في عامه الستين، كان جمال الغيطاني يعتقد أنه يقترب من النهاية. جلس يتذكر من خلال نثر حياته. يتذكر الجمال قبل أي شيء. جمال المرأة. لنستمع له: "حقيقة، العواطف التي أبهرتني وألهبتني طوال حياتي، والتي أتاحت لي أن أتعرف علي أقصي درجات اطمئنان النفس ورضا الحواس، تتصل بالنساء". فهو متذوق للجمال، يحب أن يكتب عن كل النساء اللاتي قابلهن أثناء أسفاره: في قرطبة، في باريس، في سمرقند، في بغداد. إنهن حقيقيات لكنهن متوهمات، أجساد تظهر بين السماء والأرض. تستبد النساء بالأرض وبروحه، خفيفات كالهواء، توصّلن إلي الجنة، إلي المطلق. لعشاق الأدب اقرأوا للصوفي العبقري جمال الغيطاني. اقرءوا له في هذا العصر ذي النزعة العدمية، في فترات اليأس هذه. الغيطاني يبرز لنا. يعلمنا الانبهار. فقد صُدر له باللغة الفرنسية رواية (خلسات الكري). مجموعة من المذكرات التي دونها عن النساء، والتي تبدو للوهلة الأولي أنها اعترافات عن علاقته بهن. فعند قراءتها عن كثب تجد نساء الغيطاني؛ الحب الأول الذي قابله في فترة شبابه الذهبية، المرأة المحرمة، كلير الفرنسية البغيضة، وكذلك الاسطنبوليات والبغداديات والإيرانيات بشهوانيتهن المعروضة. كل واحدة منهن تجسد حياة يخلقها الغيطاني بنفسه. هو ولي من أولياء القاهرة. زاهد. صوفي. وفي كتاب التجليات عام 2005 كان يكرس لصوفيته حين أنصت إلي صوت ذلك الذي أرشده من هذا الضياع في خطواته الأولي. يكتسب الغيطاني يقين:"لم يعد أي شيء قاسياً سوي اللحظات الماضية". يكرس بجنون لمذكراته. ودفتره الخامس من دفاتر التدوين (نثار المحو عام 2008) يشهد علي ذلك. يبدو الغيطاني أقرب إلي الشاعر الصوفي. يسمع في كل كتاب أنشودة جديدة من أجل الصراع ضد ذلك الذي يسميه"الجائر الأول"، فالموت بالنسبة له كل شيء يبدأ وينتهي بالقرب من مقبرة. منذ طفولته وحتي الاعتراف به ككاتب. كان حريصاَ علي اكتشاف الحياة من حوله، الذي بدأها بنسخ الكتب التي لا يستطيع شرائها مثل ترجمات فرويد. لكنه أدرك مبكراً أن الحياة لن تتيح له المعرفة اللا نهائية. وفي عامه الرابع والعشرين كاد أن يقترب من العدم، حين تم اعتقاله في الستينات لكنه أصر علي العيش، بدا ذلك جلياً في رواية (الزيني بركات) التي استعار فيها انعطافات الماضي ليفضح الظلم والقهر. ولأن جمال الغيطاني لا يمكن أن يُقرأ بوصفه كاتباً سياسياً، نجده أقرب إلي شاعر.. يستعين بكل أسلحة اللغة الرفيعة. فهو يجمع بين التصوير الشعري الصوفي وميتافيزيقا الحضارة الفرعونية. ما جعل المرأة في كتاباته تبدو كأنها شيء مقدس. فقد شغلته، مثلما شغلت فرويد فسيطر عليه السؤال المركزي: ماذا تريد الأنثي؟ يصفها الغيطاني قائلاً: "المرأة عصفور، طائر الفنيق أو حمامة، نهاية العالم أو ميلاده من جديد. وفقط بنظرة رقيقة يمكن إمتاعها. الرقة هي هذه العاطفة النوستالجية التي تجمع بين الانتحاب المفرط والنشوة الموسيقية". لذلك كنت بحاجة إلي معرفة أسراره مع المرأة، التي كشف عنها في حوار امتد لعدة ساعات. التدوينات التي جُمعت في نثار المحو وخلسات الكري.. أهي مذكراتك؟ هذه التدوينات هي شكل فريد في الأدب العربي.هي ليست مذكرات، بل محاولة لاستعادة الذاكرة. أجمع نثار وجودي. لهذا السبب خصصت التدوينة السادسة للأسماء. ففي الفكر المصري يتكون الإنسان من خمس أجزاء: الجسد، والعقل، والروح، والظل، والاسم. الأهم في ذلك الاسم، إذ يستند جوهر الحضارة المصرية علي ديمومة الاسم بعد الموت. فقد شيد المصريون الحضارة القديمة من أجل بقاء الاسم. توت عنخ أمون لا يزال حي.هذا الاعتقاد في الخلود بفضل مقبرة تذكارية. في هذه التدوينات تحافظ أيضا علي ذاكرة خيالك..؟ أتت التدوينات من خلال هذه الفكرة المأخوذة عن الصوفية: كيف سيكون الماضي لو أن ما حدث ما كان قد حدث؟علي سبيل المثال، لو أني رأيت فتاة جميلة سوف نتبادل النظرات، لكننا لن نتبادل الأسماء، أبدأ بتدوين هذه اللحظة عندما كانت الحياة شديدة القصر. مثال آخر أكتب اسم مدينة لم أتمكن من الذهاب إليها في مفكرتي، مثل نيسابور، أو مدينة الأسطوري عمر الخيام، حيث أستحضرهما انطلاقا فقط من رنين الاسم. هذه الأشياء التي أحكيها يعتبرها كثيرون وهم، لكنها واقعية في مفكرتي. أحياناً لا نعيش سوي مسودة الحدث. لذا، عبر الكتابة، أنجح في أن أعيش اللحظات التي لم تحدث قط. هناك ألف حياة تنتمي لي. لقد اخترت شكلا يستحضر شكل الاعترافات لأن القارئ يحب أن يشعر إنه محروم من الحياة، كما لو كان يراقبها من ثقب الباب. أجعل القارئ يعتقد أني سلمت له نفسي، وهذا طُعم. هل لذلك سمي الكتاب (خلسات الكري) حيث تمتزج المرأة بالخيال والواقع؟ نعم، المرأة موجودة في كل هذه التدوينات. التدوينة الثانية مخصصة للقطار. القطار الذي استقلته أمي عندما كانت ما تزال تحملني في رحمها. كانت تتجه نحو صعيد مصر لتضع حملها في المستشفي. ومنذ تلك اللحظة وحياتي في حالة حدث دائم، كما القطار، نساء تظهر وتختفي فيه. فمن المستحيل إخماد الأنوثة فهي نبع الحياة والجمال. للأسف، الديانات الثلاث وضعت المرأة في مستوي متدني، رغم أنها انبثقت من الديانة المصرية القديمة التي كانت فيها المرأة أم الإله؛ إيزيس أم حورس، وأرملة أوزوريس، كانت الشخصية الأكثر أهمية في علم نشؤ الكون المصري. في هذا العصر كان الجمال بالفعل بوابة عبور إلي الإله والأنثي. فما من امرأة إلا ولديها جمال. حتي الرجل يستطيع التعرف علي الجمال لأن الأنثي تسكنه. في أعمالك هل الإنسان كون في قلب أكوان؟ أنا مولع بملاحظة السماء، بحثت أيضا عن الصور الملتقطة بفضل واحد من أكبر تليسكوبات ناسا، حتي أتأمل الملكوت. لو قارنا هذه الصور بصورة قطرة دم ملاحظة تحت الميكروسكوب سنكتشف أنهما يتشابهان: كونان لا نهائيان. الإنسان كون صغير والكون إنسان كبير. في العمارة الفرعونية المعبد أنثي والمقبرة أنثي. في الأقصر لتدخل إلي مقبرة فرعون أو عامل، يجب أن تعبر دهليز طويل لا تقف فيه أبدا، فلابد أن تسير علي أربع.عندما ندخل الغرفة الجنائزية، نجد أنفسنا في حجرة بيضاوية. كذلك رحم المرأة بيضاوي. الذهاب إلي القبر يجب مقارنته بالعودة إلي الأصل. في وقت قريب اكتشفت الفكرة الصينية عن الموت، وجدتها قريبة جدا من الفكرة المصرية الفرعونية. فعندما ذهبت إلي مقابر الأباطرة الصينين كان المؤدي إلي المقابر ضيق للغاية، طريق لا يمكن أن نسير عليه إلا فرادي، كما في الأهرامات. أريد أن أتحدث عن الشعب المصري، هل توقعت أنه سيغضب يوماً، ويثور شبابه؟ في 1974، كتبت قصة كنت أتخيل فيها أن مصر تُباع في المزاد: أرضها، شعبها، كل ما فيها تم توزيعه لمن يدفع أكثر. إنها حكاية عبثية ومع ذلك ما تخيلته حدث، بل وأسوأ. عندما وصل السادات إلي السلطة فتح الباب للحرامية. السادات لم يكن فاسدا، لكنه سمح بوضع أسس لنظام فاسد. حينئذ عرفت مبارك كرئيس لسلاح الطيران، وكان يُعتبر كبطل للحرب. لم أفهم أبداً كيف أن رجلا كان بطلا في عيون الشعب يصبح لصا في الحكومة. كيف أن عصابة من المافيا استطاعت الاستيلاء علي السلطة؟ منذ ثلاثين عاماً، أكتب ضد النظام، وأعتقد أنه لا يزال حتي اليوم، ومن الضروري أن نكون حذرين، فرغم أننا قطعنا رأسه، إلا أن الجسد لا يزال يتحرك! لقد جعل مبارك الدولة ترتكز عليه فقط، وهذه كانت جريمته الأولي. مصر عرفت العديد من صنوف الاحتلال الأجنبي لكني أعتقد أن الأجانب كانوا أكثر رحمة تجاه الشعب المصري من مبارك ومن سبقوه. الكاتب المُحتج الذي كنت سيتحول إلي مرشد ثوري؟ مصر بلد نائم منذ خمسين عاما. لكن هذه السنوات لا تمثل شيئا بجانب ألاف السنين التي شهدت الحضارة المصرية. للأسف عشرات السنين هذه توافقت مع حياتي. بالنسبة لي إنه لبؤس عظيم أن تعرف مصر المهانة. كنت أقول دائما أني أود العيش يوم من دون مبارك، أو من دون واحد من جماعته في السلطة، وهذه هي الحالة منذ ثلاثة أسابيع. أنا الآن كشخصية جيوفاني دروجو في صحراء التتار للكاتب الإيطالي لدينو بوتزاتي، الذي ينتظر طوال حياته التتار ويموت عندما يصلون. لم أصنع هذه الثورة، كنت شائخا للغاية، لكني شاهدتها، أستطيع أن أموت إذن. أيمكن أن نتخيل نهضة ثانية لمصر؟ مصر مثل طائر الفينيق. إنها في طريقها لتبعث من جديد.. من رمادها. أعرف أن الفترة صعبة جدا اليوم، لكني أعتقد أن هناك مستقبل. في عام 1919 لم تكن الثورة المصرية ضد المحتل البريطاني بسيطة. كانت تقودها مجموعة من أحزاب المعارضة بينما ثورة 2011 هذه لم يوجهها أي قائد، جسدها الشباب. كل مصر، أقباط ومسلمين، رجال ونساء، تجمعوا في ميدان التحرير. أعتقد أن هذا كان أمارة علي وحدة قوية. هل يمكن أن تتبع الثورة السياسية ثورة أخلاقية وفنية؟ نعم، بعد ثورة 1919 عشنا ثورة موسيقية ومعمارية وأدبية. نجيب محفوظ كان من نتاجها. ما كان ليستطيع أن يكتب أبداً لو لم تحدث هذه الثورة. تخطي الروح القومي الروح الديني بفضل المصريين. اليوم أعرف أن الأصوليين تسربوا إلي ثورة يناير، لكني أعتقد أن العلم المصري سيقتلع أعلام الإسلاميين الخضراء. إنها ليست ثورة المتعصبين الدينيين. الهجوم علي الكنائس المسيحية كان من أقلية تدعم النظام القديم. منذ روايتك الأولي (الزيني بركات) وهجائها لمصر ناصر، وأنت لم تتوقف أبدا عن كونك كاتب ملتزم. دائما ما رفضت أن أكون كاتبا تأمليا، أود أن أشارك فيما يحدث تحت بصري. لذلك ذهبت إلي ميدان التحرير في يناير. استقبلني الشباب هاتفين:" ها هو مؤلف الزيني بركات". أصبح الزيني بركات رمزا لمقاومة الشرطة السرية في الحكومة المصرية. لقد أتاح لي هذا العمل أن أكون قريباً من الشباب، كما كنت كذلك في سن العشرين تحت حكم ناصر. لقد كنت دائما في اليسار، مهموما للغاية بالمصير المصري. في عام 1966 كنت قد أرسلت إلي المعتقل الناصري، كانت تجربة قاسية: لم يكن يعرف أي شخص أين نوجد، كنا ننام علي الأرض. وفي الشتاء كان الجلادون يلقون بالماء المثلج علينا.عندما كانوا يستجوبوننا كانوا يمارسون أيضا التعذيب بالكهرباء.. بعدها تأكدت أني لن أتوقف أبدا عن الكتابة ضد النظام. بالتأكيد اكتشفنا منذ سقوط مبارك السجلات التي كانت تحتفظ بها الشرطة السرية. ليس هناك شيء يحسد عليه ناصر، كل الصحفيين كانت لهم سجلات في أدق تفاصيلهم. علي سبيل المثال كان هناك مقدم برامج مشهور مراقب، حتي وهو يزور أمه أو عندما كان يذهب إلي الحمام..! هل تكتب للشعب؟ لا.. أكتب الأدب لهؤلاء الذين يعرفون القراءة. عندما أريد أن أقول شيء للشعب أكتب أعمدة في الصحف ذات التأثير. كيف عشت كمثقف في مصر هذه المقبوض عليها من الرقابة والشرطة؟ لقد ولدت تحت الرقابة. منذ الستينيات مارست النشاط السياسي، تعلمت إذن الحذر في كل اللحظات. تحت حكم ناصر لم أدون أرقام تليفونات معارفي. كنت أحفظها عن ظهر قلب لأحميهم من الاستجوابات. تحت حكم مبارك، كان الأمر مختلف، لم يجرؤ علي مهاجمتي لأنني كنت قد اكتسبت شهرة واسعة. كان يسمح للمثقفين أمثالي بالكتابة، لكنه كان يرسل فيما بعد الكتاب المتواضعين الذين كانوا يدعمونه للتشهير بي في الصحافة. فلتأخذ علي سبيل المثال كتابي الأخير عن الفساد جعل منه أعدائي رواية مفتاحها يتعلق بأسرة مبارك، اتهام من الممكن أن يرسلني للموت. بل كذلك يشهر بعملي ككاتب. لأنه لو كنت قد كرست رواية بالفعل لأسرة مبارك فهذه مصيبة علي المستوي الأدبي: الواقع لم يكن بالنسبة لي سوي نقطة انطلاق بسيطة جدا. كل كتبي هي ضد الظلم. ولم تكن تعني فقط الظلم الحكومي، بل الظلم الكوني. حتي الزيني بركات تؤخذ في الاعتبار، فيما وراء الديكتاتور الناصري، مناهضة الغواية البشرية ليصبح إله. كل رواياتي تفضح الاضطهاد التي تجابه الإنسان، وأولها خاصة: الموت. كل هذه الكتب غير الصوفية، الزيني بركات، رسالة البصائر في المصائر، تختار شكل روائي خاص. ألا تكتب بنفس الطريقة عندما تفضح الاضطهاد؟ في كل كتاب أبتكر لغة جديدة. فيما يخص الزيني بركات كتبت الرواية بلغة القرن السادس عشر حتي أهرب من الرقابة. لقد قرأت آلاف الصفحات من أدب هذا العصر حتي أعثر علي روح هذا الأسلوب الميت.عندما قرأ الرقيب الحكومي هذه الرواية اعتقد إنه بصدد مخطوط قديم مفقود، إنها ضد فكره العتيق! الجهد الأول لعملي الأدبي هو خلق لغة تقترب من المعني، وفي بعض الأحيان ابتكار مفردات جديدة، وفي أحيان أخري البحث في المفردات العربية الكلاسيكية. أنت إذن شاعر قبل أي شيء.. أحاول بشكل خاص أن أخلق لغة حساسة وصوفية. في التدوينات هذه، اخترت أسلوبا مولع بالحواس للحديث عن النساء أو موروثا لاستحضار الصعيد. لدي ولع بالموسيقي العربية والإيرانية والصينية. أعيش بشكل دائم مع الموسيقي. فالرواية قبل أي شيء إيقاع. عندما أكتب، أصبح المهندس المعماري لهذا الإيقاع الأولي. كذلك أحاول خلق نص "غيطاني". نص يمكن أن يُقرأ دون معرفة إنه لي، لكن تحدد هوية لغته التي ستكون لغتي. في كل كتاب ،أرحل من جديد باحثا عن هذا الصوت الذي لا زلت أجهله. إنه الشيء الوحيد الذي يسمح لي بمتابعة الكتابة. التدوين الذي أكتبه حاليا يحاول أن يُسمع اللحظات الأخيرة لإنسان يواجه الموت.