هو واحد من معالم مصر يدل عليها وتدل نايات البعيد وشقاء الازقة ودفوف. الأعياد سخرية لا تجرح، وقلب يسير علي قدمين صلاح جاهين يجلس علي ضفة النيل تمثالا من ضوء، يعجن أسطورته من اليومي، ولايتوقف عن الضحك إلا لينكسر. يوزع نفسه في نفوس كثيرة، وينتشر في كل فن ليعثر علي الشعر في اللا شعر. صلاح جاهين يأكل نفسه وينمو في كل ظاهرة، ينمو لينفجر.. وخيط رفيع من ضوء القمر في حقل مفتوح، يعج بالقطن والذرة والبؤساء، هوأحد المشاهد التي يغدقها علينا هذا الغناء غناء جديد يحاذي الخبر، كأنه يضع جدول أعمال للقلب .غناء كان يأخذنا إلي السفوح ونار المعجزة .غناء يحرك الآن فينا حنينا واضحا إلي ما ابتعد في الغموض. غناء يتلمس ماكان فينا من قوة العمل وقوة الأمل .غناء يتطلع إلينا نعود إليه، لنمسك بطرف الغناء السابق.. صلاح جاهين، صلاح جاهين، لاأعرف كيف أستعيد ذلك الفصل الضائع من عمر جميل جرنا إلي اليقين ولا أْعرف كيف أجد الكلام الجدير باستعادة كلام تحول فينا رلي مصر، ولاأعرف كيف أمشي في وطن تحول الي شجن، وكيف أتحمل شجنا تحول إلي وطن. ومصر في مكانها والنيل في مصر.. مافينا من مصر هوالذي يشرق ويغرب.. هوالذي يقترب ويبتعد. هوالذي ينكسر ويلتئم ومصر في مكانها وفي تاريخها وصلاح جاهين هوالذي قال لنا، بطريقة لم يقلها غيره، إن مافينا من مصر يكفي لنفرح.. فهل استطاع النشيد أن يفرح؟ عرفت صلاح جاهين منذ تعرفت علي صواب قلبي الأول، منذ يممت مع أبناء جيلي شطر الصعود إلي أعالي الأمل ولم يكن في مقدور ولد مثلي أن يسلم بأنه يتيم الوطن والهوية مادامت مصر ذلك الزمان تقدم للعرب هوية روحهم، وتوقد القوافل المشتتة الي شمال البوصلة. عبدالناصر يصوغ مشروع الوعد الكبير، عبدالحليم حافظ ينشد للعمل والموج والصعود، أم كلثوم تشهر شوقنا للسلاح، وصلاح جاهين يسيس حناجر المغنين، ويؤسس تاريخ الاغنية الجديدة ويحول العمل إلي ورشة أفراح. لقد انصهر الوطني في القومي في المشروع التوحيدي الذي انكمشت علي ضفافه لغة الاحتكام، هنا وهناك، إلي مرجعية الخرافة، مرجعية السلالات الأولي الرامية إلي الاغتراب والاستلاب، لتستبدل بمرجعية واحدة هي وحدة الوعي بما يتطلبه الحاضر العربي من استنفار ما فينا من مشترك اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافا والمصلحة والخطر. كنا نتأهب، لأول مرة، للدخول في تاريخنا من بوابة الصراع الشامل.. كنا نحلم بالحضور. لذلك استطاع مطلع النشيد أن يفرح.. صاعدون إلي مغامرة الحرية والجمال، صاعدون إلي مدار الشعر، صاعدون إلي ترويض المستحيل. »أنا اللي بالامر المحال اغتوي شفت القمرنطيت لفوق الهوا طلته ماطاتوش؟ إيه أنا يهمني وليه؟ مادام بالنشوة قلبي ارتوي.. صلاح جاهين يسير علي الطريق الطويل، ونحن نمشي، في معارك لا تنتهي »يا أهلا بالمعارك« دون أن يهمنا القطاف السريع بقدر ما تهمنا نشوة المحاولة في السير. تلك هي لذة الإبداع وتلك هي متعة التضحية. أما حساب الربح والخسارة فلا يدخل في أقاليم المخاطر الشعرية: هل نقطف القمر؟ أم يخطفنا القدر؟ ليس هذا التردد سؤال القصيدة المهم هو أن نلتصق بطريق لابديل عنه سوي هزيمة الروح، وهشاشة الدفاع. إن محاكمة السير علي طريق الحرية بمعايير سلامة الوصول المضمون هي المدخل الفكري، شديد الذكاء والخبث، للتراجع عن الهدف وعن الطريق معا، تماما كمحاكمة الشهيد علي اندفاعه واقتحامه. أليس هذا ماحدث فيما بعد؟ أليس هذا ماأشاع لغة الاعتذار عن كل نقطة دم حاولت أن تستدرج القمر؟ ولكن سؤالنا، ذلك السؤال الساطع الأول، مختلف إن مهمة الطريق هي أن يواصل طريقه دون مقايضة النتيجة بخوف الحساب، وماعلي الغناء إلا أن يغني: »ثوار، ولآخر مدي ثوار، مطرح ما نمشي يفتح النوار ننهض في كل صباح بحلم جديد وطول ما أيد شعب العرب في الايد، الثورة قايمة والكفاح دوار. ثوار، نهزك ياتاريخ تنطلق، نحكم عليك يامستحيل تنخلق، نؤمر رحابك يا مدي تمتليء، والخطوة منا تسبق المواعيد.. ولذلك، فرح النشيد هل يطمح الشاعر إلي أكثر من تحول صوته الفردي الي صوت شعب، وإلي ختم شخصي علي مرحلة؟ لقد وقع صلاح جاهين علي قلوبنا وعلي فصل من عمر جيل الوعود الباهرة، ومضي فجأة بعدما تعرض العمر الي صدمات هاهو يضي، يحمل جسده المثقل بالعسل المر وبارتفاع القمر إلي أعلي وأعلي ولكن هل يمضي وحده؟ كم نظلم الشعراء لنتماسك! لهذا نقول للصديق الراحل: إذهب وحدك أما النشيد فهول لنا نشيدك، فاذهب الي حيث شئت مادمنا قد امتلكناك وأنت صوتنا، وأحد أسمائنا الاولي... صلاح جاهين، الشاعر الذي قال نيابة عنا ماعجرنا عن قوله بالفصحي، هو الشاعر الذي قال لنا ماعجزت عن قوله العاميه، الشاعر الذي حل لجمالية الشعر ولفاعليته العقدة الصعبة: وعورة المسافة بين لغة الشعر ولغة الناس ومابينهما من تباين والتحام. صلاح جاهين، نتطلع الآن الي غيابه المحمل بما يغيب منا، نتطلع إلي مايحضر من غياب، فلا ننكسر تماما لأننا نري قامات الخطي الاولي وهي تهيمن علي الظل، ولأن ماتبقي من روح فينا يبحث عما تبقي من قوة النشيد لا لنتذكر فحسب، بل لنصد عنا غزوات الاعتذار الرائجة. لا ، لم نخطيء حين انتمينا، بقوة البديهة والوعي معا، إلي مافينا من مصر ولم نخطيء حين اندفعنا، بدافع الدفاع عن النفس وعن الحلم، وحين استندنا إلي مافينا من واحد عربي ولم نخطيء حين وجدنا الطريق في هتاف اللحم البشري الجريح: ما أخذ بالقوة لايسترد بغيرالقوة. ولم نخطيء حين أنشدنا من كل القبور المفتوحة: والله زمان ياسلاحي.... فهل ابتعد النشيد؟ ليس تماما، ياصلاح جاهين، فقد التوي قليلا ليلتف علي صخور وليأخذ مساره الحاسم. القمر ليس قريبا الي هذا الحد وليس بعيدا إلي هذه الكآبة، وليس محالا الي درجة تعيدنا الي البئر المهجورة.. سلام.. سلام، ولاسلام: لأن مصر ليست ملكية شخصية لحاكم تمزح الاقدار لتطبعه علي شاشة أمريكية فمن يعيدنا الي مصر؟ ومن يعيد مصر إلي ذاتها من خارجها؟ ذاك سؤال أحمق يقوله موظفو الجامعة العربية لتبرير العجز عن عقد قمة علي حضيض ولتحضر في غياب. حرب.... حرب،و ولاحرب هل غابت مصر حقا؟ هذا هوسؤال الذين صدقوا النشيد لأنهم صدقوا دمهم.. سؤال الناجين من المؤقت الطائفي والإقليمي والقبلي والذاهبين إلي معني مصر الدائم.. فاذهب، ياصلاح جاهين، إلي حيث شئت اترك صباحنا بلا ورد ساخر فينا، من نشيدك مايكفي لنواصل الغناء لمصر العرب، ولعرب مصر فينا منك مايزود الذاكرة بمطلع العمر الجميل وبما هوجدير بأن نقبل مزيدا من العمر العنيد إذهب الي حيث شئت ولا تصدق أن حزيران هوأقسي الشهور، فسنشهد بعدك علي سنين أقسي، مادام التدهور لم يبلغ قاع تدهوره، ومادام لم يفرغ ملوك الطوائف، بعد، من تكوين طوائفهم. زمن رديء- قالوا - زمن وغد، فودعه بلا ندم. واترك لنا ذاكرة البدايات المؤمنة بقدرة النشيد وقدرة سكان النشيد علي إعادة صياغة الواقع الجديد، وعلي استبدال شرعية الفصحي الرسمية، فصحي الكاتب الرسمي وفصحي الحاكم بشرعية الشارع والنيل والطين، بفصحي جديدة تعبر عن امتلاء الكلام بشرايين الحياة واستغاثة الروح. صلاح جاهين، سنتسلح منك بما نشاء من وعود.سنختار من الاشجار أوفرها خضرة سنأخذ منك ما يجعلنا أقوي، ومايصل فينا ما انقطع في علاقات الفصول وسنأخذ منك عبرة التطابق بين الاغنية والمغني، لنشهد علي براءة جيل من اختلال الشبه بين الواقع والمرآة ، وبين الارادة والاداة، ولنبقي قريبين حتي التلاشي من جوهر الشعر ومن جوهر مصر.