كان أكثر الأسئلة الملحة طوال طريقي إلي المعرض هو المعني الذي أراده الفنان محمد عرابي باختياره "طواسين" عنوانا لمعرضه الذي استضافه جاليري أوبونتو بالزمالك مؤخرا تأثرا بنزعته الصوفية وبطواسين الحلاج. بادرته بهذا السؤال فأخبرني بأنه أولا يأتي في محاولة لإحياء فكر الحلاج أحد أعلام التصوف، كذلك فإن "طواسين" تأتي كمعادل للحالات التي هي عبارة عن تجليات غير مدركة بالعقل الواعي بالكامل والتي تشبه أيضا حياتنا حين نظن أننا نعرف كل شيء لكن في لحظات ندرك أننا لا نعرف سوي القشور، ولذا فإن "طواسين" هي مرادف للتجليات التي هي نتاج التأمل والتفكير والتدبير والابتكار. وربما تتضح النزعة الصوفية جلية في أعمال الفنان عرابي في كل تلك الرموز التي تحتشد بها لوحاته لا سيما تأثره بالأولياء والمقامات، حيث يري أن هناك أفكارا معنوية عظيمة تحولت لصيغ ملموسة وهو ما فعله الشعبيون في موضوع الولي، مضيفا إن كل ثقافة حاولت تجاوز المرئي لللامرئي بطريقتها. ويذكر الفنان أن مقامات الأولياء بقري قنا "المحروسة والطوبيرات" فكرة أصيلة صاغها المصريون عبر عصورهم الحضارية متلونة بالأفكار الدينية وأبعادها الثقافية المتنوعة، وابتكروا لها صيغة تشكيلية عبقرية تجمع بين التشكيل المعماري والتشكيل المجسم في الفراغ والرسوم الحائطية فتظهر صورة الولي تجسداً للكون علي هيئة بناء بقبة يحتوي داخله علي الهيكل أو الضريح، وتزين حوائطه الداخلية بمشاهد تظهر هوية الولي، ورسوم لفاكهة وأشجار تشبه إلي حد كبير بعيد في فكرتها العامة بحقول أيارو أو مشاهد الجنة أو الحياة الأبدية التي تصورها المصري القديم وجسدها علي جدران مقابر ملوكه وأمرائه ونبلائه.. ويضيف الفنان: عندما تدخل المكان وتشاهد طبقات من الأزمنة مجسدة علي الجدران والتشكيل المجسم، فتضفي علي الصورة زخما يكثف طاقتها الروحية فتستحوذ علي العقل والوجدان في آن واحد، وتبني بداخلك حالات شعورية تثير الأسئلة حول العلاقة بين الملموس واللاملموس .. المرئي واللامرئي .. حول المادي والمعنوي بين الحياة الدنيا والحياة الأبدية، وهكذا تتولد الصور وتنمو في ذهن وتتشكل لها إرادة التبلور والخروج إلي العالم المادي . إن تلك الطبقات المتراكمة من الفكر والوعي والتأمل التي وجدت طريقها إلي روح الفنان محمد عرابي قد تركت داخله صورا شديدة الزخم ينقلها لمسطحه الفني دون تفسير، حاملة من روح كل تلك الأماكن التي تنقل عبرها بداية من قرية جهينة بسوهاج حيث الجذر والمنشأ، ثم مرورا بتجربة القاهرة حيث دراسته ومنها إلي المنيا حيث عمل لفترة ثم إلي الولاياتالمتحدة، ثم الأقصر حيث يعيش ويعمل منذ عام 2000 - وصولا لتوليه منصب عميد كلية الفنون الجميلة بالأقصر .. وهي التجربة التي أثرت في رحلته الفنية كثيرا. وبين قرنة جبل الأسرار بالبر الغربي وسحر مقامات الأولياء الشعبية ورسوم الحج علي حيطان المحروسة وبين أفق واحة سيوة، تتجاوز الحالات الشعورية التي قدمها الفنان في معرضه كل التساؤلات العقلية ولا تجد لنفسها إجابات إلا في صور تشكيلية تتحول فيها العلامات المرئية الواقعية التي هي بصمات إنسانية مفاتيح لعوالم ربما لا يكون لها سوي الذات الإنسانية، أو ربما تكون في أي فضاء آخر تدركه الروح بعين البصيرة . إن ما اختزله الفنان محمد عرابي في لوحاته كان يحتاج مني لمساحات ممتدة لسرد تلك التجربة المهمة والملهمة مرورا بعالمه الثري ومفرداته ودلالة كل مفردة وتضافرها مع باقي عناصر لوحاته .. محاورات ممتدة عبر الأزمنة منذ جدران المعابد المصرية القديمة وحتي مقامات الأولياء، وما بين الظاهر والباطن وقفت أمام لوحات الفنان أشعر برهبة الكشف .. وللحكاية دائما بقية أتركها للمشاهد ليستخلصها بنفسه عبر مروره بالأعمال.