هل هكذا يفعل بنا مكاوي سعيد: [ذات مرة طلب ملك شاب من حكيم شاب تلخيص قصة حياة الإنسان؛ بعد عشرة أعوام عاد الحكيم بكتب محملةٍ علي ألف جمل ومعها ألف عالم؛ إلا أن الملك طلب منه أن يختصر لأن وقته لا يسمح؛ بعد عشرة أعوام ثانية عاد الحكيم بمائة جمل ومائة عالم، وتكرر طلب الملك، وبعد عشرة أعوام صارت المائة خمسين، وبعد عشرة صارت ثلاثين، وبعد عشرة صارت عشرة جمال وعشرة علماء، وفي النهاية جاءت رسالة صغيرة إلي الملك الذي كان يصارع الموت شيخوخةً، قال حاملها للملك: سيدي لقد مات الحكيم، لكنه أوصاني أن انقل لك خلاصة ما وصل إليه عن قصة حياتنا: "يولد الإنسان ليقاسي ويموت".. ؟ هل هكذا يفعل بنا مكاوي سعيد بعد سبعمائة صفحة: عاش أحمد الضوي مع ريم مطر وقبل أن يرتبط بجيهان العرابي مات..؟ الرواية ليست ما تحكيه.. أو بالأحري ليست ما تحكيه فقط؛ إنها ما تشير إليه، إنها الرحلة والمغامرة، إنها الأفق الذي لا يحد بنهاية الصفحات، وهذا ما تجده في رواية يبدو ذ ظاهريًّا ذ أنها تحكي قصة حياة بشر عاديين يمثلون نماذج عادية من المجتمع المصري. يبدو النص أشبه بكرة الثلج التي كلما تحركت زاد حجمها، وجمعت ما تقترب منه؛ فكيف بهؤلاء الثلاثة وقد جمعوا العالم بتشوهاته ومشكلاته وأحداثه دون أن يتحدث النص صراحة عن هذه المشكلات الكبري؛ فقط يريك بقدر النافذة وعليك أن تكمل، ولتنظر من نافذة ضابط امن الدولة لتري كيف يتجه العالم علي محفة من القنابل إلي محوه المنتظر. 1 اختار الناص في روايته أن يكون السرد بضمير المتكلم كما فعل في تغريدة البجعة، لكنه انحرف قليلا عن المسار السابق فجعل السرد علي لسان ثلاث شخصيات مما جعلها روايات شخصيات، وجعل القارئ أمام ثلاث روايات للأحداث نفسها حين تتقاطع وهي في الوقت نفسه ظاهريًّا اعترافات. 2 ريم شخصية تراجيدية بامتياز؛ فهي محكومة بقدرٍ يضعها علي طريق لا تغادره، وإن بدا لها أو للقارئ أنها تتمرد فإن التدقيق في الأمر يكشف أنها تسير كما خطط لها تمامًا، يبدو ظهور ريم منذ السطور الأولي ويبدو أنها متحكمة في الضوي، وأنها تعرف كيف تجعله يطيعها حتي في أمور قد يرفضها كثيرون. ريم التي لم تكمل شيئا بالمرة.. لا التعليم ولا الزواج ولا التمثيل، تحاول أن تظهر بمظهر الفنانة والفاتنة صاحبة المشروعات المستقبلية الكبري. ريم ابنة أب فاسد مات في السجن بعد أن لوثها بحضور للقمار وبهدايا لا تناسب سنها، وبعد أن دمر تاريخ عائلة ومستقبل أسرة. ريم باذخة الحسن الجبارة المسيطرة العاشقة للحياة هي علي الحقيقة ريشة في عاصفة مربوطة بإحكام إلي مرساة.. وما تمردها إلا تلك الانتفاضة العشوائية بفعل رياح أب غير مسئول وأم محطمة وأخت لا قيم لديها، ومخرج ترك روحه وفنه بحثا عن المال، وبنت ليست من رحمها.. تعاني من التوحد (فكأنه المستقبل المدمر ثانية) ومهندس عدمي ليس من طبقة أسرتها ولا من كيفية معيشتها.. ريم التي تعشق وتكره.. تتفنن في إرضاء معشوقها وتتفنن في إهانته وإيذائه.. يرفض قدرها أن تشارك في أي شيء له مستقبل. 3 أحمد الضوي العدمي اللامبالي المتنازل عن ميراث أبيه وأمه، الذي لم يحاول أن يؤسس مستقبلا يليق بمهندس فتحت له الدنيا ذراعيها مرات عدة، إلا أنه مدفوعا بقدر عدميته يغادر أطواق الأمان واحدا واحدا.. وفي المرة الوحيدة التي يختار النجاة يسقط برصاصة ربما نال مطلقها نيشان حماية الثورة. الضوي القادم من الصعيد خالعا الصورة الذهنية للصعيدي.. يترك الحياة تسيره كما شاءت دون أن يعتني بشيء، يتواطأ مع قذارة عالمه فيدفع الرشاوي، ولا يجد غضاضة في الزواج من ثيب علي أنها بكر، ثم في لحظة ما يقرر المغادرة. الضوي الشاهد علي تحطم اليسار متمثلا في خاله الذي ظل يظنه أخاه، الضوي الذي يظل حائرا في علاقة أمه به، وكيف فضلت عليه أخاها؟ وكيف كادت تعطل زواجه لا لشيء إلا لخاطر أخيها؟ الضوي الذي يتخرج في الهندسة ولا يميل لأحد التيارين السياسيين؛ اليسار الغارب واليمين المستأسد.. ت الضوي الصعيدي وارث عابدين وأطباق الملك، لا يشعر بقيمة لشيء، ويستطيع بسهولة التخلي عن أي شيء.. زوجة كان أو إرثا أو منصبا.. وفي اللحظة التي يختار مقابلا يسقط مسترجعا حياة من العدم والعشوائية. 5 أما ابنة القضاء جيهان العرابي التي عاشت شطرا من حياة العدل الزائف، تقرر الخلوص من هذه الحياة لكنها مربوطة بوتر قدرها تختار هواية القتل والسجن؛ فالتصوير في دلالة من دلالاته تجميد للحظة ما.. قتل لوجه علي الأحري.. بإيجاز قاض يدعي الحيادية. تبدو جيهان علي الرغم من محاولتها الحياد، متورطة في الأمر ونقيضه؛ محبة تميم ولومه، الإيمان بموهبته والكفر بما يفعل بها، وضع إطار حولها ودعوة الناس لكسره، التعامل بجفاء مع الناس والتودد لهم، ادعاء الخصوصية وتمني كسرها. 6 ترقي شخصيات النص الأخري لتكون أبطالا لا مساندين ذ وتلك من سمات نص التفاصيل سواء كان رواية أو دراما تلفزيونية كشخصيات أسامة أنور عكاشة في المال والبنون أو ليالي الحلمية أو مسرحية كشخصيات الناس اللي في التالت لعكاشة أيضًا وهو يحول النص إلي كباريه سياسي تقوم فيه الشخصيات بتعرية مجتمعها عبر اعترافاتها وانكشافاتها ذ ومن هذه الشخصيات عماد صدقي النموذج لشخصية ضابط الشرطة في مصر الذي يفرغ إحباطاته فيمن حوله؛ فكل من لا يقدره ينتقم منه، وكل من يصادقه يحاول خدمته بإيذاء الآخرين. علي مسافة يبدو اليساريان حسام خال الضوي وشريف جاره، وكأنهما شخص واحد، أو علي الأحري وكأنهما اليسار الذي عاني من قمع السلطة حتي مات مقهورا بعد أن عاش محاطًا بكلاب السلطة وسوسات النفس، ولا تبدو المسافة بينة البعد بين الشلل والموت والمرض النفسي. وتبدو رنا وفؤاد شخصيتين مسلولتين من واقعنا الأدبي والثقافي والعام بامتياز، رجل ميزته الذكورة، وامرأة ميزتها الموهبة، رجل عيبه ضعف الموهبة، وامرأة عيبها أنها امرأة.. ومن صراع العيب والميزة تكون الحياة تلاقيا وزواجًا.. وتنافرًا وطلاقًا.. وتواطؤًا وعودة للزواج. أما بسمة وخيري فهما نموذج لما أنتجته علاقات الإعلام الجديد؛ فالتعارف كان علي حساب الفيسبوك، والمقابلة كانت عبر سكايب، والنقاشات كانت علي حائط الإعلام الاجتماعي. 7 أخطر ما في نص سعيد هذه المرة هو إخفاء تفاصيل ما، والتلاعب بالقارئ عبر إيهامه بأننا بصدد نص اعترافي إذ من السمات الكلاسيكية للراوي بضمير المتكلم أن يعترف بوضوح.. لكننا نجد أنفسنا في مواجهة صور متعددة للحقيقة يرويها الشخص نفسه.. ويبلغ التلاعب ذروته حين يكون نقض الغزل تمخفيا عبر إدخال تفاصيل صغيرة سالبة للصورة الأولي، وللاستئناس يمكن الرجوع لصور تميم النحات في مرويات جيهان العرابي، ولصورة خال الضوي. 8 مركز السرد في النص هو عالم وسط البلد، وقد حوله الناص إلي ما يشبه بؤرة الإشعاع ففيه يجتمع العالم ويتفرق؛ المنظمات الحقوقية، أمراء النفط، الفلاحون، الثوار، الممثلون، النحاتون.. الصعيد، أوربا، المنيل، مدينة نصر.. النص نافذة صغيرة علي عالم متسع ومتشعب، وقد حافظ الناص علي عدة طرق لكي يتمكن من قول بعض ما لديه عن هذا العالم، ودفع القارئ لمحاولة إكمال البقية.. وقد واجه الناص محنة كبري تتمثل في كثرة التفاصيل وتشعبها.. وتباعدها الظاهري.. ولعل من أبرز التقنيات التي استخدمها للحفاظ علي القارئ هي التشويق من خلال طرح جزء بسيط من حدث؛ مما يدفع القارئ لمحاولة معرفة بقية الحدث وكيف انتهي.. فمثلا حين يريد الدخول للعالم الغريب الذي تؤمن به ريم فإنه يطرح أولا مسألة موت "صفاء" التي سقطت من البلكونة.. ثم يكتشف أن صفاء هذه سلحفاة وأن ريم مولعة بتربية الغريب ومعاشرة غير المألوف فنجدها تقتني غرابا فيما بعد، ثم نجدها تخاف من المرايا. 9 يبرز تمكن الروائي في النص من خلال قدرته علي الاحتكاك بالأمور الكبري وتحويلها إلي مفردات وخوادم داخل النص، لا تستطيع أن تجذبه إليها بل هي داعمة لمكون النص العام؛ الجنس والسياسة والنحت والتصوير والهندسة واماكن وسط البلد والتحولات الاجتماعية والاقتصادية. يحسب للناص أمران؛ المعرفية والفنية؛ فثمة معلومات تم انتزاعها بعد جهد ثم إدخالها في النص بحيث لا تشتت القارئ ولا تصدمه؛ وإنما تحقق الهدف؛ أن يكون النص عالمًا قائمًا بذاته، ويمكن معرفة هذا عند قراءة ما يتعلق بالنحت وعلاقته ببقية الفنون؟ 10 الحوار حامل لدلالات كل فرد ينطق به ولسياقه؛ فريم التي تصر علي أن ينام معها الضوي بعد عودته من دفن أبيه تبرر ذلك بأنه "واجب العزاء" وحين تريد الاحتفاء بعيد ميلاده فإنها تجهز له "أوبشن استثنائي" وحين تعود لزوجها فإنها تهاتف الضوي لتمنعه من الثورة "أنا خلاص رجعت للبغل اللي كنت متجوزاه" فيما يبدو مونولوج الضوي لنفسه كاشفًا عن عدميته التي استراح لها: "أساق مع ريم.. أساق مع عماد.. ولست أدري مع من أساق.." فيما يبدو كلام خيري مغلفًا بالمصطلحات الاقتصادية وشروحاتها، والقول نفسه ينطبق علي الوشاحي وتميم التشكيليين، ويمكن تمييز اختلاف درجة الأداء اللغوي للشخصية الذاتية بحسب المنطقة التي تتحدث منها؛ فجيهان (العاشقة ذ العارفة) حين تتحدث عن تفاصيل عمل تميم غير جيهان (الحيادية) في حكايتها عن الضوي.. 11 اعتماد الفضح المنبثق تلقائيًّا عن الاعتراف، لا يأتي من طريقة السرد فقط، وإنما يبرز منذ التصدير الذي ينبئ بآلية الفضح/ الكباريه السياسي.. فعبارة التصدير المنسوبة إلي الإمام الغزَّالي: "اللهم افضحنا ولا تسترنا؛ حتي يتبين لنا الخبيث من الطيب" تبدو منتقاة وكأنها تبرر لبعض ما يفعله الناص من فضح وتعرية لشخصيات نصه، كما يبدو أن العبارة نفسها مبنية علي معارف سابقة منها فتنة الذهب القرآنية، كما استخدم الغزالي مهارته اللغوية ليبنيها علي دعاء وتعليل فالدعاء بالفضح وعدم الستر لسبب هو الكشف غاية الصوفيين والعارفين.. لكن استعارة سعيد لها توحي بأن الفضح أولي من الكارثة في عالم ينوء بأسباب الخراب التي تحكمت في: المثقفين، الفنانين، رجال الشرطة. 12 هل شخصيات النص حقيقية؟.. هل شخصيات النص واقعية؟.. هل شخصيات النص فنية؟ لا يبدو أن هناك تعارضًا كبيرًا بين الأنواع الثلاثة، ولكنني أميل إلي تصديق فنية الشخصيات، بل يمكن الذهاب إلي ما هو أبعد؛ فنحن في عصر ما بعد أشلاء الطبقة المتوسطة؛ حيث اليساري محاصر بهلاوسه أو خائن أو قعيد.. وحيث كل الشخصيات بلا هدف ولا ظل ولا أثر.. نحن أمام أسماك تنفست وأكلت كل ما هو مسموم؛ وهي بين الموت والحياة؛ لذلك فهي تحتاج إلي شيء وحيد: الثورة.