المدينة القديمة علي مقربة من ضريح « مولاي سيدي عبد العزيز» بغرض استئجار غرفة بالسطح ، ولوضع حد نهائي لهواية ذرع الطرقات وحيدا ومهجورا مثل قفاز بلا يد .
لم يعرف عباس أنه دخل إلي المنزل الخطأ . و يا ليته لم يقصد، أصلا، هذا المكان المشئوم.
فالمالك ، أصلع ، قميء الوجه كجرذ ، أخذ يقيس جسده الناحل مثل حفار قبور حقيقي ، في حين ساومه الابن علي مبلغ الكراء بصلافة مستريبة جعلت شيئا كالصرصار يصعد إلي حلقه . أمّا الزوجة البدينة ، محلولة الشعر كالساحرات ، فقد ظلت رابضة عند ضلفة الباب دون أن تنبس ببنت شفة مثل بئر عميقة تستقبل الحجر ولا يصل صوت ارتطامه بالقعر ، وعيونها ذات البريق القاتل تنغرس بلا هوادة في لحم »مينوش« كأسياخ حامية قدّت من حديد .
و بما أن عباس كان متعودا علي ربط لسانه في وتد السكون، وكذا علي وضع شبيه له في محله، ثم سحب نفسه والمضي بعيدا عن صداع الرأس، فقد تمكن في نهاية المطاف وبيسر لم يخطر علي باله من تسلم المفتاح.
كانت غرفة السطح صغيرة لا يزيد عرضها وطولها عن ثلاثة أمتار، مقشّرة الجدران ، لها نافذة وحيدة مثل عين السيكلوب ، وباب خشبي منهك غير محكم الإغلاق .الأثاث قليل لا يؤسف عليه، والمضجع متواضع جدا لا يزيد عن سرير من الحلفاء ومخدة خشنة .
لا يهم . إنها دولة صغيرة لجسدين .« مينوش » يمكنه أن يخرج ويعود متي شاء لتدبر أمر طعامه . وفي غدوه ورواحه يقرأ عباس الزمن في عيونه كما يفعل الصينيون. وفي امتزاج حفيف أقدامه بشهقة المواء ، تهتز صورة شقيق الروح في عقل عباس كأنها انعكاس لقمر طارئ علي بحيرة ساكنة .
وكلّما جرّح الانعكاس اهتزاز مّا، أطلق عباس سراح هواجسه وكسا الحقائق بأشدّ الأوهام إيغالا في الجنون. خطوط و دوائر ومكعبات ومساحات يضرمها زنجي وهمي في أصابعه ليحثه علي ملء فراغ القماشة. يرضخ له ، فيندفع مثل نهر بدائي صوب الأشكال ، التي يخرج منها في كل ّ مرة »مينوش« متلبسا لصورة سوريالية ظلها في العمق ضعف طولها .
« مينوش » كان هناك دائما داخل اللوحة ، وعباس كان يخرجه فقط بعد أن يقبض علي طيفه ، ويجعل النفس تنزل صوب النفس .
لكن »مينوش« خرج ، ذات يوم ، ولم يعد .
تحسّر عباس علي تركه ينسل خارج الغرفة ، خاصة بعد أن اشتكي أصحاب المنزل ، مرارا وتكرارا ، من بقايا فضلاته علي السلالم ، ومن هبشه العشوائي لصفائح الزبال . غير أنّ عباس ربّي الأمل بسطوعه ، بين لحظة وأخري ، علي شاشة بصره . ولمّا لم يعد ممكنا الاسترسال في الأمل، تحرك ليختبر حبال صوته مناديا عليه. يموت النداء الملّح علي حافة الأسنان ويواريه الصدي ، ليفسح المجال سريعا لفؤاد يخفق كراية ممزقة ولافتراضات رمادية من قبيل أنّ »مينوش« جرح في معركة غير متكافئة بعد اشتباك مع الغرماء ، أو أنّ سيارة طائشة دهسته في الشارع علي حين غرّة .
يشعر عباس كأن حفرة عميقة انفتحت وسقط بداخلها ، ويدرك بغريزته أنه لم تعد ثمة فائدة ترجي من الانتظار ، فينزل السلالم وهو يري الليل أمامه والنهار خلفه ، ليلفي كالمصعوق »مينوش« عند مدخل المنزل كأنه داخل جسد آخر ليس له . يتلوي من الألم ويصدر مواء وحشيا كالضواري . أظافره استطالت وباشرت خمش الجدار بقسوة كأنها الرجاء . أطرافه تتشنج وتنتفض عاليا ، ثم ترتطم بالأرض بلا رحمة . شيء مّا يفترس أحشاءه والسم قطف كلّ الوهج الجميل الذي كان يستوطن عينيه.
حمله عباس بين يديه وضمه إلي صدره كالرضيع، ثم هرع به إلي الأعلي ليسقيه حليبا. عفّ الحلق وفات الفوات ، لأن أنفاس « مينوش » كانت قد تسللت خارج الحياة .
عندها عوي عباس من شدّة لوعته، وولول كطفل صغير فقد دميته إلي الأبد. هب ّ إليه أصحاب المنزل وحدقوا فيه باستغراب وهم يصطنعون براءة الذئب من دم »مينوش« ، بيد أن سرّ الجريمة كان ينام في أفواههم المطبقة .
بعد هذه الفجيعة ، عمد عباس إلي بتر ذيل »مينوش« ، ودسّه تحت زليجة مخلخلة في زاوية الغرفة . أما جثته فوضعها في كيس بلاستيكي بلون مشاعره داخل صندوق خشبي. شق ّ ثوبه كالأرامل وسلب الدمع مآقيه لمدة ثلاثة أيام ، قبل أن ينزل ويدفنه تحت شجرة تين كأنه ثمرة سقطت قبل إبّانها .
عقب ذلك ، ربط في عنقه جرسا كالمجذوبين ولزم غرفته لمدة أربعين يوما ، لا يشرب سوي الماء ولا يأكل سوي الثمور. كان يخاف من هجمة الخواء وانقراض الذكري، لذا جعل أمواج الحزن تضرب بلا توقف علي شواطئ روحه وسقي عزلته بجدول الأرق. أقام جنازته الداخلية هناك في ركن قصي من الغرفة لا يبارحه ، يجفل فقط حينما يظهر له ظل « مينوش » مرصوصا علي الحائط أو يمر شبحه خفيفا من بين عينيه .
أضحي غامضا ككل الذين لا يملكون أنفسهم ، بل لم يعد قادرا علي استرداد صوابه ولا علي التوقف عن حفر مئات الصور »مينوش« في ثنايا الجدران .
أراد أن يكون خفاشا وأن تصير الغرفة توأما للشيطان ، فسّودها بالسخام حتي يصبح الظلام عزاء طويلا لا ينطق بكلمة . لبث عباس داخل حلكة الديجور إلي أن أذعن بصره لبداية العمي وانفلت خبله من القفص .
بعدها ، مزق كل لوحاته وهو يدعو دعاء الكظيم المكلوم علي من جعله يسهر داخل جرحه وفي قلب دكنة ما حول العينين . ولمّا صار ضريرا بالكامل ، بدأ يرسم . وامتد حبل الود بينه وبين لوحته التي سينتقم بها لأيام طويلة، أضحت فيها الفرشاة في يده طيعة وممسوسة تشبه حركة الأفعي ذات الأجراس. رسم زوجة صاحب المنزل عارية ، محلولة الشعر ، تجر ثدييها المدميتين سلاسل تصعد إلي عنان سماء من فسيفساء ، وبالموازاة معها رسم « مينوش » ضاحكا ينتصب واقفا فوق سلالم تضيق من الأسفل وتتسع في الأعلي لتطاول النجوم . رسم نسخة أخري من »مينوش« بضحكة أوسع تقف أمام المرأة المعذبة ، وفوقها غيمة تركبها نسخة ثالثة من »مينوش« تبكي بحرقة المغدور .
عند متم اللوحة ، غادر عباس غرفة السطح دون رجعة .
وبعد مضيّ عدة أشهر ، عاد إلي المنزل ليسترجع بعضا من أغراضه القديمة .
فتحت له الزوجة الباب ، ضامرة كحبل ، ومجللة ببياض الحداد ، ثم ارتمت في حضنه باكية ... لقد فارق كلّ من ابنها وزوجها الحياة جراء حادثة سير بعد محاولتهما تفادي الاصطدام بقط خرج من تحت إبط الطريق ومرق من أمامهما...قط هو « مينوش » بلحمه ودمه !
هامش :
» تصاريف العميان «قسط من المعلومات الواردة بين تضاعيف الحكاية الأولي عن زيارة بورخيس إلي مراكش وردت في معرض الحوار الذي أجراه الناقد المغربي محمد أيت لعميم سنة 1999 مع زوجة بورخيس السيدة ماريا قداما في الفترة التي كانت تهيأ لإقامة حفل تكريمي لبورخيس بمناسبة الذكري المئوية علي وفاته. أنظر : خورخي لويس بورخيس ، أسطورة الأدب ، تقديم وترجمة : محمد أيت لعميم ، المطبعة والوراقة الوطنية ، مراكش ، ط 1، 2006، صص26،27.
»مينوش «جزء من المعلومات الواردة بين ثنايا الحكاية الثانية عن علاقة الفنان التشكيلي المغربي الراحل عباس صلادي (1950-1992) بقطه « مينوش » ، استقيت شفهيا من ما رواه لنا شخصيا صديق طفولته وابن حيه الفنان التشكيلي العصامي عبد الفتاح أبو الذكاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.