النص الغائب تجمعت الريح في مكان بعيدِ خلف الأسوار، تشبه في تقدمها شالا حريريا رماديا طويلا، عبرت بين فروع أشجار المانجا بخفة، وتقدمت صوب شرفات البيت المفتوحة، الستائر تهفهف يمينا ويسارا فتلاعب الضوءَ الشحيحَ، تعربد الريح بين الأثاث المنثور هنا وهناك، تصافح جدرانًا صامتة، تدور في الفراغ المتاح وتخرج من منافذ أخري. دخلتُ فوجدته يشهق شهقات متوالية، وينظر بفزع صوب باب الغرفة، التقت نظرتي بنظرته، وأنا أهرع صوبه، وقبل أن يقول كلمة واحدة، سقطت يده جواره وهمد جسمه تماما. اقتربت منه رويدا، ألصقت أذني بصدره فلم أسمع صوتا، ورويدا دبت البرودة في جسده الهامد المسجي، جلست علي حافة السرير، مازالت نظرته شاخصة إلي الباب، حيث توقعه دخولي. هل رحلت هكذا بسهولة؟. قتلتك عشر مرات من قبل، كلما ضاقت علي أيامي أمسكت بالورقة والقلم وابتكرت لك ميتة تليق بما تفعله معي.
هل تذكر يوم أن تركتني أبيت بمفردي في هذا البيت المنعزل، كنت حاملا بطفلنا الأول، وذهبت لقضاء أسبوع في قرية سياحية مواجهة للبحر في أحد المصايف، وكذبت وقتها قائلا: "العمل يقتضي مني السفر لمراجعة الفرع الرئيسي" لم تعرف أبدا أن المرأة التي رافقتك ظلت تتصل بي دون أن تحس وتسمعني كلماتك الفاجرة التي تقولها لها، لم أحزن ولم أشعر بالغيرة، كنت أحتاج إلي مبرر لأبدأ نزواتي مثلك وقد وفرته لي بسهولة، أمسكت بالقلم وقتلتك شر قتلة؛ كيف دبرت لك هذه الميتة الرائعة؟ لا تسألني. لقد انهالت عباراتي علي الورق وحدها. وهكذا وجدتني أكتب. "كنت عائدا معها في ليلة حالكة، بعد أن قضيت أسبوعا معها غارقا في العسل، الطريق طويل والحر خانق، قررت طي الطريق بالعبور من طريق مختصر وغير مطروق، تعرفه من رحلات سابقة، هكذا رسمت لك متاهة في الصحراء، صورتها لك كحل لا يصل إليه عقل الكثيرين، وعندما أوغلت في المتاهة ودرت ولففت بحثاً عن الطريق الصحيح، في هذا المأزق اكتشفت أنك ظلمتني، وأني كنت طوال الفترة الماضية مصدر سعادتك، وأن هذه المرأة ليست سوي عاهرة، قبلت السفر مع رجل غريب وفعلت معه كل الرذائل، لكن الطريق الرئيسي كان بعيدا جدا" ونشرت القصة علي الإنترنت وأعجبت القراء، علي الرغم من وجود بعض الثغرات بها، أرسل إلي أحدهم علي الإيميل قائلا: "وهل ضاع الموبايل الخاص به و موبايل المرأة التي رافقته لتبتلعهما الصحراء؟" لم أرد عليه. لا توجد قصة كاملة يا صديقي. القصص أحيانا كفن ندثر به من جرحونا. هكذا، قتلتك كثيرا، وكلما انتهيت من قتلك ورفعت القلم عن الأوراق يحزنني ظهورك مجددا، فأعيد قتلك في قصة أخري من جديد.
لا أصدق أن موتك جاء سهلاً هكذا، بعد أن لازمت السرير منذ يومين لأنفلونزا ألمت بك، ولم تذهب إلي العمل. أعدُ لك كوب الليمون الساخن كل ساعتين، أضعه بجوارك وأعود إلي صالة المنزل دون كلمة، لمشاهدة التليفزيون. أقهقه إذا شاهدت فيلماً كوميديا، أو أخرج لممارسة الرياضة في قاعة الجامنزيوم. لا تستبقيني بكلمة أو بنظرة. تباعدت بيننا المسافات. ربما لا تعرف بخياناتي المتكررة لك. متي كانت أول خيانة؟ لم أعد أذكر، ربما مع الرجل الذي عرفته عند سلم الطائرة، ولفني عطره بدوار وخدر لذيذين. كان ذاهباً إلي نفس الدورة التدريبية التي تم اختياري إليها، هذا ما عرفته فيما بعد، طلب من الجالس بجواري أن يغير الأماكن، وانتقل إلي جانبي بعفوية من ينتقل إلي جوار زوجته، لم أحدثه واكتفيت بالبقاء في مهب نسيم عطره الأخاذ، عندما بادرني بالحوار قائلا: دانهيل.. من أشهر العطور الرجالية" أبديت غباء، كيف استشف إعجابي بعطره؟ وما هذه الثقة الزائدة التي يتحدث بها؟ رأسي استدار ليواجه النافذة، لكنه بادرني قائلا: "عليك بالنظر إلي الداخل، يوجد من يستحق-هنا - أن تنظري إليه!" تركت حديثه ينساب بيننا رقراقا، خاصة بعد أن عرفت أنه رفيق الرحلة التي ستمتد أسبوعا، في بلد أوروبي لا يضع تصرفات الغرباء تحت المجهر، تمنعت في البداية، لكن التمنع كما قال باب موارب احتمال فتحه أكبر من احتمال إغلاقه. كنت كلما عرفت رجلا كتبت قصة تخونني أنت فيها، أشعر براحة عند الانتهاء، أحيانا أنسي خيانتي وأتطهر بهذه الكتابة، تقرأها مثل أي قارئ وتندهش، لماذا تخصصت في الكتابة عن خيانة الرجل للمرأة؟، ربما لأن وراء كل امرأة خائنة رجلا متجاهلا لأنوثتها. أذكر القصة التي كتبتها عنك لتوازي علاقتي بهذا الرجل، رسمت ملامح الرجل قريبة الشبه بملامحك جدا، رجل طويل له شارب مرسوم بدقة فوق شفتيه، لكنه يستخدم دانهيل للتعبير عن ثقته بنفسه، غافل زوجته وقضي أسبوعا علي ساحل البحر مع امرأة أخري، اعترف لها بفعلته عندما قررا في لحظة صدق أو طيش- أن يتخففا من الأحمال التي كبلت علاقتهما، باعتراف كل منهما إلي الآخر بما فعله، جرته إلي الفخ بحنكة صياد محترف، ولم تقل له حرفا من أسرارها، واعترف بكل ما حدث معه، ظنا منه أن الاعتراف كاف لتغفر له زوجته، لكنها استغلت هذه القصة لترسم علاقتها القادمة به.. هكذا وضعتك في حيرة، كلما قرأت سطرا في القصة اشتدت حيرتك، وتساءلت بينك وبين نفسك: "أأنا الرجل الذي في قصتها؟ هل عرفتْ بقصة المرأة الأخري؟ أم كان خيالها القصصي خصبا؟ وهل عرفتْ باقي خياناتي؟" الأمر الذي دفعك إلي الاعتراف لي بكل ما فعلت، معتقدا أنه ذكاء منك، وأني سأغفر. ولما نشرت القصة وصلتني رسالة من نفس القارئ السابق: "هذه القصة تشبه قصتك السابقة" أجبته هذه المرة قائلة" "كل صورة في الأدب مهما تراءت لنا علي أنها جديدةٌ ومبتكرةٌ، لا تعدو كونها تكرارا لصورة مركزيةٍ مع بعض الانزياح الذي يخلق تفرد العمل واختلافه بل ومنطقه الداخلي الخاص*. هناك دوما النص الغائب الذي نقتبس منه باقي النصوص. وأنت.. لا تعرف نصي الغائب.
تتلاشي أوهامي في بعض الليالي، أتعذب بإدراكي مساحة الصدق ومساحة الخيال في القصة، ولا يؤثر التطهر بالكتابة علي الإحساس بجرمي، لكنه وقت محدود فقط، أعود بعده إلي ما اعتدت فعله.. وهكذا كتبت قصصي الكثيرة، قصصي الكثيرة جدا. لن أقف عاجزة أمام موتك هكذا بسهولة. كيف سأكتب عنك القصة الأخيرة؟ أحضرت الأوراق والقلم، وشرعت في الكتابة، وجسدك مسجي علي السرير شاهدًا علي حيرتي، لماذا تحيرني حتي بعد رحيلك؟ عليّ إيجاد البداية، وستنساب باقي الأحداث. ولتكن البداية هكذا: "دخلت.. فوجدته يشهق شهقته الأخيرة، بعد أن قضي يومين في سرير المرض، مصابا بالأنفلونزا" لا .. لا يجب أن تكون البداية هكذا. عليّ كتابتها والحدث ساخن، قبل رفع سماعة الهاتف وإبلاغ الأهل برحيلك، قبل أن أختار ثوبًا أسودا يليق بالحدث.سأبدأ من جديد، هكذا: "تجمعت الريح في مكان بعيدِ خلف الأسوار، تشبه في تقدمها شالا حريريا رماديا طويلا، عبرت بين فروع أشجار المانجا بخفة" بداية موفقة تليق بقصته. وأكملت: "ولأنه مصاب بالربو، كان يجب أن يحترس من التعرض لاستنشاق حبوب اللقاح التي تنتشر في الهواء بداية الربيع، لكنه الحظ الذي كال لي بسخاء هذه المرة، بدأت الأزمة مع غروب أول أمس، واشتدت مع فجر هذا اليوم" عليّ أن أنسج صلب القصة بعد هذه الدخلة. "أخفيت عبوة الرش التي تخفف كثيرا من حدة الأزمة، ادعيت أنها فارغة وأن الخادمة ألقتها في سلة المهملات منذ فترة... وأن الليل موغل، و...، و...." هكذا أقنعته بأن الدواء غير موجود. الحزن الشديد يزيد من حدة الأزمة! هكذا قرأت مرة.. لأكمل القصة إذن! "جلست بجانبه، واجهته بما أشعر تجاهه، ومتي انتهي حبي له، أو ما حاولت أن أوهم نفسي بأنه حب، ربما انتهي حبي قبل أول خيانة، بدأ سعاله يشتد، مصحوبا بمخاط كثير، يسيل من زاويتي فمه، عددت له خياناتي، الرجل الذي عرفته عند سلم الطائرة، وصديقه الذي كلفه بتزويدنا بكل ما نحتاج أثناء غيابه، ارتعش جسمه وحاول أن يمد يده إلي رقبتي، رغبة في خنقي، فزدت؛ رويت له عدة خيانات أخري لم أفعلها في الواقع، لكنها مجرد خيانات ذهنية مع رجال خلقهم قلمي، لكني شعرت أني قمت بها من كثرة تخيلها. كنت أري ملامح وجهي وأنا أحدثه، ونظرة عيني، وضحكت، ضحكت بهستيرية" كان وجهه مخيفا. تخشب كل إصبع من أصابعه كخطاف، جحظت عيناه ونفرت عروقه، وتركته، تركته يواجه أزمته بمفرده، وأغلقت باب الغرفة بعد أن فصلت سلك الهاتف الأرضي، وحملت هاتفه المحمول معي، وخرجت إلي الشرفة لأقف في وضع النجمة: واجهت الشمال بجسمي منتصبا، وفردت ذراعي خارج جسمي، مشكلة بهما خطا مستقيما، وباعدت ما بين ساقي، أغمضت عيني، أخذت شهيقا كبيرا، وحلقت في خيالاتي. دخلتُ فوجدته يشهق شهقات متوالية، وينظر بفزع صوب باب الغرفة، التقت نظرتي بنظرته، وأنا أهرع صوبه، وقبل أن يقول كلمة واحدة، سقطت يده جواره وهمد جسمه تماما. (انتهت) وجدتها قصة مقبولة، جريمة محكمة وموت أبيض، لن يثبت أحد أن اعترافاتي سببٌ في موته، وسيليق الأسود بحزني عليه في المأتم!
دسست الأوراق في رف الدولاب العلوي خلف الملابس، وضوء الفجر يطوي الليل في السماء، ألقيت نظرتي عليه، تجمدت عيناه علي النظرة المفزعة، سحبت الملاءة لتغطي وجهه، واتجهت إلي الغرفة الأخري لأوقظ الأولاد... الانزياح (Lécart)- كما أسماه نورثروب فراي عن الحكاية الأولية التي هي الأساس للعمل وبنيته. أحد تمارين اليوجا لتهدئة الأعصاب. ثلاث ساعات بالخارج انزلق رتاج الباب إلي مكانه بعد أن صَفَعَتَه بقوةِ وخَرَجَتْ. سمعتُ دقات خطواتها علي السلم تبتعد تدريجيًّا. سحبتُ نفسًا عميقًا ووقفتُ قرب النافذة أرقب عبورها بين الأشجار العارية في الممر. أوراق الشجر الجافة تملأ أرضية الممر والمدخل، والشجر ينتصب عاريًّا في مواجهةِ الريحِ الباردةِ، والضباب يحجب الرؤية بعد مسافة قصيرة. سألتني قبل خروجها: "لماذا تصر علي أن أذهب وحدي؟" تركتُ سؤالها بدون إجابة فغادرت غاضبة وتركتني واقفاً ابتلع غصتي. يجب أن تذهب بمفردها إلي لقائه. عليها أن تعتاد الظهور بدوني. بهذه الطريقة فقط سيسقط خجلها، وقد تشجعه إذا كان يروقها. قالت مرة إنه وسيم، وضبطتها كثيرًا تنظر إليه بإعجاب، وهو يفضل المرأة العربية علي الأجنبيات كما ردد أمامي كثيرًا، لكن وجودي بينهما يحول دون تطور العلاقة. لا تنسي أبدا أنها زوجتي، ولا ينسي أنها زوجة صديقه، لكنها ستنصاع إلي احتياجاتها كأنثي إذا وجدت الفرصة سانحة. قالت مرة: "الرجل الذي يعتقد أن المرأة قد تضحي باحتياجاتها من أجل الوفاء للزوج رجل مغفل" وقال كثيرًا: "خير العلاقات: علاقة مختلسة، فيها الزوجةُ تخونُ زوجَها، والرجلُ يخونُ صديقَه مع زوجته" في غيابي؛ سينسي أنها زوجتي. وسيرجحُ متعتَه علي الوفاء لي. سأعتبرُ وفاءه ساريًا. لن أظهر أي استرابة. أنا من دفعتها إليه. منذ شهور أخطط لهذا السيناريو. سيبدو الأمر كما لو كان عفويًّا. قال منذ فترة: "أنا بحاجة إلي امرأة تساعدني نصف الوقت في مكتبي" هي لم تعرف أني وراء إرسال الخطابات التي كانت سببًا في فصلها من مكتب المراقبة الاجتماعية للمراهقين الذي تعمل فيه. لم أكتب في كل الخطابات سوي جملة واحدة: "الموظفة العربية التي تعمل عندكم إرهابية". كانت الموظفة العربية الوحيدة. لم يتأثر المسئولون في البداية. ثم فُصلت دون إبداء الأسباب. اقترح بعض الأصدقاء في سهرة نهاية الأسبوع عليه أن يستعين بها. رحب كثيرًا، واستشارني في الأمر. أبديتُ انتباهًا، كأني لم أتوقع العرض، ثم ابتسمت كنوع من الترحيب ولم أعلق سوي ب" هي من يقرر هذا". ألقيتُ الكرة في ملعبها وتركتُ لها حرية الاختيار. كان تصرفي جزءًا من الخطة. خرجتْ. مضي ربع ساعة علي خروجها. صفعتْ الباب وخرجتْ، مازال عطرها شالاً يهفهف حولي. منذ التقيتها في السفارة، كانت تستعد للسفر في الإجازة الصيفية، وكنتُ أقضي بعض الأمور. نظرة واحدة كانت كافية. التقينا مرات بعد عودتها. من السهل أن تعرف عنوان امرأة تبادلك الإعجاب السري ذاته، وترغب في أن تطوي المسافة بينكما، أن تعرف رقم هاتفها وميعاد تناول قهوتها ومكانها المفضل. من السهل أن تقبل الزواج تحت وطأة ظروف صعبة، توافق سريعًا علي كل شيء. حتي قبولها الإقامة في شقة نائية وصغيرة، تتحول بكتبي وأوراقي وأقلامي إلي فوضي عارمة كان بسهولة. نظرات إعجابها في هذه المرحلة كانت تحيطني بهالة من الضوء. اهتمامها قيمة مضافة إلي رجولتي. تستعجل الوقت إذا دعانا صديق إلي سهرة، تهمس قرب أذني:"البقاء وحدنا أجمل". تؤكد عليّ أن أعود مبكرًا إذا توجهتُ إلي ندوةِ بدونِها: "كيف تترك زوجتك الحامل وحيدة؟" تواجهني بدلال عند عودتي. تري في أفعال ابننا امتدادًا لأفعالي، تقارب أنفه إلي أنفي، وطريقة مشيته إلي طريقة مشيتي. "يجب أن يسجل الرجل مؤشرات فحولته كل حين" تمتمتُ مغادرًا مكاني خلف النافذة. مرت نصف ساعة. سحبتُ سيجارة وأشعلتها. كانت فحولتي تنعكس عليها، تصفف شعرها كل صباح، وتهتم بهندامِها دومًا، تسكب قطرات عطرها علي عنقها، تلمع عيناها كلما التقت بعيني. ستصل عنده بعد قليل. اتصل بها ليلة أمس، وقال: "الأوراق تراكمت وبحاجة إلي ترتيب. يلزمنا وقتُ إضافي". لا يعرف أن حيلته مفضوحة أمامي. جاءتني بعد قليل مترددة:" لا أريد العمل معه". نظرت في الجهة الأخري، كان الصغيران يلعبان بقطع المكعبات. يرصانها ويعيدان فكها من جديد. أعادت جملتها من جديد: "لا أريد العمل معه". نظرت إليها حاسمًا وقلت:" انتظري حتي تجدي عملاً آخر". لا تريد ترك العمل معه. أعرف كيف تفكر. لكنها تريد مبررًا. تريد دافعًا تستند عليه لتقدم علي ما تمنت حدوثه، ثم عدلّت طلبها: "تعال معي.. تسامرا معا بينما أقوم بالعمل. لا يستقبل المكتب العملاء ليلاً" رفضتُ بتحريك رأسي يمينًا ويسارًا، وادعيتُ الانغماس فيما أفعله. أفسحتُ لها طريقًا وتركتها. حتما رافقها في حلمِها قبل أن تنام، واستيقظت علي همسته قرب أذنها في الصباح، وألحت احتياجاتُها فبكت وحدتها قبل أن تنزع نفسها من السرير. خيالاتُها جزءُ من حياتي ولا يجب أن أضعَ رأسي في الرمال بعد الآن. بدأ الاكتشاف مصادفة. اصَطَحَبتْ الصغيرين لتقضي وقتًا مع صديقتها. انتهي حبرُ قلمي وعبثًا حاولتُ العثور علي غيره علي أسطح قطع الأثاث. فتحتُ درج مكتبها. استلفتني "نوت" مذكراتها بغلافه الأسود." لماذا نكتب دوما كلمة "مذكرات" علي أسرارنا؟" نكثف لدي الآخرين الفضول، وندفعهم ليقدموا علي تصرفٍ يسوؤهم إذا فعله أحدُ ضدهم." أنا وحيدة". كان عنوانًا صارخًا. استنفر انتباهي. كيف لم ألحظ التبدل الذي طرأ علي حياتنا؟ هل صورت لي ذكورتي أن شيئًا لن يتغير!. سار الأمر تدريجيًّا. بطيئًا وغير ملحوظ حتي لي، لكني استحضره كله الآن: دخولها مبكرًا للنوم، صمتها الدائم، ونظرة العتاب العميقة. اعتبرتُ وجود الصغيرين بديلاً لاحتياجاتها. ألا تكفي الأمومة لتعيشَ المرأة سعيدة؟ التهمتُ باقي السطور في زمن غير محدد. الزمن مطاطي يطول ويقصر مع الحالة. هي وحيدة منذ أن سقط نجمي. " جيد استخدامها للمجاز... لا تريد أن تجرحني...لا تريد أن تقول إني صرتُ عاجزًا." أشعر باحتياج طاغ. أفتقد الإحساس بالاحتكاك، وبالدفء". لا مفر يا حبيبتي. أفتقد مثلك هذه الأحاسيس، لكن القبلة تفضي إلي العناق، والعناق يؤجج مشاعرنا، وعند حافة الجرف لا أقفز. أقف عاجزًا ولا أقدر. حافة الجرف! ها أنا استخدم المجاز مثلك للتعبير عن حالتي. كنتُ أعتقد أن حياة أسرية مستقرة بدون إشباع حسي تساوي حياة سعيدة. كيف استنتجتُ هذا؟ لماذا فسرتُ الأمر لصالحي؟ وضعتُ غطاءً أسود علي الأشياء وخمنتُ ما الذي يكون تحتها. مدونتك أججت بداخلي الرغبة في إعادة المحاولة. لكن محاولاتي الفاشلة السابقة أعادتني إلي حالة الانسحاب. مرت ساعة ونصف منذ خروجك. أعرف نقطة البدء، والحالة التي ستحتاجين فيها إلي المزيد، والوقت الذي سيبدأ فيه عجزي يربكني، سأشعر به ثقلاً جاثمًا علي صدري، بقعة سوداء تقترب وتشملني، سأكره وجودك في هذه اللحظة، سأدفعك بقوة في صدرك، وأدعي أن هواء الغرفة بحاجة إلي تجديد، وربما سأسحب المعطف من مكانه، أرتديه علي عجل وأخرج لاستنشاق الهواء. عند عودتي لن أجدك، ستنامين مبكرًا في حجرة الولدين، وستستيقظين صباحًا مدعية أن شيئًا لم يكن. تقومين بمسح الطاولة التي قمتِ بمسحها منذ دقائق، وتفرغين السلة الفارغة. تتقابل وجوهنا لكن عيوننا لا تلتقي. تصافح كل الموجودات ولا تستقر علي شيء. ما قرأته عن مشاعرك أضاف همًا جديدًا إلي همومي. آآآآآه... سامحيني لم أفكر سوي بنفسي. لماذا نبقي هكذا؟ باستطاعتك الانفصال. سأحمل حقيبتي واختفي. أستطيع اقتسام راتبي معكم. تستطيعين تدبير أمرك بمفردك، باستطاعتنا الافتراق كصديقين. ليتني أستطيع أن أعرض عليك الحل الذي توصلت إليه، لكن الصغيرين مازالا بحاجةِ إليّ، لا.. أنا بحاجةِ أشد إليهما "باستطاعتي رؤيتهما كل حين" عبارة لم أنطق بها. لم أستطع مواجهة نفسي ومواجهتك بها: " نحن موظفان لخدمة هذين الولدين الآن. بالمقابل هما يمنحاننا شعورًا رائعًا " آآآه.. كيف استطعتُ تنفيذ ما فكرتُ فيه؟ لا يهم، الأوضاع بخير طالما بقي الأمر سرًا، لا يعلمه أحد. لا يصبح الحدث واقعًا إلا بعلم الآخرين به. مرت ساعتان ونصف، قالت:" سأغيب ثلاث ساعات". يجب أن أنشغل بشيء كي لا يصيبني الجنون، سأعد عشاءً للصغيرين، وأشاهد نشرةً الأخبار. سأتفقد "نوت" يومياتها، علّها أضافت جديدًا. لن ألحظ آثار يديه علي كتفيها، وبقايا عطره بين طيات شعرها، سأتجاهل الاستفسار عما إذا كان وقتها جيدًا. سأتركها تنتشي بما حدث معه معتقدة غفلتي الكاملة. سأكتب قصة عما حدث، لن أغفل ذكر التفاصيل التي تخيلتها عن كيفية اللقاء. ما قمتُ بتخمينه جزءُ من القصة أيضا. تمتمتُ: "الكتابةُ مقاومة للواقع". لا أذكر القائل. لا يهم. سأجهزُ قهوةً وأدخلُ غرفتَي قبل وصولها بثوانٍ.