حينما سرنا وراء جثمان وحيد النقاش، لم يكن من نشيعه وحيدا، كنا معه، ولم يكن هو وحيدا، أحلامنا وأشواقنا ورفضنا ومطامحنا الجميلة، أجزاء عزيزة من ذواتنا كانت معه. ولكن أيضا كان قد ترك معنا، علي قيد الحياة أجمل ما كان قد صنعه وبث فيه روحه وذاته. أحلام لنا تجاسر هو وجعلها تعيش الحياة، وأشواق عبر إليها ووضع عليها اليدين.. أيدينا جميعا، رفض نتهامس به فحول هو الهمس إلي مناضلة للخوف والجوع والغربة والتفرد والانزواء والمنفي، أشياء جميلة وصور في خيالنا نجهلها ذهب هو وأبصرها وعرفها ليستحوذ عليها لنا، أبوة نخشاها أو نتشاكي منها عاشها كما لا يعيشها، ولا بقدر أن يعيشها واحد منا فحقق أقوالا عاطفية تقل في صيغة المبالغة عن الحرمان من أجل الأبناء وعن عطاء الحياة لهم في استمتاع لا يتأتي إلا لمن لا يشعر بالخوف ولا تتربص به المقادير المميتة، تطابق يصل إلي حد الامتزاج بين البحث عن المعرفة وبين تقمص المثل الأعلي والحلول فيه؛ بين اكتشاف هدف الحياة الفردية وبين الإيمان بضرورة فهم هذه الحياة في اطار حياة الجماعة والأمة والجنس البشري بأسره، وإلا فقدت حياة الفرد معناها وأصبح العدم المرعب مصيرها الذي يحكم عليها باللامعني والخواء، قدرة علي اكتشاف القصور في الذات وفي الآخرين وفي العالم" صراحة في مواجهة قصور الذات وبحث عن اكتمالها وحريتها بصرف النظر عن قصور الجسد، وتسامح انساني مع قصور الآخرين وبحث عن أسبابه أقرب إلي بحث الشاعر عن حبيبة مفقودة، وشجاعة علي مواجهة كل ما يتكشف من قصور في العالم وعلي استخدامه الوسائل واتخاذ الموقف الملائم لمثل تلك المواجهة. هنا أحب أن أقف لحظة واحدة. إذا كان لنا، نحن أخوة وحيد النقاش، نحن أصدقاءه وأبناء جيله، أن نتعلم من تجربته التي دفع ثمنها حياته نفسها، ففي اعتقادي أننا يجب أن نفكر في قدرته علي تجاوز ذاته، علي الارتجال عن مواقف لم يعتقد في أبديتها لانها كانت مواقف الحركة نحو الحقيقة والحرية، وفي التعالي علي "فرص" كان يمكن ألا يلومه أحد لو أنه نظر إليها علي نحو آخر. مثقفنا المغترب، الشاعري الوجدان، العاطفي النظرة، التأثري المنهج، هذا الرفيق كطيف، الذي يتحاشي "المشاكل" والذي يبحث عن التحقق من خلال اكتمال ذاته وحدها بالمعرفة أو بالحب أو بالأصدقاء أو بالسفر، من كان يظن أنه في غربته وفي احتياجه وفي تحمله لمطالب ابنته الوليدة ومتاعب دراسته الشاقة، وفي باريس نفسها، يتحول إلي مناضل ثوري أثناء حصوله علي طفلته بدلا من أن يكتفي بالتفرج علي الثورة، ومن كان يظن أن يتحول من مجرد متذوق للفن ومستمتع به ومجاهد لأن يمنع الآخرين معه، إلي فنان ومفكر نقدي، يري في الفن قدرة علي تجاوز الواقع وعلي المساهمة في تغيير وجدان الإنسان وعقله وعلي تربية روحه بالعلم والجمال والثورة؟ وهذا المثقف الخارج من وطن متخلف، للمتعلمين فيه قيمة كبيرة وللمتخصصين أصحاب "الشهادات" و"الاجازات" الأكاديمية حق الجلوس علي قمة المجتمع في كل مجالاته، من كان يظن أن "فرصته" للحصول علي مقعد في قمة المجتمع، ستكون فرصته للبحث عن طريق لأرواح القاعدة المسحوقة كي تخرج إلي الشمس وكي تستنشق هواء العدالة والحرية والمعرفة والسلم؟ بعد أن شيعنا وحيد النقاش، خرجت مع الصديقين أبوالمعاطي أبوالنجا وصبري حافظ. رنق الصمت فوقنا كصمت البحر حيث لا تكون ريح. وتسللت الكلمات من أحدنا علي استحياء، أظنه أبا المعاطي، لنتحدث عن الموت. وعن موت وحيد كما من حياته، حصلنا علي الاطمئنان: أننا لا نواجه العدم. فإن الصديق المفقود مازال فينا وإن رحل عنا جسده. هكذا كان يقول أجدادنا وأن أدركنا نحن الحقيقة علي نحو آخر، أن أغلي ما انتجه كان حبه لنا وقدرته علي أن يستخرج من أعماقنا المجدبة. ربما لم تتح له الحياة القصيرة فرصة لكي تتحول كتاباته إلي عنصر قوي التأثير في حياتنا الثقافية والفنية. رغم أن عددا من أعماله كان لها مثل هذا التأثير. ولكن من منا لا يحمل في وجدانه أو في فكره أثرا منه؟ من منا لم يحبه أو لم يتمن أن يعرفه؟ من منا لا يتمني أن يفعل فعله حتي وأن كان عليه أن يدفع نفس الثمن؟ حبه وفكره، ابداعه الخاص، هو ما أورثنا اياه، كانا مساويين لذاته. فذاته تحيا في عمله الذي أعطاه للناس.. وفي حبه. بعدها بيومين زارني الصديق سليمان فياض. كان وحيد هو حديثنا لا لأنه مات ففرض الحدث نفسه علينا. وانما لاننا كنا نتحدث عن صداقاتنا في الماضي، قبل أن تشغلنا الحياة. قلت لعل أروع ما في هذه الصداقات أنها كانت هي "ابداعنا"و"عملنا" الذي كنا نمارسه كأنه "العمل" الذي تتحقق فيه ذواتنا لاننا نمارسه ونحن نحبه ونحرص عليه ونريد أن نستزيده جمالا ووضوحا وصدقا وقوة، دون فرض من مؤسسة، أو تنافس علي منصب، أو ترقب لعلاوة أو لمرتب. وقال سليمان: لعل ما جعل وحيد النقاش، حياته وموته، علما علينا ورتبة نتمناها وشارة يخبئها كل منا في قلبه، هو أنه ترك كل هذا الإبداع الجميل الواضح الصادق القوي في قلوبنا جميعا. تركه وإن لم يكتبه. نقد ا ابدعه وجسده في معايشتنا. وتركه لنا ثم مضي ليأتينا بزاد جديد، لم يكن بخيلا كذلك الاعرابي الذي كان يكتفي بأن ينحر آخر نياقه، كرمه كان بالحب وبالمعرفة وبالجمال وبالصدق، ولذلك فأننا نتغذي منه الآن.. غايتنا فقط، أن نتمكن من تمثله، مأساتنا الآن أننا نكتب عن هذا الابداع في صيغة الماضي. لم نكتب عنه في صيغة الحاضر لاننا كنا نظن أن ابداعه كإبداعنا، فكنا ننتظره، كأنه واحد منا، دون أن نذكره إلا في المناسبات، حتي يعود. فلما مات اكتشفنا تميز ابداعه عن ابداعنا. لأننا اكتشفنا مقدار تميز ما اعطاه لنا، وما اعطاه فداء للمحافظة علي براءة ذلك الابداع الأول، عما اعطيناه أو فديناه به.. أن كنا قد فديناه أو اعطيناه شيئا. لم يكن غريبا اذن أن يتحول وحيد النقاش من متذوق للفن وللجمال إلي مؤمن بقدرة الفن علي المساهمة في تغيير واقع الإنسان وتحقيق حريته، من متباعد عن المشاكل إلي مناضل فعال من أجل العدالة والحرية والمعرفة والحب للمقهورين، بسبب ارتباطه هذا القديم والعميق بالناس وبأصدقائه، منذ كان حرص علي أن يشاركنا ما اكتشف من معرفة وأن يقاسمنا ما نذوقه من جمال حتي لا يتركنا بعيدين عن عالم الحق وعالم الجميل. هذا المتذوق المسالم كان يجب أن يشاركه الناس في المجتمع وفي باعث السلم. فلما اكتشف سبب حرمانهم منه تحول من متذوق تأثري إلي ناقد - وأدرك هو أن ناقد الفن ليس مجرد من يقارن بين القيم وإنما هو القادر علي صياغة واكتشاف القيم الجديدة الإنسانية المتطورة وعلي التبشير بها والدفاع عنها. واكتشف أن مثل هذه القيم لا يمكن أن تكون اكتشافا فرديا، فالجموع بأكملها تصوغها أثناء العمل ومن خلال صنع الحياة، كما أنها قيم لا يمكن أن تظل احتكار الارستقراطية فكرية مهما كانت نبيلة المشاعر أو متعاطفة مع من دونها من البشر. ولهذا استطاع وحيد أن يكشف أن ناقد الفن هو بالدرجة الأولي مفكر نقدي، يستطيع أن يقبل وأن يرفض، لا لكي يرفع أو يخفض، وانما لكي يغير ولكي يبشر ولكي يساهم في تحرك الفكر والحياة إلي الأمام، لمزيد من النور والعدل والحرية. هذا الاحساس العميق بالاحتياج إلي قيم الإنسان المتكامل، المتطابق مع جوهر الانسان الحق، غير المغترب عن هذا الجوهر، هذا الاحساس الذي جعل من وحيد النقاش مناضلا بالفكر والكلمة والموقف والفعل.. هو ما يجعل من موته راية لأبناء جيله المدافعين عن نفس القيم. ففي مواجهة انهيار العالم القديم، كان لابد لأبناء هذا الجيل من اكتشاف القيم الجديدة للعالم الجديد ومن صياغتها. وفي مواجهة انخداع الجيل السابق بالشعارات التي برقعت وجه الواقع المتعفن بقناع كذاب كثيف، كان علي هذا الجيل أن يؤكد صدقه مع الواقع ومع التاريخ. وكان صدقه متجسدا في رفض الأكذوبة، وفي التعلق بحلم الصدق وفي النضال من أجل دفع الواقع إلي تجسيد هذا الحلم وتحقيقه. واكتشف وحيد أن مجرد الرفض لا يكفي ، وأن مجرد التعلق بالحلم قد يكون مجرد هروب من مواجهة العفن الحقيقي، وأن النضال بالكلمة العاطفية أو بالكلمة المنفعلة أو بالكلمة الجاهلة قد يكون مساويا للنكوص في ميدان القتال والخيانة، ولذلك كان عليه أن يمد خطوط اكتشافه إلي نهايتها المنطقية. كان عليه أن يسلح كلمته وفكره بالمعرفة، وعمله النقدي بالفكر النقدي: لكي يصبح عارفا بما يرفضه وبما يريد أن يشيده بدلا من العالم المرفوض، موضوعيا في حكمه علي المرفوض وفي حلمه بالعالم المقبل. عرف أن البحث عن المعرفة بالنسبة لجيلنا مساو للموقف النضالي ذاته، وأن المعرفة للفكر النقدي لجيله هي جوهر هذا الفكر ومبرره الوحيد، فان النضال العلمي لا يمكن أن يكون كذلك دون علم، ودون منهج علمي.. دون احاطة بمادة الحقيقة وفلسفة تستند إلي الاحاطة المادية بالحقيقة. ولذلك كان سفره وكان اصراره علي الصمود في مواجهة كل المشاق القاتلة: احتياجه وفاقته ومرضه، فقد كان يعرف أن الحصول علي ما يريده مساو لمغامرة المقاتل الثوري في بحثه عن السلاح ليخوض به معركته ويقرر مصيره. انكتفي بأن نقول: يرحمه الله؟! ايكفي أن نكتب عنه، وأن تكون كتابتنا في صيغة الماضي؟!