خطاب إلي النفر شادريك: إن النشرة الإخبارية التي حملت إليّ تفاصيل مقتل النفر شادريك جاء فيها أيضا أنه أثناء هذه المعركة الكورية تقهقر الأمريكان علي عجل وخلفوا وراءهم كل قتلاهم وجرحاهم. ولهذا فإنك أيها النفر شادريك مازلت ملقي فوق رابية عالية بكوريا وقد فارقتك الحياة وأستطيع أن أري رصاصة في قلبك وذلك العذاب المرتسم في عينيك ومازال شعرك الأصفر يتموج تحت أشعة الشمس فأسأل نفسي في أسي وغضب.. من الذي أتي بك إلي هنا؟ من الذي أمرك بمفارقة أخوتك وإخوانك وأمك وحبيبتك بوست فيرجينيا لتشترك في مغامرة حمقاء في الخارج؟.. ومن الذي وضع البندقية في يد فتي في التاسعة عشرة!؟ فتي كانت كل حياته مازالت أمامه وكان له كل الحق في أن يحياها.. فمن الذي طلب منه أن ينطلق لينفق عمره في قتال فوق سهول كوريا البعيدة جدا؟ يجب أن نجد الجواب علي هذه الأسئلة إذ إن مصير العالم يتوقف عليها! إنك لا تعرفني يا شادريك.. ولهذا يجب أن أقدم لك نفسي.. اسمي كريشان تشاندر وحتي وقت قريب كنت أعيش في حارة صغيرة في مدينة لاهور بالبنجاب وكان اسم حارتنا تشوك ماتي ولكنني لا أعرف الآن ماذا أطلقوا عليها من أسماء إذ إن الذين انتزعوا منك حياتك سلبوني أيضا وطني ومدينتي. وحارتنا الصغيرة وقد يبدو هذا في نظرك أمرا عجيبا - وكما أنك لا تستطيع العودة إلي وطنك فكذلك لا أستطيع أنا أن أعود إلي حارتنا العزيزة - فهل كان ما لحق بنا مجرد سوء طالع وقدر قاس.. أم كان ذلك بفعل مؤامرة شائنة وحشية دبرها سياسيون تحجرت قلوبهم يسخرون من آلام الناس؟ ففقدت أنت حياتك وفقدت أنا موطني؟.. فأنت وأنا الميت منا والحي يجب أن نجد جوابا لهذا السؤال. والماضي والحاضر يجب أن يتعاونا علي إنارة الطريق للمستقبل. علي الرغم من أنني لم أزر الولاياتالمتحدة إلا أنني أعرفها جيدا وأعرف وجهها المشرق الجميل كما أعرف وجهها المتغضن القبيح 0 وأول مرة بدا لي فيها وجه أمريكا طالعته في حكاية قصيرة في كتاب المطالعة الانجليزي وقد كانت الحكاية عن البطل الأمريكي جورج واشنطون الذي كان يحب دائما أن يقول الحق! وقد تأثرت كثيرا بهذه القصة أيام طفولتي واعتقدت أن أمريكا هي بلاد الرجال الصادقين الشرفاء الذين ينطقون دائما بالصدق - وبعد أعوام عندما كبرت التحقت بكلية فورمان كريستيان بمدينة لاهور لأعرف أشياء أكثر. وهناك عرفت أمريكا معرفة دقيقة فالشعب الأمريكي الذي تجلي لي محياه في حرب الاستقلال الباسلة وفي الحرب الأهلية ضد الرق في الجنوب لاشك أنه جدير بالاحترام والاعجاب والحب من كل الناس العاديين الذين يعيشون في أرضنا - وقد علمني أساتذتي الأمريكان أن أحب حرية القول وحرية الفكر وأن تكون ثقتي بشعبي ثابتة مكينة. فحدثوني عن "ابراهام لنكولن" و"دستور الحرية" كما علمت عن المجهودات الجبارة التي قام بها المهاجرون الأوائل والرواد الذين أنشأوا مدنية زاهرة في أرض بدائية بدوية - قرأت مارك توين ودريسر ووالت هويتمان الذي كان يتحدث إليّ في أشعاره كما يحدثني جاري القريب. وفي ذات يوم أعطاني أستاذ التاريخ جائزة هي اسطوانة لبول روبصون وكانت أغنية تفيض بآلام البشرية وأفراحها وحينما أصغيت للأغنية مأخوذا بسحرها العميق رأيت النرجس يفتح عيونه المضيئة علي السهول الأمريكية الواسعة ورأيت ملايين الأيدي النظيفة تعمل علي نغمها القوي في الأراضي الأمريكية وسمعت ضحك ألوف الأطفال في طريقهم إلي المدارس كما أصغيت لخرير الأنهار في الغابات تنحدر من جبال روكي.. وما أروع ما تحمله إليك أغنية من بول روبصن من جمال أمريكا الذي لا نهاية له - وأنا مدين له ولأصدقاء كثيرين من الأمريكان بما أظهروني عليه من صورة مشرقة للشعب الأمريكي. شعب بسيط مستقيم أمين تماما كشعبنا هنا. ولكن هناك أمريكا غير هذه.. أمريكا الحكام والقواد العسكريين ورجال المال وليست أمريكا الشعب. أمريكا التي يمثلها فورد ودولز ودبونت وروكفلر ومئات غيرهم لا أذكر أسماءهم - وعن أمريكا هذه أريد أن أكتب في خطابي لك لأن هؤلاء هم الذين أرسلوك لحتفك في كوريا وسيرسلونني أنا وما أملك إذا استطاعت أيديهم أن تمتد إليّ - فهم كبار رجال الأعمال أصحاب الأمبراطوريات الاحتكارية الضخمة. ملوك الذهب والفحم الحجري والحديد والقطن والخنازير والناس والبطاطس والأسلحة وكل الأشياء التي يمكنهم أن يبيعوها في سبيل الربح الشخصي وعندما أرسلوك إلي كوريا كانوا قد باعوك في سبيل الربح - ألم يقولوا لك يجب أن تحارب في كوريا لأن مصالح أمريكا القومية في كوريا معرضة للخطر..؟! ولكن كان يجب أن تسألهم وماذا تفعل المصالح الأمريكية القومية في كوريا؟.. ولماذا لم ترجعوا هذه المصالح إلي موطنها بوست فيرجينيا حيث استطيع أن أحميها بحماس صادق.. أنت يا كينيث شادريك لم تسأل حكامك هذا السؤال وكان ذلك خطأ فظيعا ولهذا فقد دفعت عنه ثمنا غاليا. إنني لا أريد أن ألومك كثيرا علي هذا لأنني أعرف مبلغ خداع التجار ومقدرتهم علي إخفاء دوافعهم الحقيقية عن الشعب، ففي أثناء الحرب العظمي الأخيرة كانوا يبيعون الحديد الخردة لليابان حتي اليوم الذي ضرب فيه بيرل هاربر، وسيلقي بمئات الألوف من شباب أمريكا للتهلكة تحت ستار الحرب في سبيل الديمقراطية قبل أن يعرفوا أنهم لم يكونوا يحاربون من أجل الديمقراطية بل في مقابل حفنة من الفحم في كوريا أو قطرة من البترول في جهة ما من صحراء العرب.. إنها لقصة حزينة مفجعة بدأت منذ عهد بعيد في عام 1854 عندما ظهر الكومودور الأمريكي بيري وأسطوله في المياه اليابانية وطلب أن يتاجر مع تلك البلاد تحت تهديد السلاح وأذكر أنه أيضا في عام 1854 كان الانجليز يقرعون أبواب دلهي كما كانت الاقطار الآسيوية من البوسفور إلي بانكوك وما وراء ذلك قد سقطت تحت أقدام المستعمرين الفرنسيين والهولنديين والبرتغاليين والانجليز.. وكان أولئك الاستعماريون قد أتوا إلي قارة آسيا من أجل الربح الشخصي والاستغلال ولكنهم أخفوا نواياهم الحقيقية وأعلنوا للعالم أنهم جاءوا لنشر رسالة المدنية. المدنية المسيحية في مكان الوثنية الشرقية المتوحشة، واليوم تحت ضغط الحركات التحريرية الوطنية المتصاعدة في آسيا تخلوا عن هذه الدعوة وأصبحت الآن الديمقراطية! لقد تغير شكل الدعوة ولكن تجار الموت مازالوا هم نفس الأشرار القدماء - إنني أراهم بوضوح وأتمني أن يري الملايين من أمثال النفر شادريك وجه أمريكا ونواياها الطيبة وإحسانها في آسيا. إن هذا سوف يقرب النهاية! ولنعد إلي الوراء.. في عام 1700 حدثت ثورة البوكسر في الصين وكانت موجهة ضد المستعمرين الأجانب فقمعها المستعمرون بشكل وحشي وفتحت أبواب بلاد الصين العظيمة العريقة أمام المتدخلين ليستغلوا وينهبوا وليمرغوا في التراب كل مظاهر السيادة الوطنية فاحتلوا الموانيء والأنهار العظيمة وكل المنشآت المهمة في الاقتصاد الوطني ثم أتت بعد ذلك الحرب العالمية الأولي وبدأت أمريكا تقوي وتدعم مصالحها الاستعمارية بالشرق الأقصي وفي نهاية الحرب العالمية الأخيرة تمت سيطرة أمريكا التامة في الشرق الأقصي وكانت قد ابتلعت الصين كلها تقريبا وكذلك كوريا وهناك في جنوب خط العرض الثامن والثلاثين. وهكذا شطرت إلي قسمين بلاد عريقة عظيمة لها تاريخ مشترك ومدنية عمرها علي الأقل أربعة آلاف سنة وقد كان هذا إثما في حق الإنسانية إذ لا يمكن تمزيق الأمة حسب خطوط الطول أو العرض. ومنذ زمن بعيد ظلت كوريا وحدة وطنية لا تنفصم وسوف تعود وحدة اقتصادية وسياسية واجتماعية بإرادة شعبها وليس لأية دولة أجنبية أي حق في انزال قواتها في أي مكان بقارة آسيا للابقاء علي هذا الانفصال المصطنع وأن أية دولة تفعل هذا فإنها دولة معتدية وليست ديموقراطية علي الاطلاق!! ان الشعب الكوري هو الذي يقرر مصيره ويختار نوع حكومته وينتخب ممثليه والشعب الكوري وحده هو الذي يحدد شكل ونوع اقتصاده القومي كما يختار بحريته اللون الخاص بعلمه ورسم ذلك العلم أو سياسته الخارجية وليس من حق أي أجنبي عليهم أن يملي عليهم شيئا في هذه الأمور وإذا أرادوا أن يقرروها بحرب أهلية.. فحسنا - فلنتركهم يفعلوا ذلك.. فأنتم أيضا كانت لكم حرب أهلية لتوحيد الولايات الشمالية مع الجنوبية ولم يتدخل الكوريون المساكين في هذا.. وإنجلترا كانت بها حرب أهلية إلي درجة اعدام ملكهم ولكن ملك كوريا المسكين لم يرسل قواته لمساعدة الملكية في انجلترا. فلماذا يبعث الانجليز بأسطولهم إلي المياه الكورية اليوم؟.. يقولون إنهم يدافعون عن خط العرض 38.. نعم.. من يدري ففي غد يرسلون جنودهم لحماية مدار السرطان! فما أغرب هؤلاء الانجليز! ورغم هذا فإن الآسيويين اليوم لم يخدعوا بخرافة الخط الثامن والثلاثين هذه فهم يعلمون أن الغرض هو حماية خط العرض الآخر.. خط العرض الاستعماري الضخم ومن أجل هذا تحارب القوات الانجلو أمريكية في كوريا، فهذا الخط القاسي يخترق قلب آسيا ويقسم كل شيء يلمسه إلي قسمين.. فهو يمر بفلسطين فيقسمها إلي اسرائيل والأردن. ويمر بالهند فيقسمها إلي هندستان وباكستان. وفي بورما فيجعلها بورما وولاية كارلين. وأندونيسيا فيجعل منها بورنيو الشرقية وأندونيسيا وغويانا الجديدة وهو إذ يمر بالهند الصينية يقسمها إلي حكومة باوداي الصورية وإلي الفيتنام - فهو خط عام للتقسيم والتفرقة وليس للتوحيد. والمستعمرون الآن كما كانوا قديما يبحثون عن صنائعهم وعن المتعاونين والعناصر التابعة من بين شعوب آسيا ثم يسمون هؤلاء "بالعناصر الوطنية الحقيقية" وما عداهم فشيوعيون. لقد أخذ هذا يحدث في كل البلاد الآسيوية المستعمرة تقريبا بعد الحرب الأخيرة عندما أجبرت الحركات الشعبية في آسيا المستعمرين علي الاختفاء والعمل من وراء الزعماء المزيفين الذين لم يكونوا أكثر من وسطاء وسماسرة - ولكن انتفاضة الحركات التحريرية في آسيا تدأب بثبات علي تحطيم أمثال هذه الحكومات، ومن أجل هذا تموت اليوم أيها النفر شادريك. لعل أسلوب كتابتي يجعلك تظن أنني غير آسف لموتك يا نفر شادريك ولكن ليس الأمر كذلك فإنني حقيقة جد حزين من أجلك ولكنني الآن لا أملك دموعا من أجلك فقد أرقت مدامعي منذ أمد بعيد لأنني رأيت كثيرا من الشقاء والظلم الاجتماعي في بلادي ودعني أؤكد لك أنني لا أملك سوي غضب ملتهب وحقد عميق علي أولئك الذين أرسلوك لحتفك في كوريا ولكن هذه المسألة قد بدأت منذ زمن بعيد ولهذا قصة. في الحرب الروسية اليابانية سنة 1905 عندما شق اليابانيون طريقهم إلي الصين سافر مع القوات اليابانية ضابط أمريكي شاب من وست بوينت بامريكا باعتباره مراقبا حربيا محايدا والغريب ان اسمه كان ماك أرثر. والآن عندما أفكر في هذا أشعر بانه لم يكن مراقبا محايدا قط، فقد كان المستعمرون قد جعلوا يلقون نظرات الجشع علي ثروات الشرق الاقصي ويخالجني شعور أن الضابط ماك أرثر عندما أتي الي الصين عام 1905، كان بالفعل يحمل في جيبه أمرا بموتك. فقد حكم عليك بالاعدام منذ زمن طويل قبل أن تولد، وأن قتلا بدون رحمة كهذا لا يثير الدموع بل يثير حقدا شديدا وغضبا وثورة لتحطيم تجار الحرب الذين يرسلون فتيان المدارس الي ميادين الحروب في الوقت الذي كان يجب أن يذهبوا فيه إلي ميادين الرياضة وهذا هو السبب في أنني لا أملك لك دمعا. أيها النفر كينيث شادريك.. إنني أشعر بعميق الأسي من أجلك ولعل جنرالك ماك ارثر لا يعرف ماذا يعني موت جندي في معركة فانت بالنسبة له عبارة عن دبوس في خريطة ولكني أعرف ماذا يحدث عندما يموت في الحرب شاب في العشرين من عمره. فعندما مات النفر شادريك من وست بوينت في سن العشرين ماتت معه أشياء عظيمة كثيرة فقد مات كتاب وماتت معه أغنية وربما اختراع جديد في العلوم وبهذا ترك العالم بعده أكثر شقاء وفقرا لفقده. أما بالنسبة للجنرال ماك أرثر فالأمر يسير جدا.. تفقد دبوس! واليوم ففي كل مكان به قلب رقيق يخفق ذلك القلب ألما لموت شادريك الفاجع لأنه ماكان يجب أبدا أن يموت فدنيانا هذه مكان كبير وجميل جدا. ففي دنيانا سهول خصيبة واسعة غنية بالقمح والشوفان والذرة والقطن وبها تلال كبيرة متماوجة ومناطق جبلية تضج فيها الحياة الطبيعية والمعادن الخام والأخشاب وأنهار عظيمة وبحيرات تكمن فيها قوات كهربائية - يمكننا جميعا أن نعيش هنا في سعادة في نعيم متزايد وهناء. - ولكن ماذا تري إذا ما تطلعنا إلي ما وراء دنيانا الصغيرة هذه؟.. فإذا استطاع بعض الناس فقط أن يتخلصوا من جهلهم العميق وينفضوه عنهم وينظروا حولهم نحو الفضاء بدلا من أن يقاتلوا في سبيل هضبة في كوريا وإذا أمكن للذين ينفقون ملايين الدولارات الآن في تحضير القنابل الهيدروجينية أن يحولوا هذه المقادير الهائلة لمشروع علمي مفيد.. فإن هذا العالم سوف يصبح حينئذ بالتأكيد مكانا أصلح كثيرا لحياة الناس في كل بقاع الأرض! وحينما أكتب لك هذه السطور فإنني أنظر برهة حولي فمن وراء النافذة التي أجلس عندها يظهر أمامي شيء جميل فأوراق أشجار النخيل التي تشبه المراوح بحفيفها اللطيف فوق أعمدة التلغراف الهيفاء تنتشر فوق السهول التي يغطيها نبات السرخس ومن وراء السهول تلال أندهيري المستديرة وتلال فيهار الصغيرة الجميلة وكلها تغيب وتتلاشي في ضباب جو الصيف الموسمي وفي مكان ما علي تلك الربوات ترقد أنت ميتا قد بردت أطرافك وغمرك السكون في وحدة موحشة. إنني أفكر فيك وفي مئات غيرك في سن العشرين من وست بوينت بفيرجينيا وكانسس وأوهايو وتكساس وسنسيناتي وأفكر في جنود مثل شادريك لم يبلغوا العشرين. أولئك الذين في التاسعة عشرة والثامنة عشرة والسابعة عشرة والسادسة عشرة. وأفكر في نفر في الثالثة هو ابني فهل يرسلونه أيضا ليحارب لهم عندما يكبر ويصبح في سنك؟.. كلا.. كلا.. يجب الا يحدث هذا ثانيا ولهذا السبب عندما أنظر من النافذة وأري جثتك ملقاة وحيدة علي تلك الهضبة العالية فإنني أحلف قسما مقدسا. (السلام يجب أن يتحقق هنا الآن) (السلام في عصرنا) (والسلام في كل العصور) عن الكاتب الهندي كريشان تشانور