جراس يتوسط هاينرش بول وفيلى برانت لعبة القط والفأر في نص جميل بعنوان "الباليرينا" يقول جراس: "تحيا الباليرينا مثل راهبة، معرضة لكافة الاغواءات، لكنها تعيش في زهد صارم ... والفن هو دائماً ثمرة التركيز المنضبط، ولم يكن يوما نتيجة شطط عبقري". هذا التركيز المنضبط لم يحققه في عمل من أعماله كما فعل في "قط وفأر"، ولذلك احتفي عديد من النقاد بهذه الرواية، أو "النوفيلا" كما صنفها جراس، بل إن الروائي الأمريكي جون إرفينج يعتبرها "درة روايات جراس". كانت "قط وفأر" في الأساس جزءا من الرواية الثانية التي كان جونتر جراس بصدد كتابتها بعد "طبل الصفيح"، وهي الرواية التي أطلق عليها فيما بعد "سنوات الكلاب". غير أنه اقتطع هذا الجزء، جاعلا منه عملا مستقلا. وحسنا فعل. تتمحور "قط وفأر" حول شخصية مالكه التي يستحضرها الراوي بيلنتس، زميل مالكه في المدرسة، ويسترجع معها الصداقة التي ربطت بينهما في فترة الحرب العالمية الثانية في مدينة دانتسج. كان مالكه طفلا انطوائيا، يتيم الأب، يعاني معاناة كبيرة من بروز حنجرته. طيلة الوقت كان يحاول أن يخفي حنجرته، فيضع مرة فوقها مفكا، أو شالا، أو يرتدي وساما أو ربطة عنق. كانت تفاحة آدم البارزة لديه هي محنته ومأساته، فكان لا يدخر جهدا لإخفاء ما يعتبره ضعفا وقبحا، مثلا عبر إنجازاته الرياضية، لاسيما في السباحة، ظانا أن إبهار الآخرين عبر القيام بأعمال بطولية هو السبيل الذي سيجعل الناس يتناسون "عاهته". وعندما يُلقي أحد الضباط محاضرة في المدرسة، ويري مالكه وسام "صليب الفارس" الذي يزين رقبته، ويلاحظ مدي التقدير الذي يحظي به العسكر في المجتمع الألماني، يصبح حلم حياته هو الحصول علي وسام مشابه. في البداية يسرق مالكه وسام أحد الضباط، وبعد ذلك يلتحق بالجيش وينال وساما تقديرا لانجازاته في إحدي المعارك الحربية. خلال إجازته يتمني مالكه أن يلقي محاضرة أمام تلاميذ مدرسته، غير أن ناظر المدرسة يمنعه لارتكابه جريمة السرقة فيما مضي. عندئذ يقرر عدم استكمال الخدمة العسكرية وعدم العودة إلي فرقته. يبحث مالكه عن مكان يتواري فيه عن الأنظار قبل أن يواصل الفرار، ويطلب من صديقه بيلنتس أن يسمح له بالاختباء في قبو منزله، غير أن بيلنتس يرفض، ويقترح عليه الاختباء في كاسحة الألغام شبه الغارقة التي كانوا يقضون عليها وقت فراغهم أيام المدرسة. ويدبر بيلنتس مؤونة تكفي مالكه لعدة أيام، ومنها علب لحم محفوظة، ثم يستأجر قاربا ويجدّف حتي موضع السفينة، وهناك يعطيه الزاد. يطلب مالكه من صديقه العودة إليه في المساء بالقارب ذي المجداف، لكي يلحق بباخرة سويدية محايدة ويهرب علي ظهرها. ينسي مالكه فتاحة العلب، فيرمي بها بيلنتس في البحر، ولا يعود إلي صديقه في المساء كما اتفقا، وكأنه بذلك يصدر حكم الإعدام علي صديقه ذي الحنجرة البارزة. اتسمت علاقة الراوي بيلنتس بصديقه "مالكه العظيم" بخليط من الإعجاب والحب والكراهية؛ فمن ناحية يظهر بيلنتس إعجابه البالغ بقدرات مالكه الرياضية وبشجاعته، ومن ناحية أخري يكرهه بسبب تفرده وتفوقه الدائم علي الآخرين. ونلاحظ هنا أن مالكه لا يتقرب أبداً إلي صديقه بيلنتس، وأن بيلنتس هو الذي يتعلق بصديقه تعلقا شديدا، بل ويلاحقه، ثم يفتقده خلال غيابه، وخاصة بعد اختفائه في السفنية الغريقة. ويظل الراوي لسنوات يسأل عن صديقه مالكه، شاعرا بالذنب، آملا أن يكون قد نجا بطريقة ما؛ فإذا جاء سيرك الي البلدة، يذهب للسؤال عن مالكه. ولكن، "لا أحد يعرف مالكه". وعندما يسافر الراوي إلي مدينة ريجنسبورج لحضور أحد اجتماعات الناجين من الحرب، يطلب خلال إحدي الاستراحات من الضابط المسؤول أن ينادي علي ضابط الصف مالكه ليحضر إلي مدخل القاعة. "لكنك أبيتَ أن تظهر" يا مالكه. من اللافت أن الرواية تبدأ بالجملة التالية: "... وذات مرة"، وكأن الراوي يسرد بالمصادفة، من المنتصف، حكاية طويلة، لا يعرف من أين يبدأها وكيف ينهيها: حكاية شعوره بالذنب الذي يلاحقه دائما. ولكن، أي ذنب يتحمله الراوي بيلنتس تجاه صديقه مالكه؟ هل هو الذي ألقي به إلي التهلكة؟ لماذا لم يمد له يد المساعدة؟ لماذا رفض أن يخبئه لديه وأن ينقذ حياته؟ ولماذا راح ينكر أنه هو الذي أمسك ذات يوم بالقطة وقربها من حنجرة مالكه الشبيهة بالفأر؟ لماذا راح يدعي عدم القدرة علي تذكر تلك الواقعة الصبيانية، قبل أن يعترف أخيرا بذلك؟ يتعذب بيلنتس بذكرياته عن مالكه الذي اختفي، والمرجح أنه مات. يواصل الراوي حياته، لكنه لا يستطيع النسيان، ولا يجد غير الكتابة طريقا وحيدا للخلاص من الذنب: "اجلس فقط يا عزيزي بيلنتس، وباشر الكتابة؛ فقلمك متميز، حتي وإن كان الطابع الكفكاوي يغلب علي محاولاتك الشعرية الأولي وقصصك القصيرة: امسك بآلة الكمان أو حرر نفسك بالكتابة ذ فالرب لم يزودك بالمواهب هباءً." القط والفأر، هذه اللعبة الأبدية في الهجوم والفرار، في التذكر والنسيان: هذا ما عاد إليه جراس فيما بعد عندما تحدث عن الفترة التي قضاها جنديا في فرقة ال"إس إس" ليسأل عن مسئوليته، وذنبه، أو براءته. عن الأسماك والجرذان والضفادع بعد النشاط السياسي المكثف عاد الخطيب إلي مكتبه، وانهمك طوال أربع سنوات في كتابة رواية ضخمة، صدرت عام 1977 بعنوان "سمكة موسي"، وبها يستعيد صاحب "طبل الصفيح" أمجاده ككاتب أدب فانتازي، وكرائد ألماني لتيار الواقعية السحرية. ويشي العنوان بولع جراس بالحيوانات واختيارها عناوين لأعماله، كما رأينا في "قط وفأر" و"سنوات الكلاب" و"يوميات حلزون"، وكما يتضح في أعماله اللاحقة مثل "الجرذة" و"نقيق الضفادع" و"في خطو السرطان". تنطلق أحداث "سمكة موسي"، أو "الطربوت"، من حكاية شعبية كتبها الأخوان جريم، وهي حكاية صياد فقير يعيش مع زوجته، ويصطاد ذات يوم سمكة طربوت، يتضح أنها ليست سوي أمير مسخوط، فيطلق الصياد سراحه. عندما تسمع زوجته إلزبيل ما حدث، تسأله عما حصل عليه مقابل منح الأمير حريته. وعندما يقول لها إنه لم يطلب شيئا، تصرخ في وجهه، وتطالبه بالذهاب مرة أخري إلي البحر وأن ينادي هناك علي السمكة، وأن يطلب منها الحصول علي كوخ صغير. فعل الصياد ما طلبته زوجته، وبالفعل لبت له السمكة أمنيته. غير أن الزوجة تعلن عدم رضاها بالكوخ، وتطلب قصرا، ثم تتمني أن تصبح ملكا وقيصرا، وأخيرا بابا الكنيسة. تلبي السمكة كافة طلبات الزوجة، إلي أن تطلب أن تصير رباً. عندئذ تجد إلزبيل نفسها في كوخها الفقير السابق. في روايته يعكس جراس الحكاية الشعبية، فليست المرأة هي التي لا تعرف الشبع أو الرضا، بل الرجل. يتحدث جراس في هذه الرواية الضخمة (نحو 700 صفحة) عن كل شيء، ويمكن اعتبارها تاريخا للجنس البشري من العصر الحجري حتي اليوم. إنها رواية عن الطعام والجنس، عن الصيد والزراعة والتجارة، عن الطهي والطعام، وعن الهضم ومخلفاته، كما أنها رواية عن السياسة والسلطة، ودور النساء في التاريخ، وتحرر المرأة. تبدأ الرواية في أكتوبر عام 1973، وفي المشهد الافتتاحي نعرف أن الراوي وزوجته إلزبيل يتناولان وجبة من لحم الحمل مع الفاصوليا والكمثري، ثم يمارسان الجنس معا، فتحمل امرأته. والكتاب مقسم إلي تسعة فصول، هي شهور الحمل. وفي نهاية الرواية تنجب إلزبيل بنتا. هذا هو المستوي الأول للقص. بموازاة ذلك هناك مستوي ثان، تجري أحداثه في برلين، حيث تعقد النساء محاكمة ل"الطربوت" (والكلمة في الألمانية مذكرة)، الذي يرمز في الرواية إلي روح العالم، وتستمر المحاكمة تسعة أشهر أيضا. وفي المستوي الثالث للسرد يحكي الراوي لزوجته إلزبيل عن حياته في العصور المختلفة، بدءا من العصر الحجري وصولا إلي أزمة النفط عام 1973. وخلال ذلك يسرد الراوي علاقاته النسائية مع النساء التسع اللائي كن يطعمنه قبل إلزبيل، كما يتأمل في العلاقة بين الرجل والمرأة. ويتضح خلال ذلك أن التاريخ كتبه حتي الآن الرجال، وأنهم هم المسئولون عن الحروب والعنف في العالم. لقد قاد الرجال العالم إلي الهاوية، ولذلك فإن الوقت قد حان لكي تتولي النساء إنقاذ العالم. لا يخشي جراس في "هذه الرواية مزج النثر بالشعر، ففي نهاية كل مقطع تقريبا نجد قصيدة ذات صلة بالأحداث، كما لا يتورع عن استخدام مفردات وتعبيرات إباحية وجنسية صادمة، كما يتحدث بلغة حيادية تقريرية عن البراز "المألوف لنا" والذي يحمل "دفء أجسادنا"، بل ويكتب الشعر عن ذلك. فور صدورها تصدرت "سمكة موسي" قائمة المبيعات في ألمانيا، وسرعان ما وجدت طريقها إلي الترجمة إلي لغات عديدة، ليس من بينها العربية حتي الآن. ويكاد يجمع النقاد الألمان علي أنها تمثل الذروة الثانية في أدب جراس بعد ثلاثية دانتسج، وأن جراس نجح فيها في استعراض براعته في سرد مشاهد وقصص ونوادر خيالية رائعة، ولغته الثرية بالصور والتشبيهات البلاغية. غير أنهم يعيبون عليها ما عابوه علي "سنوات الكلاب": التضخم والترهل في السرد. وهذا ما ذكره أيضا الأديب السويسري الكبير فريدريش دورنمات (1921 : 1990) الذي أبدي إعجابه بالرواية، منتقدا في الوقت ذاته طولها غير المبرر فنيا. مقطعان عن روايتيّ جونتر جراس "قط وفأر" و"سمكة موسي"، من كتاب "جونتر جراس ومواجهة ماضٍ لا يمضي" للكاتب والمترجم سمير جريس، يصدر الكتاب قريباً عن دار الكتب خان.