مستشار ترامب يدعو إلى فرض عقوبات على مسؤولي الجنائية الدولية    رصدنا جريمة، رئيس إنبي يهدد اتحاد الكرة بتصعيد أزمة دوري 2003 بعد حفظ الشكوى    جوميز يتحدى الأهلي: أتمنى مواجهته في السوبر الأفريقي    حلمي طولان: مستاء من سوء تنظيم نهائي الكونفدرالية.. وأحمد سليمان عليه تحمل الغرامات    أهالي سنتريس بالمنوفية ينتظرون جثامين الفتيات ضحايا معدية أبو غالب (فيديو وصور)    متحدث "مكافحة الإدمان": هذه نسبة تعاطي المخدرات لموظفي الحكومة    برقم الجلوس.. موعد إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 الترم الثاني (الرابط والخطوات)    بالصراخ والبكاء.. تشييع جثامين 5 فتيات من ضحايا غرق معدية أبو غالب    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    وثيقة التأمين ضد مخاطر الطلاق.. مقترح يثير الجدل في برنامج «كلمة أخيرة» (فيديو)    زيادة يومية والحسابة بتحسب، أسعار اللحوم البتلو تقفز 17 جنيهًا قبل 25 يومًا من العيد    ب1450 جنيهًا بعد الزيادة.. أسعار استخراج جواز السفر الجديدة من البيت (عادي ومستعجل)    جوميز: عبدالله السعيد مثل بيرلو.. وشيكابالا يحتاج وقتا طويلا لاسترجاع قوته    عاجل.. مسؤول يكشف: الكاف يتحمل المسؤولية الكاملة عن تنظيم الكونفدرالية    سيراميكا كليوباترا : ما نقدمه في الدوري لا يليق بالإمكانيات المتاحة لنا    نائب روماني يعض زميله في أنفه تحت قبة البرلمان، وهذه العقوبة الموقعة عليه (فيديو)    السفير محمد حجازي: «نتنياهو» أحرج بايدن وأمريكا تعرف هدفه من اقتحام رفح الفلسطينية    دبلوماسي سابق: ما يحدث في غزة مرتبط بالأمن القومي المصري    روسيا: إسقاط طائرة مسيرة أوكرانية فوق بيلجورود    بينهم طفل.. مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بأسوان    "رايح يشتري ديكورات من تركيا".. مصدر يكشف تفاصيل ضبط مصمم أزياء شهير شهير حاول تهريب 55 ألف دولار    حظك اليوم برج العقرب الأربعاء 22-5-2024 مهنيا وعاطفيا    إبداعات| «سقانى الغرام».... قصة ل «نور الهدى فؤاد»    تعرض الفنانة تيسير فهمي لحادث سير    إيرلندا تعلن اعترافها بدولة فلسطين اليوم    الإفتاء توضح أوقات الكراهة في الصلاة.. وحكم الاستخارة فيها    طريقة عمل فطائر الطاسة بحشوة البطاطس.. «وصفة اقتصادية سهلة»    لعيش حياة صحية.. 10 طرق للتخلص من عادة تناول الوجبات السريعة    اليوم.. قافلة طبية مجانية بإحدى قرى قنا لمدة يومين    وزيرة التخطيط تستعرض مستهدفات قطاع النقل والمواصلات بمجلس الشيوخ    موعد مباراة أتالانتا وليفركوزن والقنوات الناقلة في نهائي الدوري الأوروبي.. معلق وتشكيل اليوم    دعاء في جوف الليل: اللهم ألبسنا ثوب الطهر والعافية والقناعة والسرور    «معجب به جدًا».. جوميز يُعلن رغبته في تعاقد الزمالك مع نجم بيراميدز    بالصور.. البحث عن المفقودين في حادث معدية أبو غالب    أبرزهم «الفيشاوي ومحمد محمود».. أبطال «بنقدر ظروفك» يتوافدون على العرض الخاص للفيلم.. فيديو    هتنخفض 7 درجات مرة واحدة، الأرصاد الجوية تعلن موعد انكسار الموجة شديدة الحرارة    قناة السويس تتجمل ليلاً بمشاهد رائعة في بورسعيد.. فيديو    شارك صحافة من وإلى المواطن    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الأربعاء 22 مايو 2024    قبل اجتماع البنك المركزي.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 22 مايو 2024    محافظ كفر الشيخ يتفقد أعمال تطوير شارع صلاح سالم وحديقة الخالدين    إزاى تفرق بين البيض البلدى والمزارع.. وأفضل الأنواع فى الأسواق.. فيديو    مواصفات سيارة BMW X1.. تجمع بين التقنية الحديثة والفخامة    أول فوج وصل وهذه الفئات محظورة من فريضة الحج 1445    عمر مرموش يجرى جراحة ناجحة فى يده اليسرى    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    بعبوة صدمية.. «القسام» توقع قتلى من جنود الاحتلال في تل الزعتر    المتحدث باسم مكافحة وعلاج الإدمان: نسبة تعاطي المخدرات لموظفي الحكومة انخفضت إلى 1 %    محمد حجازي ل"الشاهد": إسرائيل كانت تترقب "7 أكتوبر" لتنفيذ رؤيتها المتطرفة    ضد الزوج ولا حماية للزوجة؟ جدل حول وثيقة التأمين ضد مخاطر الطلاق ب"كلمة أخيرة"    خبير تغذية: الشاي به مادة تُوسع الشعب الهوائية ورغوته مضادة للأورام (فيديو)    حدث بالفن | فنانة مشهورة تتعرض لحادث سير وتعليق فدوى مواهب على أزمة "الهوت شورت"    أخبار × 24 ساعة.. ارتفاع صادرات مصر السلعية 10% لتسجل 12.9 مليار دولار    "مبقيش كتير".. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    حجازي: نتجه بقوة لتوظيف التكنولوجيا في التعليم    موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    استعدادات مكثفة بجامعة سوهاج لبدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيكار
الفنان.. القاضي.. الزاهد
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 09 - 2015

بشعر رمادي يسترسل مغطياً الرقبة، أسفل صلعة فسيحة كالنُّساك، وبأنف روماني مستقيم وجبهة عريضة ناصعة وخدين متهدلين قليلاً علي جانبي الفم، الذي تعلوه ابتسامة لطيفة مزمومة الشفتين لا تكاد تفارقه، تارة خطين غائرين ينزلان عند طرفيه، مؤكدين بروز الشفة السفلي قليلاً، وبعينين كبيريَن يستوطنهما حزن عميق لا تخفيه النظارة الطبية الكبيرة، كان وجهه دوماً يخيِّم علينا بوداعة آسرة، وهو يتحدث بهمس لا يكاد يُسمع، فيصمت الجميع خاشعين وكأن علي رؤوسهم الطير، ويمتصون كلماته القليلة بكل مسامهم حتي قبل أن تستوعبها الأسماع.
لو بحثت عن إنسان تشابهت ملامحه التشريحية مع سماته النفسية لما وجدت خيراً من بيكار، ولو بحثت عن فنان تطابقت هذه الملامح التشريحية والنفسية مع رؤيته للحياة وطريقة عيشه لما وجدت مثله، ولو بحثت عن كاتب تماثلت سماته الشخصية وأسلوبه في الكتابة مع ملامح إبداعه الفني- علي نُدرة من يجمعون بين الفن والكتابة- فلا نظير له!
هو حالة متكاملة للحياة في أرقي تجلياتها.. وهي الفن، وهو حالة متوازنة/ متكافئة للفن بين الإمتاع والالتزام بالقيم العليا.. إن رقة ملامح وجهه ووسامتها تتماهي مع رقة ووسامة خطوطه وشاعرية ألوانه وإنسانية موضوعاته، فلا مناص- وأنت تتأمل لوحته حتي ولو كانت "إسكتش" بالحبر- من أن تستحضر في خيالك ملامح وجهه، ولن تستطيع وأنت تقرأ نصوصه في تحليل أعمال الفن- وقد تجملت بالمجازات والتشبيهات الأدبية- أن تمنع تدفق مقطوعاته الزجلية وهي تهل علي خاطرك، ومعها فيض معرفي لا ينضب حول معاني الجميل والجليل في الفن والحياة، ولن تستطيع أن تفصل بين آرائه في المدارس الفنية وسياحاته عبر المتاحف العالمية، وبين مواقفه العملية ونظرته إلي المجتمع والدين والأخلاق والتاريخ، بنزاهة قاضٍ واستقامة ناقد وخبرة حكيم.. من هنا فهو "صاحب طريقة" وموقف مستقل ينبع من قناعته وزهده وترفعه عن أية منفعة شخصية أو مكانة اجتماعية.
ولد حسين أمين بيكار بحي "بحري" بالإسكندرية في 2 يناير 1913 لأسرة متوسطة وفدت إلي مصر منذ عدة أجيال من إحدي دول البحر المتوسط الصغيرة قيل إنها قبرص التركية، فتمصَّرت بقوة كجميع من وفدوا إليها حتي أصبحوا من أعلام هويتها، وقادته موهبته المبكرة في الرسم- وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره- للالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة 1928 مع أول دفعة بعد تحويلها إلي مدرسة عليا وانتقالها إلي شارع شبرا، ما يدل علي تفوقه الدراسي في المرحلة الثانوية، وبعد تخرجه في مدرسة الفنون العليا عام 1932 عمل كمدرس للرسم متنقلاً بين عدة محافظات، إلي أن أتيحت له فرصة العمل بالمغرب كمدرس للرسم عام 1939، حيث قضي فيها ثلاث سنوات، حتي استدعاه أستاذه ورائد الفن أحمد صبري للعمل كمساعد له حين أصبح رئيساً لقسم التصوير بالمدرسة العليا بالقاهرة، وجعله مشرفاً علي القسم الحر المسائي تجنباً للصراعات التي كانت مشتعلة بين صبري ويوسف كامل بشأن الإشراف علي القسم الرسمي، وكان ذلك حلاً وسطاً اقترحه الدكتور طه حسين عميد الأدب آنذاك كوزير للمعارف، دون أن يكون هناك اختلاف في المنهج الدراسي بين القسمين.
لقد بني بيكار لنفسه مملكة في قلوب جميع تلاميذه طوال عدة أجيال من خلال عمله كأستاذ للتصوير (الرسم الملون)، فأحاطوه بحب لم يحظ به أي أستاذ قبله أو بعده علي مدار تاريخ المدرسة ثم الكلية، وبالرغم من أنه كان التلميذ النجيب الأول لأحمد صبري حتي ارتبط اسمه به ارتباطاً تاريخياً من زاوية منهجه الأكاديمي، إلا أنه كان بشخصيته الإنسانية وسلوكه مع تلاميذه علي عكس أستاذه كطرفي نقيض، ففيما كان "صبري" يتميز بالصرامة والحدة إلي درجة العنف أحياناً، وبالوقوف موقف العداء من مدارس الفن الحديث، حتي أنه كان يعاقب تلاميذه إذا اتجهوا نحوها، كما يتميز بالاستبداد برأيه ووجهة نظره في تعليم الفن بأسلوب التلقين للقواعد الأكاديمية، بل وفي خلافاته مع زملائه من الأساتذة حتي تصل أحياناً إلي الخصومة والقطيعة.. إلي جانب عدم إيمانه بأهمية الثقافة والقراءة في تكوين الطالب، بل يعتبرها من أسباب تشتته وصرفه عن التفرغ للفن.. فإن بيكار كان- علي العكس- يتميز بالهدوء الشديد وانخفاض نبرة الصوت والسماحة في تقبل الرأي الآخر، وبالنَفَس الطويل عند الحوار حول القضايا المختلفة ومحل الخلاف، وبالبساطة المتناهية في التعامل مع طلبته وحَضِّهم علي الاطلاع وتوجيههم بشكل غير مباشر للتعرف علي قيم الجمال والإبداع في مدارس الفن المختلفة قديماً وحديثاً، بما كان يملكه من غزارة معرفية في شتي المجالات، وكان
يصحبهم عبر جلسات مطولة بمكتبة الكلية العامرة بروائع كتب الفن.. وتلك هي الخبرة الغالية بالنسبة لي شخصياً خلال العامين الوحيدين اللذين أدركته فيهما بالكلية قبل تركه لها، حيث تعرفت- لأول مرة- علي عيون الفن العالمي، وامتلكت مفاتيح الدخول إلي عالم اللوحة من خلال شرح مبسط منه ونحن طلبة بالسنة الإعدادية للفنون والسنة الأولي بقسم التصوير، وكنا حول سن العشرين في أغلبنا، وأذكر اهتمامه الأبوي بي وبزميليَّ الدسوقي فهمي ومحمود بقشيش (رحمه الله) حين لاحظ لدينا ميولاً للكتابة الأدبية، وتشجيعه لنا علي الاستمرار، كذلك فعل مع أصحاب الميول للرسم الصحفي أمثال مصطفي حسين والبهجوري واللباد وعدلي رزق الله ونبيل تاج وغيرهم ممن أثَّر في تشكيل مستقبلهم المهني حتي قبل تخرجهم.. إضافة إلي علاقاته الودية الرقيقة وبمنتهي الاحترام مع تلاميذه الكبار الذين أصبحوا أساتذة ومعيدين يعملون معه أمثال الجزار وندا وعمَّار والزيني ونبيل، فضلاً عمن ينتمون إلي الجيل السابق علي هؤلاء- من جيله هو- مثل البنَّاني ودرويش وحمودة، فكان بمثابة الأخ الكبير لهم وهم يعاملونه بمنتهي الحب والتوقير.
وعندما تولي رئاسة قسم التصوير 1956 بعد رحيل أحمد صبري الذي كان يشغل هذا المنصب، وجد نفسه عاجزاً عن التفرغ للفن وعن التواصل مع الناس- علي علوّ مكانته الأدبية- فلم يتردد في الاستقالة والانتقال للعمل كرسام صحفي وكاتب بمؤسسة أخباراليوم عام 1959 تلبية لدعوة الصحفي الكبير علي أمين، ما أتاح له فرصة التجديد في شكل التحقيقات الصحفية بالرسم بالفرشاة والألوان في المجلات المصورة التي تصدرها المؤسسة مثل آخر ساعة، إلي جانب الكتابة متنقلاً من بيئة إلي أخري ومن بلد إلي آخر داخل مصر وخارجها، وهو يؤمن بأن الفن رسالة للمجتمع، وبأن الصحافة المصورة هي الطريق الأقصر لتحقيق ذلك، واستمر علي هذا الإيمان حتي آخر عمره، ولم تمنعه طبيعته المسالمة وحرص المؤسسات الجامعية والثقافية علي الاستعانة به في كثير من اللجان والأعمال، عن توجيه سهام النقد لرؤساء هذه المؤسسات أو للمسئولين في أي مجال، لو رأي منهم انحرافاً أو فساداً أو ظلماً لفنان صغير، ولو كان هذا الظلم ينطوي علي أسباب سياسية باعتبار هذا الفنان معارضاً للنظام الحاكم، وأتحدث هنا عن واقعة شخصية كنت بطلاً لها في أكتوبر 1976، عندما كتب في مقاله الأسبوعي (ألوان وظلال) بالأخبار عن "الحديث الأسود"- علي حد وصفه له- الذي تناقلته بعض الصحف بشأن الاعتداء علي مرسمي وتدمير لوحاتي بقصر المسافرخانة بتدبير من السلطة الثقافية (وكان ذلك بضوء أخضر من السلطات السياسية والأمنية، التي لم تشأ أن تلوث يدها بالجريمة) تصفية لحسابات معروفة معهما، لقد كتب ينتقد بشدة ما حدث لي وهو يعلم أن المنبر الذي نشر فيه مقاله (جريدة الأخبار) هو صوت المؤسسة الرسمية الحاكمة التي قامت بهذا الفعل، دون أن يحسب حساباً للضرر الذي قد يتعرض له بسبب موقفه، وذلك قبل صدور ثلاثة أحكام قضائية لصالحي بشأن ما حدث.
هذه النزعة الاستقلالية المتجردة كانت دائماً وراء العديد من مواقفه في لجان التحكيم في المسابقات الفنية أو في لجان اقتناء الأعمال الفنية للدولة بعيداً عن التحيز لكبار الفنانين أو للمسئولين، أو في رئاسته للجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلي للثقافة لسنوات طويلة، كان دائماً نصيراً للشباب ولفكرة التجديد والحداثة، رغم كونه أحد الحراس الأشداء لفكرة الأصالة واستلهام الواقع والجذور المصرية، وتحذيره المستمر للشباب من الانسياق وراء كل ما تهب علينا به اتجاهات الفن الحديث في الغرب لمجرد إثبات مواكبة الفنان المصري للحداثة والتقدم، وكانت مقالاته عن المعارض الجماعية وعن الأحداث الفنية الكبري، أو عن المعارض الخاصة للفنانين، هي الكلمة الفصل في تقييمها، مما كان ينتظره الجميع بلهفة بالغة، حيث يزن بعين وزَّان الذهب مستوي المعرض، ويشير أولاً إلي إيجابياته حريصاً علي إبرازها في أول المقال، حتي يرفع معنويات الفنانين، ثم يتطرق إلي سلبياته لكن بكلمات رقيقة حانية، كالأب الذي يحفِّز أبناءه كي يكونوا أفضل، مما كان يجعل الفنان الذي يتناوله بالنقد يشعر وكأنه حصل علي صك الاعتراف به كفنان، وبالرغم من معارضته "لموضات" الحداثة التي تصل إلي حد العبث والاستخفاف في أعمال الفنانين الشباب، فلم يقف منها موقف الخصم والعدو، بل كان يحرص علي إرجاعها إلي ظروف نشأتها في المجتمعات الأوروبية والغربية وتأثرها بهذه الظروف التي تختلف تماماً عن ظروف بلدنا وثقافتنا، لكنه- مع ذلك- كان يطرب لكل ما يجده صوتاً جديداً يملك موهبة ابتكارية فارقة، ويشيد بعمله حتي لو لم يتفق مع أسلوبه.
والحقيقة أن بيكار لم يعتبر نفسه ناقداً بالمعني المعروف، يجيد أساليب النقاد المحترفين في التفكيك والتحليل والاستنباط والقياس والمقارنة، مستعيناً بنظريات علم الجمال وآراء الفلاسفة، بل كان ذواقة محترفاً في تمييز طعم وقيمة العمل الفني، وداعية للفن يقدمه إلي القراء محتفياً بما يحتويه من قيم جمالية ومضامين إنسانية، بنفس بساطة وسلاسة استقباله لها بعد أن يراها في الأعمال الفنية، يقدمها إليهم بكلمات مصفّاة من التقعر اللغوي والمصطلحات التخصصية والتلافيف الفلسفية، مضفياً علي أسلوبه بعض المشهيات المجازية ومكسبات الطعم التي تغري القارئ العادي ببلعها واستساغتها والنهل منها، فقد كان يدرك جيداً عمق الفجوة الثقافية بين الفن والجمهور، التي قد تصل إلي حد الأمية الجمالية، ومن ثم كان يحرص- في مدخل كل مقال- علي كتابة نص أدبي يجمع بين الفن والحكمة والمعلومة الثقافية والحكاية، مما يهدهد مشاعر القارئ وذوقه علي أرض مشتركة مع الكاتب، ثم يجتذبه بسلاسة إلي عالم الفنان أو إلي الموضوع الذي يعرضه، ولم يكن بوسع أي قارئ أن يفلت من أَسْر جاذبية هذا المدخل، بل يُستدرج إلي نهاية المقال المتخصص، من هنا نقول إن بيكار كان أحد سَحًرة الدعوة بالكلمة والريشة لتأسيس قاعدة عريضة من محبي الفن، ولم يكن يكتفي بذلك، بل كان يخصص- إلي جانب كل مقال- مربعاً ينشر فيه رسماً له بخطوط موجزة تنساب برشاقة وتُناسب كل مستويات التلقي، ومن تحته يضع نصاً من تأليفه من شعر العامية، في شكل رباعية أغلب الأحيان يحرص فيها علي الوزن والقافية إلا قليلاً، وتشف عن تأملاته القريبة من المفارقة الاجتماعية أو الحكمة الوجودية، ما يجعل من ركنه الأسبوعي (ألوان وظلال) صباح كل يوم جمعة إفطاراً طازجاً شهياً يجمع بين الفائدة والمتعة الجمالية.
وبنفس هذه "الخلطة السحرية"، كذلك كانت لوحاته الزيتية، فقد آمن بأن الفنان ينبغي أن يبحث عن الوجه الجميل للحياة والواقع ويتجنب الوجه القبيح.
كان مثالياً في نظرته متطلعاً لما ينبغي أن يكون، لا لما هو كائن، فعندما يرسم "بورتريه" لسيدة يختار أجمل زاوية لوجهها وأعضاء جسمها مخفياً جوانبها السلبية، وكان رأيه أن الفنان عليه أن ينقل إلي من يرسمها الشعور بكم هي جميلة، فلكل إنسان جماله الخاص الذي يتعين أن يبحث الفنان عنه ويبرزه، دون أن يعني ذلك أنه يكذب أو ينافق، بل إن الحقيقة هي أنه يساعد الشخص علي أن يقبل نفسه ويزهو بها من خلال الكشف عن الجمال الكامن بداخله، ومن شأن ذلك أن يمنحه الثقة والتفاؤل والسعي إلي أن يصبح علي الصورة التي صورها الرسام.
وقد انتقدتُ هذا المنهج في مقال لي بمجلة روزاليوسف أواخر السبعينيات وقت إقامة بيكار معرضاً يضم بورتريهات لسيدات المجتمع الراقي، فغضب مني مدير التحرير آنذاك "عدلي فهيم" الذي كان أحد تلاميذه بالكلية، والمدهش أن بيكار نفسه لم يغضب، بل تحدث معي في التليفون بمودة محترماً اختلافنا، ثم دعاني بعد سنوات عديدة إلي منزله وأجريت معه حواراً ثرياً نشر بمجلة الشموع في التسعينيات، واحترمت وجهة نظره التي أكدها في هذا الحوار، كما احترم هو اختلافي معه بمنتهي التواضع، ويمكننا تطبيق منهجه نفسه علي لوحاته الزيتية عن الحياة في النوبة والقرية المصرية والحياة الشعبية، التي تعد بمثابة أغنيات تطريبية صدَّاحة في حب مصر بطبيعتها وتراثها ومسيرتها الحضارية، متغاضياً عن أوجه القبح فيها.
إلي جانب ذلك كان بيكار عاشقا للموسيقي، استمتاعا وعزفا، وكان يجيد العزف علي آلة البزق التي تجمع أنغامها النحيلة بين صوتي القيثارة والرباب، وكانت تلك أجمل المتع التي يؤنس بها وحدته ويشكو عبرها أحزانه ويعيد التوازن إلي نفسه القلقة، تلك الحالات التي يهفو الإنسان فيها للعودة إلي منابع الطبيعة البكر والطفولة البريئة والعواطف الرومانسية الجياشة، حالماً بالحب والتماهي مع الكون المطلق. ولا أستطيع التأكيد بيقين علي ما إذا كان هذا الميل لديه إلي الحس الطفولي والبراءة الرومانسية كان لاحقا أم سابقاً علي تجربته الشهيرة في رسم صفحات مجلة "سندباد" في أوائل الخمسينيات وتعد هي المجلة الأولي للأطفال في مصر والعالم العربي، فالبرغم من الفارق الشاسع في الشكل والموضوع بين محتوي تلك المجلة وبين أسلوبه في الرسم أو الكتابة للكبار، فإن ثمة ما يجمع بين هذا وذالك، وهو من البكارة والدهشة والفطرة الرومانسية لاكتشاف الوجود. كانت حكايات ألف ليلة وليلة هي التيار النهري الجاري دائماً علي صفحات "سندباد"، وكانت مغامرات الفتي سندباد بحثاً عن المجهول وعن معاني البطولة والحق والخير ومواجهة قوي الشر هي الرِّي للنفوس المتعطشة لهذه القيم، وكانت الخطوط الناعمة المنسابة برشاقة موسيقية، وبهجة الألوان وتصميم التكوينات بحس يميل إلي الزخرفة في رسومه، هي المعادل البصري للحقيقة والأسطورة معاً حين يمتزجان.
لا يستطيع منصف- إذن- أن ينكر دور "سندباد" حول منتصف القرن الماضي بريشة بيكار، في تشكيل ذوق ووعي ووجدان جيل بأسره، ومنه خرجت مواهب سابقة في التصوير والنحت والرسم للأطفال وكتابة القصة والشعر، فضلاً عن آلاف غيرهم من المتذوقين الذين عشقوا الفن والجمال والقيم التي قامت "سندباد" بإرسائها، وتواكبت مع هذه التجربة واستمرت بعدها أيضاً، رسوم بيكار للقصص وأغلفة الكتب لكبار الكتاب، وتلك أول مرة يعترف فيها الناشر بأهمية وجود نص تشكيلي يصاحب النص الأدبي في الكتاب، ومَنْ مِنّا لم يقرأ كتاب "الأيام" لطه حسين في طبعته القديمة التي كانت توزعها وزارة التربية والتعليم علي تلاميذ المدارس مزينة برسوم بيكار؟!.. هذا وغيره من الكتب التي أصدرتها الوزارة أو دار المعارف في الخمسينيات والستينيات.. وبالرغم من أنها كانت مطبوعة بالحبر الأسود وحده فإنها ظلت منطبعة في ذاكرتنا وخيالنا كأنها أعمال ملونة.
كان بيكار بحق مدرسة للأجيال، بدءاً من مرحلة "سندباد" حتي مرحلة "ألوان وظلال" علي امتداد العقود التالية، مروراً بمرحلة تدريس الفن بكلية الفنون الجميلة (1942-1959)، ومن عباءته خرجت قامات رائعة في الرسم الصحفي للأطفال وللكبار (ذكرنا أسماء بعضهم من قبل)، ومن قبلهم خرجت أجيال من الأساتذة العظام حتي جيل حسن سليمان وأبوالعينين وممدوح عمار ويوسف فرنسيس ومصطفي حسين وجورج البهجوري وزكريا الزيني، وإن اختلفت رؤاهم وأساليبهم جذرياً عن أسلوبه، ولعل الفضل يرجع إليه في تغذية الاستقلالية والتعددية في الأساليب لدي تلاميذه مبتعداً عن فرض منهجه عليهم.
أما في مجال الكتابة عن الفن فقد خرجت من عباءته- ولو بالتأثر عن بُعد- أقلام مثل حسن سليمان وصبحي الشاروني وكمال الجويلي وحسن عثمان ومحمد حمزة ومكرم حنين ومحمود بقشيش وعصمت داوستاشي وفاروق بسيوني وإبراهيم عبدالملاك وعزالدين نجيب.. إلي جانب تأثرهم بلاشك برؤي أخري في النقد التشكيلي.
لكن يظل بيكار وحيد عصره وزمانه كمدرسة جامعة لإبداعات الريشة والكلمة والقيم والأخلاق والدماثة والصلابة، ويظل درساً لا يُنسي في الزهد والتعفف والحكم النقدي بموضوعية القاضي ونزاهته وبُعده عن الهوي، وفي الإخلاص لما يؤمن به، وهنا لابد أن أشير إلي أن ما لقيه من عنت- وصل إلي حد التهديد بالسجن والفصل من العمل- لم ينجح في صرفه عن إيمانه بعقيدته البهائية التي أصبح الزعيم الروحي لها بالمنطقة كلها، وكان صادقاً دائماً وهو يتحدث عن قيم الإسلام ومبادئه السمحة التي يؤمن بها ولا يجد تناقضاً بينها وبين ما تدعو إليه البهائية، مثل وحدانية الله والإيمان بالنبي محمد صلي الله عليه وسلم والاعتراف بالمبادئ الأساسية للإسلام، ومنها احترام الاختلاف وقبول الآخر، وكان بوسعه أن يتنكر لعقيدته ويتظاهر بإرضاء المتشددين وأصحاب السلطة، وكان سيحظي عند ذلك بما يشتهي من حسنات النظام وأجهزته، لكن المشكلة أنه لم يكن يشتهي أي شيء إلا أن يستمر في الرسم والكتابة والعزف، زاهداً صوفياً في المال والجاه إلي حد أنه كان يرد ما يفيض عن حاجته من مرتبه بالأخبار، أو يرد إلي صاحبة لوحة يرسمها لها ما يزيد علي المبلغ الذي يقدره لنفسه، وهو أدني من قيمة لوحة لفنان مبتدئ، وربما أجد أكبر دليل علي زهده أنه حتي رحيله عن الدنيا في 16 نوفمبر عام 2002 لم يمتلك غير سيارة نصر 128 اشتراها بالتقسيط من خلال مؤسسة أخباراليوم التي يعمل بها خصماً من مرتبه، وقام ببيعها في سنواته الأخيرة لعدم حاجته إليها، ولم يحاول حتي شراء شقة يقيم فيها وبقي في شقته بالإيجار المملوكة لأحد البنوك، وعندما رحل عن الدنيا ورحلت من بعده شريكة عمره وتراكمت قيمة الإيجار الشهري للشقة، تم الحجز علي جميع أعماله وممتلكاته وبيعت بأبخس الأثمان تسديداً لديونه المتراكمة للبنك، كل ذلك في غيبوبة أي جهة تسارع إلي إنقاذ هذا التراث النفيس وضمه إلي متحف الدولة كجزء من ذاكرة الوطن ووفاء لصاحب مدرسة رائعة في الولاء له والعطاء لأبنائه.
وبالرغم من ندرة ما يتاح لدينا من تراثه الإبداعي في التصوير، فلاتزال مئات الشخصيات تحتفظ بلوحاته التي اقتنتها منه أو رسمها لهم، بين بورتريهات ومناظر وموضوعات عامة، حصلوا عليها بأسعار زهيدة خلال حياته، لكن من أهم أعمال هذا التراث مجموعة لوحات بألوان الجواش تزيد علي الخمسين، رسمها أوائل الستينيات عند نقل معبد رمسيس الثاني بأبوسمبل إلي ربوة عالية عشية إطلاق بحيرة السد العالي في مكانه الأصلي، مستعيداً بالخيال مراحل بناء المعبد في حياة الملك رمسيس، وهي اللوحات التي استعان بها المخرج العالمي جون فيني في فيلمه "العجيبة الثامنة" الذي كلفه بإخراجه الوزير ثروت عكاشة آنذاك بمناسبة نقل المعبد، فباتت هذه اللوحات ثروة تاريخية نادرة جديرة بأن تحفظ بأحد المتاحف، لكنها ظلت مجهولة طوال عشرات السنين، حتي ترددت أنباء تقول إن أحد رجال الأعمال قام بشرائها لنفسه، وكان جديراً به أن يكمل جميله ويهديها إلي الدولة لوضعها في أحد المتاحف كي يشاهدها الشعب وتدرسها أجيال الباحثين، مثلما نجد رجال المال والأعمال يفعلون في جميع دول العالم المتحضرة.. لكن هيهات!.. فأين نحن من هؤلاء؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.