منذ قرابة عشرين عامًا دعاني الدكتور عز الدين إسماعيل إلي تقديم دراسة نقدية عن أحدث ديوان لإبراهيم داود آنذاك؛ فقمت بإعداد دراسة بعنوان "الرمزية واللغة في ديوان الشتاء القادم لإبراهيم داود". وقد أَلقيت مضمون هذه الدراسة بجمعية النقد الأدبي سنة 1996، وظهرت في العام التالي ضمن الإصدار الأول لهذه الجمعية بعنوان "حوارات نقدية". وأذكر أن تلك الدراسة نالت استحسان الحضور الذي كان من بينهم الدكتور عبد الغفار مكاوي، فضلاً عن الدكتور عز الدين إسماعيل. كان إبراهيم آنذاك لا يزال في بداية تجربته الشعرية، مثلما كنت لا أزال في بداية تجربتي النقدية. وبعد أن انقضت كل تلك السنوات ظهرت دواوين أخري للشاعر، جمعها في مجلد واحد بعنوان "ست محاولات"، وهي في مجموعها تسمح لنا بأن نتحدث عن ملامح أساسية لتجربته الشعرية تتبدي في سائر دواوينه. إذا كان إبراهيم داود يجرب الشعر أو يمارس تجربته الشعرية الأولي في ديوانه "تفاصيل"، فإن هذه التجربة الأولي- بدءًا من عنوانها- تنبئ بطبيعة توجهه الشعري الذي سوف يلازمه بعد ذلك عبر تطور هذه التجربة في سائر دواوينه؛ أعني: ذلك الاهتمام الواضح بتفاصيل الحياة الجزئية العابرة. حقًا إن الشعر- كما علمنا أرسطو منذ زمن بعيد- ينبغي أن يهتم في المقام الأول بالكلي لا الجزئي! ولكننا نلاحظ أن التفاصيل عند إبراهيم داود وإن بدت كأحداث جزئية عابرة، فإنها في الوقت ذاته تخلق دلالة إنسانية أو حالة شعورية عامة تبدو مكثفة في صورة شعرية. والواقع أن كثافة الصورة المعبرة عن الحالة الشعورية التي تصورها القصيدة، تتبدي- في المقام الأول- في كثافة اللغة ذاتها، وبذلك نجد أن الصورة تكون مكثفة من خلال قصائد تلغرافية قصيرة، لعل أقصرها ذلك المقطع بعنوان "سؤال" في ديوان "تفاصيل": لماذا تترك البنتُ الجميلةُ خصر صاحبها متي فُتحت إشارات المشاة ونجد قصائد أخري تلغرافية عديدة في ديوانه "مطر خفيف في الخارج"، ومنها قصيدته التالية بعنوان "علاقة" التي تقول: في كل مرة تقول: لن أراك ثانية في كل قُبلة تقول: هل أراك ثانية؟ في كل ... نلتقي إلي الأبد وهو يقول أيضًا في قصيدة تلغرافية أخري تالية مباشرة علي القصيدة السابقة، بعنوان "تردد": لم لا تهاتفها مساءً وتعيد ماء الود؟ لم لا تهاتفها صباحًا حلو صباح الورد ... لم لا تذكرها بصوتك؟ وهذه القصيدة من أجمل قصائد هذا الديوان وغيره من دواوين إبراهيم داود، وهي تجسد سمات شعره بوضوح؛ ليس فقط لأنها تكثف الصورة الشعرية من خلال لغة تلغرافية تستدعي حالة شعورية معينة؛ وإنما أيضًا لأن اللغة الشعرية هنا تخلق نوعًا من الموسيقي الباطنية التي عادةً ما تغيب عن لغة كثير من شعراء قصيدة النثر. هذه الموسيقي الباطنية تتجلي هنا في خلق نوع من التقابل الذي يقوم علي التوازن، وهذا يبدو أحيانًا في استخدام كلمات متقابلة متوازنة ومتناغمة صوتيًا، لتقطع رتابة تكرار الكلمة التي تسبقها (كما نجد ذلك هنا- علي سبيل المثال- في التقابل بين عبارتي: "تهاتفها مساءً" و "تهاتفها صباحًا"). كما يبدو هذا الأمر بطريقة معكوسة في أحيان أخري عندما نجد أن التكرار يكون في الكلمة الأخيرة، فتأتي الكلمة السابقة عليها لتضفي عليها معني جديدًا مغايرًا ومقابلاً لمثيلتها في عبارة أخري (كما نجد ذلك هنا في التقابل بين عبارتي: "ماء الورد" و "صباح الورد"). غير أنه من المهم هنا أننا نشعر أن إبراهيم داود لا يفتعل مثل هذه الطرائق في التعبير كما لو كانت حيلاً شعرية، بل إننا نجدها ماثلة في شعره بطريقة تلقائية دونما تعمد أو افتعال؛ وربما يكون هذا هو سبب بساطة لغته وتسللها إلي المتلقي البسيط في يسر وسهولة. حقًا إن هذا التكثيف في التعبير عن الصورة الشعرية من خلال لغة اختزالية، لم يكن سمة عامة لكل قصائد الشاعر ودواوينه الشعرية؛ إذ نجد أن بعض القصائد تطول في دواوين أخري تالية علي ذلك الديوان الذي توقفنا عنده الآن. ومع ذلك، فإننا سرعان ما نجد الشاعر يعود إلي سيرته الأولي، ومن ذلك- علي سبيل المثال- قصيدة تلغرافية بديعة في آخر دواوينه المجموعة، وهي القصيدة التي تحمل عنوان "متاريس" (الواردة في ديوان "حالة مشي،" صفحة 441 من مجموعة دواوينه)؛ إذ يقول: كلما اكتشَفَ طريقه إلي العزلة اصطدم بهم أولئك الذين يسدون عليه ارتجالاته كلما شرع في العزف هذه القصيدة التلغرافية بديعة، رغم أنها لا تستخدم موسيقي ظاهرة، ولا حتي باطنة، وإنما تستخدم فحسب قدرتها علي التعبير في أقل كلمات ممكنة عن حالة شعورية يصادفها، بل يعانيها، كل المبدعين في الشعر وفي غيره من صنوف الإبداع؛ ولذلك فإن الشاعر هنا لا يتحدث بضمير "الأنا"، وإنما يتحدث بضمير "الهو" (أو ضمير الغائب)، باعتبار أن هذه الحالة الشعورية التي يتحدث عنها تحدث لكل مبدع ولكل شاعر، مثلما تحدث له شخصيًا. فالشاعر هنا يصور بلغة مكثفة تلك الحالة المضادة لطبيعة الإبداع التي تسد عليه مسار دفقته الشعورية الأولي التي تشبه الارتجال في عزف الموسيقي وفقًا لما يمليه الشعور واللحظة المتألقة التي قد لا تكرر مرة أخري علي نفس النحو. ومرة أخري فإننا نجد هنا أن إبراهيم داود يتأمل مأزق التجربة الشعرية والإبداعية عمومًا، بل يتأمل مأزق تجربته الشعرية التي يعانيها هو خصوصًا، باعتباره شاعرًا يهوي الارتجال الذي ينبع من دفقات الشعور. فالشاعر هنا يعرف أن الشعر دونه متاريس عديدة، منها الانشغالات الوظيفية، ومطالب الحياة اليومية، وكل ما يعكر صفو التجربة الشعرية ونقائها؛ وأن الشعر لا يفتح بابه علي مصراعيه إلا لمن وهب نفسه له، مصممًا علي اجتياز كل تلك المتاريس التي تحول دونه، مثلما تحول دون كل إبداع. ومن السمات المميزة لشعر إبراهيم داود تلك الخاصية المتعلقة بالحالة الشعرية السائدة في مضمون معظم قصائده: فهناك دائمًا حالة من الشعور بالوحدة، كما نجد ذلك- علي سبيل المثال- في قصيدة "حال" الواردة ضمن ديوانه "مطر خفيف في الخارج"؛ ولكننا نجد دائمًا- في مقابل ذلك- حالة شعورية مقابلة تتمثل في الرغبة بالشعور بالدفء والائتناس بالبشر الحقيقيين. لقد سبق أن كتبت عن هذه الحالة الشعورية في مقالي عن "الرمزية واللغة في ديوان الشتاء القادم" الذي سبق التنويه إليه: فالحقيقة أن هناك في هذا الديوان حالة من التوق إلي الدفء، وهي ليست مجرد حالة من التطلع إلي الدفء الجسماني، وإنما هي- في المقام الأول- حالة من التطلع إلي دفء المشاعر من خلال الأسرة والأبناء والأصدقاء الحميمين والأحباء، ومن خلال الحلم الذي يبقي كامنًا بداخلنا كما لو كنا نستدفئ به. وإن تكن هذه الحالة الشعورية "تيمة" أساسية في ذلك الديوان، فإن أصداءها تتردد دائمًا في قصائد عديدة في دواوين أخري. إن هذه الرغبة في التماس الدفء الشعوري من خلال المشاعر الحميمة هي الحالة التي تلازم الشاعر، حتي إننا نجدها ماثلة في آخر دواوينه المجموعة، وهي القصيدة التي تحمل عنوان "قبل النوم" (الواردة ضمن ديوانه الأخير في هذه المجموعة بعنوان: "حالة مشي، صفحة 407)"؛ إذ يقول في تلك القصيدة:التي تحمل عنوان "قبل النوم" (الواردة ضمن ديوانه الأخير في هذه المجموعة بعنوان:حالة مشي صفحة 407)"؛ إذ يقول في تلك القصيدة: أحب البيوتَ التي لها رائحة وأكره الشوارعَ الطويلةَ والأبوابَ التي تُفتَح بمفتاحين وأمتلك في الجنة ثلاثَ شققْ استمتع بالكسل في الصغيرةِ واكتب قصائدَ وحكايات في الثانية أضيعها في الثالثة التي بها أنهارُ من الخمرةِ ونساءُ يروِّجن للغناء ومن أعمق قصائد هذا الديوان التي تكثف الصورة من خلال تكثيف اللغة، قصيدة بعنوان"قبل الكتابة"؛ لأن هذه القصيدة فيها طابع التأمل لمعاناة الشاعر في التعبير عن معان عامة وحالات شعورية ذات دلالات إنسانية عميقة، من خلال كلمات بسيطة مختزلة. إن الشاعر هنا يتأمل تجربته الشعرية التي نحاول الإمساك بها هنا في هذا المقال، وهي التجربة التي تريد أن تستحوذ علي المعني وعلي الشعور من خلال لغة اختزالية لم تتخل دائمًا عن موسيقي الشعر الظاهرة، وبالتالي لم تكتف بالإيقاع الباطني الذي سبق أن تحدثنا عنه، والذي كثيرًا ما نجده سائدًا في قصائد الشاعر. هذا التأمل للتجربة الشعرية للشاعر هو ما يتبدي لنا- علي الفور- في ذلك المقطع الأول من القصيدة: كيف تكتب هذا الزحام كيف تبدأ من خطوة شاردةْ كيف تحذف كل الكلام لتصنع شعرًا جميلاً كيف تلقف وجه المليحة في جملة واحدةْ ومن هذا كله يمكن أن نلحظ شخصية شعرية مستقلة في أعمال إبراهيم داود، رغم أنه يكتب قصيدة النثر التي تستعصي علي الكثيرين ممن يحاولون تجربة الشعر؛ لأنهم يلجأون إلي قصيدة النثر من باب الاستسهال أو بدعوي التحرر من قوالب الشعر ولوازمه اللغوية، غافلين عن أن كتابة قصيدة نثر جيدة يتطلب مهارات عديدة وحسا شعريا مفطورا. ولعلنا نلاحظ أن الشعراء المتميزين في إبداع قصيدة النثر- من أمثال إبراهيم داود- يبقون علي شيء من كثافة طبقة الصياغات الصوتية التي تميز لغة الشعر عن غيره من فنون الأدب؛ ولكنهم يستعيضون عما ينقص سمك هذه الطبقة بتكثيف استخدام عناصرَ وأدوات شعرية أخري، من قبيل: الصورة الشعرية، وبساطة التعبير عن المعني أو الدلالة الإنسانية، والخوض في تفاصيل التجربة الحية المعيشة التي تتجلي فيها هذه المعاني والدلالات. هذه الشخصية المستقلة في شعر إبراهيم داود هي بالضبط ما يميزه عن الكثيرين من أبناء جيله من شعراء قصيدة النثر، بل هي ما يميزه أيضًا عن بعض من الجيل السابق عليه ممن شابت رؤوسهم منذ عقود من الزمان، ولم يضعوا لهم قدمًا في قصيدة النثر؛ لأنهم منذ البداية قد سعوا إلي تقليد كبيرهم أدونيس ولم يستطيعوا الخروج من عباءته، فلم يبق منهم شيء، رغم أنهم كافحوا من أجل نشر بعض أعمالهم الهزيلة في بلاد المشرق والمغرب، ولكنهم نسوا ما هو أهم من ذلك كله، وهو أن الشعر تجربة شعورية، ومن ثم تجربة شخصية لا يستطيع الإفصاح عن تفاصيلها وحقيقتها سوي صاحبها: فالشعر لا يُستعَار. هذا ما فهمه إبراهيم داود منذ البداية، فأراد أن يكون هو نفسه.،