يبدو أنَّ بياض قلبه قد طغي علي لون شَعره، فابْيَضَّ مبكرًا وهو في ريعان شبابه، معلنًا أن رحيله سيكون مبكرًا أيضًا، حتي إن بياض شَعره أصبح من العلامات المميزة له، إلي جانب سُمرته - التي تقع بين بياضيْن: بياض شَعر رأسه وبياض قلبه - وابتسامته الهادئة وقلبه الودود الذي يتسع لِمَا لا تتسع له كل قيعان المحيطات مجتمعة. إنه محمود مغربي الذي صافحت عيناه الحياة في فبراير من العام 1962علي أرض محافظة قنا بصعيد مصر، ويُلقَّبُ بالولد الفوضوي، أو بالولد الجنوبي أو بالشاعر الأسمر. ها هو يقول عن تسميته بالولد الجنوبي: إن مفردة الجنوبي تجعلنا نستعيد الجنوب، صعيد مصر، بكل تفاصيله الثرية؛ شعراء أميون ومتعلمون، بالجلباب والبنطال، حنان الجنوب وقسوته، مفردة الجنوب تجعلني أري المغربي الصبي حاديًا خلف المحراث، يشدو بالمواويل، يؤنس نفسه وروحه المنفردة في الحقول البعيدة عن المدينة في القيلولة، أتذكره مندهشاً ومصغياً إلي عازف الربابة الشجي، الذي يجيء مثل غيره في وقت حصاد محصول القمح. إلا أن الجنوبي يبقي مرتبطًا بشعراء وأدباء كثيرين مثل: أمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي، وبهاء طاهر، ويحيي الطاهرعبد الله، وعبد الرحيم منصور، وغيرهم.أما عن لقب الولد الفوضوي فيقول: إن مفردة الفوضوي تكررت في مجموعتي الشعرية الأولي أغنية الولد الفوضوي الذي أعتبره جواز مروري الحقيقي لعالم الشعر الغني والمدهش والسحري.وعن الكتابة في حياته يقول مغربي إنها هي الفعل الحقيقي ضد الموت، ضد الفناء, بالكتابة أسماء عديدة رحلت وما زالت تعيش بيننا, الكتابة هي الفعل الخلاق وجدير بأن نضحي كثيرًا من أجله. والقصيدة تنتصر للخير وللجمال والعدل والبقاء علي ظهر البسيطة ونقيم دائمًا لها عرسًا. فلمولده سحر، وأنا جئت لعالمي هذا لأبحث عن السحر، القصيدة هي الخلاص، وأنا جئت أيضًا لأبحث عن الخلاص.وها أنت رحلت يا مغربي بجسدك وبابتسامتك النقية، وظلت وراءك كتابتك وروائعك الشعرية وقصائدك الجميلة. سفر متواصل ولنقرأ معًا ما خطه الشاعر أحمد المريخي عن تجربته مع محمود مغربي: يُحكي أن رجلًا تعاطف مع رصيفِ قطارٍ فأدمن الوقوف عليه؛ يستقبلُ القادمين ويودعُ المسافرين، وإذا ما غاب سال الرصيفُ إليه.. وشيئًا فشيئًا صار الرصيف محطةً؛ لا تطمئنُ علي روادها إلا في حضرة الرجل. ذات يوم سافر الرجلُ فرافقته المحطة، ولما كان مُحبًّا وبسيطًا صارت المحطةُ محطاتٍ تمشي في قدميه؛ تهرولُ كلما هرولَ وتتلكأُ كلما تباطأ، وعندما يحط تفرش بُساطها كي يجلسَ إليها وتجلسَ إليه. وهكذا.. ثلاثون عامًا من السفرالمتواصل؛ شاب الشَعر ووهن العظم، وكلما أراد الرجل العودة يُضنيه أن يفارق المحطات.. كان الرجلُ صاحبَ رسالةٍ لا يرجو لنفسه منها شيئا. ذات سفرٍ أراد له الله أن يستجم، فهداه إلي جزيرة بها من الجمال ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر علي قلب بشر.جلس الرجل مدهوشًا يتأملُ المفارقات بين جمال هذه الجزيرة وخرابِ ذلك العالم.. وعز عليه أن يحظي وحده بكل هذه المتعة، فاستأذن ربه في أن يواصل ما طُبع عليه؛ صنع مراكب وأطلقها إلي السواحل، فركب الأحبةُ من كل حدب وصوب.كان الرجلُ كما كان؛ يستقبلُ القادمين ويودعُ المسافرين.كلُّ مسافرٍ يحمل جزيرة ليغرسها في قلب مدينته؛ كانت الجزيرةُ جزيرةَ محبةٍ.وإذا كانت المحبةُ "أُمَّاً"، فإن محمود مغربي هو أمُّ المحبة..أوهكذا عرفته طوال ربع قرن.ها هو مغربي استقل القطار للمرة الأخيرة في سفر طويل ورحلة لن يعود منها إلينا مرة أخري، غير أنه ترك لنا سيرته الجميلة وأعماله التي ستخلده ما بقيت الحياة. الكائن العلوي كان محمود مغربي يمثّل أحد أبرز الأصوات الشعرية في حقبة الثمانينات في مصر، فهو ينسج تجربة مختلفة في رؤاها وموضوعاتها، وتتمتع لغته بخصوصية مفرداتها وقدرتها علي التشكّل المجازي. وعن أهم طقوسه في الكتابة كان يقول مغربي: هي شخبطة هذا البياض لتخرج القصيدة التي تُدْخل في قلبي الفرح والبهجة، وأعتقد بأنها تحاول أن تقول شيئا وتحرك الآخر.كذلك يري أن الشِّعر يعني القيمة، البحث عن الجمال في كل صورة، ودون مفردة (شاعر) سوف يصبح فقيرًا حتي وإن امتلك كنوز الأرض، كان يعتقد أن الشاعر هو الكائن العلوي الذي وحده يستطيع أن يحتوي العالم، هو يدرك جوهر الأشياء.كان مغربي يمتلك قدرة عجيبة علي تحويل كل ما هو حوله لدعم الشاعر الذي هو بداخله، كل هذا كان يصنعه في مقرّ عمله الذي ليس له علاقة بالشعر، في المقهي والشارع، في الجامعة والمحافل الثقافية، وفي كل مكان كان يجتهد كثيرًا ليدرك الناس قيمة الشعر والكلمة، قيمة المعرفة والثقافة في كل صورها.لذا علينا يقول مغربي - أن نفتش عما يبهرنا من أجل أن نعيش في حضرة الكتابة بشكل حقيقي ومخلص. وعن أنثاه كان مغربي يقول : أثناء مرافقتي للقصيدة منذ سنوات بعيدة، كانت تقفز إليّ بين حين وآخر سطور دافقة من سلسبيل مشاعري؛ أتأملها تارةً، وتارة تتأملني، تريد أن تخرج متحررةً من أسر عقلي، ترغب أن تسبح دونما التزام بقواعد مسابقات السباحة.كنت وما زلت أستجيب لصوتها الحنون، فأكتب كطفل يلون أوراقه، ثم يُطيّرُها في خفة، ويفرحُ؛ لكأنه امتلك السباحة في الغلاف الجوي. إن المرأة محور مهم ليس في حياة الشاعر وحسب بل في كل حياتنا, هي ضرورية للكون ولي مقولة (الحياة بلا امرأة صحراء) أرددها كثيرًا, أنا أحد الذين خبروا الصحراء وعاش فيها مفردًا لشهور كثيرة, وعشت مع مفردات عظيمة خلقها المولي سبحانه وتعالي مثل البحر والجبال والرمال والصحراء، كنز حقيقي للتأمل ولفضاءات أخري عديدة, كل هذا أعطي للمرأة بُعْدًا آخر مهمًّا للحياة, لذا أري المرأة المفردة الكبري في قاموس الحياة بدونها يختل توازن الطبيعة، المرأة هي ببساطة حديقة الحياة بحلوها ومرها فكيف لا نحتفي بها بشكل حقيقي وندرك قيمته.مغربي كان يري أن الشعراء الآن لا حوْل ولا قوة لهم، كيف يمكنهم أن يغيروا سلوكًا أو ما شابه، فالشاعر قديمًا كان له صوت مسموع ومؤثّر حقًّا،لأن المناخ كان يوفّر الكثير لهذا الشاعر، أما الآن فلا عزاء للشعراء وأيضًا للمنشد الشعبي وشاعر الربابة في القري والنجوع، لقد اختفي كل هؤلاء في قنوات السماوات المفتوحة التي تحتفي بكل ما هو طاغ ومؤثّر. وها أنت اختفي جسدك يا مغربي، غير أن روحك لم تزل ترفرف حولنا حاملة ابتسامتك النقية وقلبك الطيب الودود، وسمرة وجهك الذي لن ننساه ما حيينا.