عندما توفي جونتر جراس في الثالث عشر من أبريل 2015، كان النقاش حول مواقفه السياسية طاغياً، وكادت رواياته وقصائده تتواري عن الأنظار. آنذاك قلتُ إن جراس سيظل بأدبه ومواقفه مشاكسا، حتي بعد وفاته، وستظل بعض هذه المواقف مثيرة للضجيج والجدل، أو كما كتبَ هو يوماً تحت عنوان "زاد الطريق": مع كيس مليء بالمكسرات أود أن أُدفن بأسنان جديدة تماما. وعندما يتصاعد ضجيجٌ من مرقدي فخمِّنوا: إنه هو، ما زال. وبعد مرور أربعة شهور علي وفاته، نفذ جراس وعده، وأثبت أنه ما زال لديه ما يقوله، وأن كتاباً جديداً له يستطيع - في قبره - أن يُحدِث ضجة في دنيا الأدب الألماني. يقول الناشر جيرهارد شتايدل إن جراس ظل يعمل علي نصوص هذا الكتاب، ويرسم لوحاته، ويتناقش معه في التفاصيل الفنية حتي آخر أيام حياته. اختار بنفسه نوع الورق، قرر أن يكون الغلاف من القماش القطني، وانتقي من الرسوم الكثيرة التي رسمها بالقلم الرصاص تلك التي ستتخلل النصوص، وحدد درجات اللون وظلاله، كما اختار الرمادي الداكن للعنوان: "عن الزوال". بدأ جراس حياته المهنية بتعلم نحت الأحجار، وكحِرفي ظل يعمل علي كتابه ليقدم آخر تحفة فنية في حياته. لم يمتد به العمر ليلمسه بعد طبعه، ويقلبه في يده، ويجري بشأنه اللقاءات الصحفية. وهكذا صدر "عن الزوال" بعد وفاة جراس ليكون وصيته الأدبية. يضم المجلد الجميل نصوصاً وقصائد ورسوماً تدور معظمها حول الشيخوخة والوهن. إنها نصوص رجل يعري نفسه طواعية، ويتحدث عن ضعفه وهشاشته بصدق، ويسخر من ذاته برفق؛ وهي نصوص رجل راضٍ عن نفسه وإنجازه وحياته، ومتصالح مع ذاته؛ رجل يترقب مقدم الموت، ليس لأنه ملّ الحياة - فهو مستمتع بها، حتي لو لم يبق في فمه سوي سِن واحدة - ولكن لأن قلب المدخن الشره أنذره مراراً بدنو الأجل. وجد الشاعر نفسه يتردد علي المستشفيات التي يطلق عليها "ورش التصليح"، وهناك كان يُجبر علي ابتلاع أكوام من الحبوب المختلفة الأحجام والألوان. راح يسأل: كم يتبقي؟ ولمَ الحياة؟ أدرك عندئذ أن "وقت التمرن علي الوداع" قد حان، فأخذ يستحضر حياته، ويودّع أصدقاءه وجسد المرأة والآلة الكاتبة ال"أوليفتي"، "عشيقة الجد"، كما يطلق عليها أحفاده. فَقدَ الجسد حواسه، وضاقت دنيا الكاتب الذي كان كثير الأسفار: "لم يعد السفر ممكناً/ إلا بالأصابع فوق الخريطة/ بلا جواز سفر، ولا أمتعة". ولعله رأي في النهاية خلاصاً وراحة: "لا ألم في الأسنان بعد اليوم / أخيرا أستطيع أن أقول أخيرا". وما يُبِعد هذه النصوص عن رثاء النفس والشكوي المُرة هي نبرة السخرية من الذات والمرح الخافت الذي يتخللها، وأيضا روح المقاومة التي لم يتخل عنها قارع الطبل. بسنِه الأخيرة ينوي جراس ألا يقول "نعم" بعد اليوم: "لن أقول إلا: لا، لا لا، ولا". "كنتَ تبدو سعيداً راضياً" وأطول نصوص المجلد هو النص النثري الذي يحمل عنوان "أين سنرقد"، وهو نص مؤثر يحكي فيه جراس بالتفصيل، وبنبرة تقريرية محايدة تزيد من تأثيره، عما راوده من أفكار بشأن التابوت الذين سيُدفن فيه. استدعي جراس نجاره، السيد إرنست أدومايت، وتحدث معه عن رغبته في صنع تابوت له وآخر لزوجته. تناول جراس منديلاً ورقياً، ورسم عليه "ما لا يحتاج إلي رسم"، وطلب من النجار صنع تابوته من خشب البتولا، في حين انحازت زوجته أوته إلي خشب الصنوبر الأغمق قليلاً. لم يعترض النجار. ثم طلب جراس أن يزوّد كل تابوت بثمانية مقابض، بعدد أولادهما، أربعة علي كل جانب. ولكن كيف سيُثبت غطاء التابوت؟ يتذكر جراس عندئذ أنه حصل بعد الحرب - خلال عمله نحاتاً لشواهد القبور وأثناء ازدهار المقايضة - علي عدد من مسامير التوابيت، مسامير صنعها حداد بنفسه، وذلك مقابل خمس سجائر من ماركة "لاكي سترايك". وهكذا أضحت تلك المسامير مادة لرسومه عندما كان طالباً في أكاديمية الفنون (وتزين الآن كتابه). استمع النجار إلي حكايته بتهذب، ولكن دون اهتمام كبير، ثم اقترح أن يستخدم لتثبيت غطاء التابوت خوابير من الخشب، وليس مسامير. بعد ذلك شغل بال جراس السؤال التالي: ما هي نوعية البطانة في التابوت؟ وكيف سيكون الكفن؟ راح يستعرض كافة الإمكانيات مع زوجته، ثم استقر أخيراً علي ورق الشجر: إذا حانت ساعته في الربيع فليكن ورق الشجر البض هو الذي يغطي جثمانه، وفي الصيف فسيكون الورق أخضر في كامل زهوته، أما في الخريف ذ أحب الفصول إلي قلبه ذ فسيكون سعيداً بالأوراق الملونة التي ستغطيه، وفي الشتاء سيكتفي بالورق الجاف الهش من شجرة الجوز وشجرة الحور في حديقته، مع بعض ثمار الجوز. من قمة الرأس حتي أصابع القدمين يجب أن يغطي ورق الشجر جسده، وعلي العينين المغلقتين يجب وضع ورق الورد، وكما شاهد في كلكتا بالهند. عندما ورّد النجار التابوتين في الخريف، رقد كل منهما في تابوته، علي سبيل التجربة. بعد ذلك مدت أوته يدها لجراس وساعدته علي النهوض قائلة له: خسارة، ليس معي آلة تصوير. وعندما سألها عن السبب قالت: "كنتَ تبدو سعيداً راضياً." بعد ذلك راح جراس يفكر في القبر. كانت رغبته في البداية أن يُدفن في حديقة بيته. لكن القانون الألماني يمنع ذلك. هل يأمر بحرق جثمانه ليقوم أولاده بنثر الرماد في الحديقة؟ لا، ينبغي أن يتغذي الدود علي رفاتهما، يقول جراس. لذلك قرر الذهاب مع زوجته إلي قس القرية، وطلبا منه ذ بعد أن صارحاه بأنهما لم يعودا يؤمنان بالله ذ توفير مكان لهما في المقبرة التابعة للكنيسة. لم يمانع القس، وخصص لهما قطعة أرض تحت شجرة سامقة، يرقد الكاتب تحتها الآن راضياً. قصائد ونصوص عديدة يتأمل فيها جراس في حياته ككاتب، فيما يبقي وما يزول. ويلاحظ قارئ جراس أنه يعبر عن أفكار قرأها في أعمال سابقة له، كما تتكرر رسوم تزين بعض أعمال جراس القديمة. لم يكن ذلك غائباً عن حامل نوبل الذي يقول في قصيدة "النهاية" إنه عندما يكتب جملة بعد عناء، يكتشف أنه كتبها بشكل أجمل وأدق قبل سنوات: "هذه هي النهاية، صحتُ،/ ولكن هذه الصيحة أيضا/ مكتوبة منذ سنوات علي ورق ذابل." ينظر الكاتب، "مدمن الحبر"، إلي أعماله المتجاورة علي رفوف مكتبته، ويتعجب: أهو الذي دوّن كل هذه الكلمات؟ أهو الذي سوّد كل تلك الصفحات؟ رغم شيء بقي إيمان جونتر جراس بالكلمة وبالكِتاب، أو كما يقول في قصيدة "النَفَس الطويل": "أيها المنافقون المتحضرون، أيها المُنشِدون المأجورون، ستبقي الكتب، وأنتم زائلون."