رواية "تحريك القلب" لعبده جبير (الصادرة 1982) هي بالفعل كما أرادها كاتبها المخضرم - تسجيل "للحظة الخطر، لحظة الحافة، لحظة العجز الإنساني النبيل".. تحكي باختصار مخل قصة حياة بيت يوشك علي الانهيار، يدرك سكانه حالته لكنهم عاجزون، مستغرقون في ذواتهم، لا يبالون بما يحدث أو سيحدث، ولا نعرف علي وجه اليقين إن كان البيت قد انهار أم بيع في المزاد أم غادره سكانه، الرواية اختارها الباحث الألماني شتيفن جوت ضمن ستة أعمال أدبية لخمسة كتاب، هم فتحي غانم ونجيب محفوظ وعبده جبير وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني، كنماذج ل "دراسات حالة" علي ما سماه "أدب الانفتاح"، واعتبرهم "شهودا علي نهاية عصر".. "انكسار المجتمع المصري بعد عام 1970"، حسب عنوان كتابه الذي أعده في الأصل كأطروحة لنيل الدكتوراه من جامعة بون عام 1992 . وأنا أترجم الكتاب الذي سيصدر قريبا عن المركز القومي للترجمة كان لزاما علي أن أعود لأصول مصادر المؤلف، ومن بين تلك الأصول كان الحوار "المفاجأة" للباحث الألماني مع عبده جبير في 25 مارس 1990 حوار عمره ربع قرن لم ينشر إلي الآن، وما زال قابلا للقراءة، وما زال قادرا كالرواية نفسها علي "تحريك القلب"، رغم أنه يختص بشكل أساسي باستكشاف العلاقة المركبة بين شكل الرواية ومضمونها، ومدلولات شخوصها ورمزيتها، والتعرف علي أسباب تميزها وتفردها بين الأعمال الأدبية التي صنفها الباحث ضمن ما سماه "أدب الانفتاح". بفضل دقة وتنظيم عبده جبير، أمكنني أن أجد الحوار في مكتبته، إلي جانب كل الكتابات النقدية عن الرواية التي أثارت في حينها حالة من الجدل بين النقاد والمهتمين بالأدب، وأثارت أيضا حالة من "الغيرة" مصحوبة "بالدهشة" لدي جيل سابق علي جبير في عالم السرد، ولدي جيل معاصريه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.. هذه الدقة وهذا التنظيم هو ما جعل دراسة شتيفان جوت عن الرواية هي الأوفي بين الأعمال الستة الأخري حسب مقدمته للكتاب. يستوقفني في هذا الحوار حرص جبير علي ألا يتورط في تقديم تفسير لنص روايته، حتي لا يُعتبر التفسير الوحيد المعتمد من صاحبها، اتساقا مع فكرة أن هذا ليس من مهمته، بل مهمة الناقد والدارس والمهتم، واتساقا مع فكرة أنه يكتب في "تحريك القلب" نوعا من "أدب المتلقي"، يستوقفني أيضا أن الباحث كحال نقاد آخرين تعرضوا للرواية يتساءل عن أحداث في الرواية، هل وقعت أم لا، بما يؤكد نجاح جبير في أن يصوغ "حالة الوقوف علي الهاوية، التي هي حالة بين السقوط الفعلي، واللا سقوط الحاصل" بدرجة لا يتأكد معها القارئ إن كان ما يحكي عنه من أحداث قد وقعت بالفعل أم هي تعبير عن هواجس الشخوص ومخاوفهم. تنم عبارات قالها جبير قبل ربع قرن عن فهمه الواضح لأعماله من جانب وما تحويه من أفكار، ولطبيعة عمله كروائي محدد الهدف، وقدرته علي صياغة أفكاره بنفس الوضوح، فهو يعتبر "العبث... جزءا من الحياة.. واقعة من وقائع الحياة.. وليس فلسفة كاملة" لها، ويدرك جبير أن "قوانين الواقع" "أحيانا ما تقود إلي مفارقات أشبه بالقدر"، لكن "الإنسان مسئول عن أفعاله بالقطع، حتي ولو كان ضحية لعوامل الزمن، أو عوامل الطبيعة"، أما أن يستسلم لها (الإنسان) ف "هذا اختياره". ربما يستوقفني ما هو أكثر من استيعاب هذه المقدمة المتعجلة للحوار "القديم الجديد"، لكن الاختصار واجب، لأدع للمتلقي فسحة كافية من الوقت ليري ما يراه في هذا النقاش الأدبي الثري، فقط أشير إلي أنني أعتبر قصر دلالات "تحريك القلب" علي تحولات عصر الانفتاح وتأثيرها علي شخوص الطبقة المتوسطة فقط ربما يمثل ظلما لها، فالحالة الإنسانية التي التقطها جبير ربما تشير إلي ما هو أبعد زمنيا وإنسانيا، وقد تتأكد وجهة نظري إذا ما قرأنا قريبا ما وعد جبير نفسه به من كتابة جزأين إضافيين لتكتمل "ثلاثية" تحريك القلب.. وإلي نص الحوار. » تخريك القلب« مَن يحرك قلب مَن؟ صياغة عنوان الرواية بهذه الطريقة صياغة محايدة، باردة، مناسبة للجو العام للرواية، فهو يقول: تحريك القلب - أي يصف عملية تحريك القلب، دون أن يقول من هو الذي تحرك قلبه، أو من حرك قلب من، وهذا شيء مقصود تماما. وأعتقد أنه عنوان موافق لملامسته لمعني حاد جداً. هل بالنسبة لشكل الرواية غير العادي لجأت إلي عناصر تركيب رواية أو قصة مسبقة؟ حين بدأت كتابة هذه الرواية لم يكن في رأسي أي شكل مسبق، وكل ما كنت أحسه هو هاجس سقوط البيت، وحالة السقوط التي تعيشها الشريحة الاجتماعية (المتوسطة) التي أنتمي إليها، وقد كتبت الرواية ثلاث مرات: الأولي بطريقة، حين انتهيت منها وجدتها تقليدية، فوتت عليَّ فرصة اقتناص تفاصيل الحياة اليومية البسيطة، وظلال الأشياء، كما وجدت وصف البيت في سياق به افتعال، لذاك مزقتها، وبدأت الكتابة مرة أخري، بحيث تحكي كل شخصية الأحداث من زاويتها، فوجدت أن التكنيك شبيه بروايتي الصخب والعنف، لوليم فولكنر، و"رباعية الإسكندرية" للورانس داريل، فمزقتها وانتظرت فترة حتي فجأة وجدتني أجلس لأكتبها بهذه الطريقة دون أي تخطيط مسبق. في المقابلة الصحفية مع مجدي نصيف (مجلة العرب)، لم ترض أن تجيب عن أسئلته المتعلقة بتفسير الرواية، لماذا؟ المسألة ليست أنني لم أرض الإجابة علي أسئلة مجدي نصيف، إنما هو خلاف في وجهة النظر حول التناول، وحول دور الكاتب بالنسبة لعمله. فبالنسبة لي أعتقد أن عملية تفسير العمل الأدبي (من النوع الذي أكتب) هي عملية قاصرة، إذا لم تتم ضمن قراءة متكاملة للقضايا النوعية التي جاء العمل ليطرحها، بمعني آخر أنني أري عملية التفسير تريد أن تلخص مضمون العمل (الاجتماعي أو الأخلاقي أو الفكري أو الفلسفي)، وهذا التلخيص قد يخل بالعمل إذا لم يأت في سياق الشكل الفني الذي جاء به، أي إذا لم يجيء ضمن دراسة كلية للعمل ككل، وليس المضمون وحده، لأن هذا سيقودنا إلي مقولات، قوالب ذهنية، وعملي ضد القوالب والمقولات الذهنية المجردة، ببساطة لأنه نابع من الحياة، وهي شيء أكثر تركيباً من مجرد الأقوال، أو الموضوعات أو المواقف الأخلاقية. هذا من ناحية ومن ناحية أخري، وحتي لو افترضنا صحة عملية تفسير العمل الفني فإنني أعتقد أن هذا ليس من مهمة المبدع، إنما مهمة الدارسين والنقاد، وببساطة أيضاً، لأن المبدع لا يمكن أن يتجرد من عمله ويكون محايدا، لأنه يتكلم من الداخل، يتكلم عن وليد بينه وبينه حبل سري. هل يمكن إطلاق اسم "أدب المتلقي" علي روايتك؟ ومعني هذا للمصطلح في وجهة نظرك؟ "أدب المتلقي" هو - كما أفهمه - الأدب الذي لا تكتمل رسالته إلا بمشاركة القاريء، أي بذله جهداً إيجابيا لفهم العمل، وبشكل أكثر بساطة أعتقد أن ما يطلق عليه أدب المتلقي هو الأدب الجديد، أو الطليعي، أو الذي جاء شكله غير مألوف، لفترة من الزمن حتي يعتاده الناس (لأنني أري أن أي شكل فني مهما كان غريبا فإنه سيصبح عادياً بعد فترة)، أي أن أدب المتلقي في النهاية هو الأدب الذي يشتبك في حوار جاد مع قاريء واعٍ وقادرٍ علي أن يكون طرفاً فاعلاً في العلاقة بين الكاتب والقاريء. لقد قمت في رسالتي بتحليل لشكل الرواية أريد أن أسمع رأيك فيه، قلت: يتسم بناء الرواية العام بتتابع نوعين أساسيين من عناصر البناء، يتتابعان حسب إيقاع معين: 1 - فقرات أو فصول يحكي فيها راوٍ غير معروف عما يحصل للبيت. والذي يحصل للبيت يمكن أن نلخصه بكلمة (الانهيار)، ونستطيع أن نسمي هذه الفقرات ب "فصول البيت"، أما أربعة من هذه الفصول فهي مكررة، بما يجعل عددها أربعة وعشرين، وتختلف فصول البيت عن بقية الفصول بالموقف الذي يقفه الراوي، أي ينظر إلي البيت من الخارج. 2 - أما النوع الثاني من عناصر البناء الأساسية فهي الفقرات التي يتكلم فيها سكان البيت السبعة، وعدد هذه الفقرات أربع وعشرون، أربع منها يتكلم فيها الأشخاص كلهم، ولذلك نستطيع تسميتها ب "فصول الجميع"، أما بقية تلك الفقرات فيتكلم في كل منها شخص واحد فقط، ولكل فرد علي امتداد الرواية خمسة فقرات خاصة به، وكل هذه الفقرات مونولوجات داخلية، ولا يظهر شخص مرة أخري إلا بعدما تكلم الآخرون، وإذا جمعنا الوحدات التي تتكون كل منها من فصل للبيت وفصل للجميع، وإذا جمعنا الفقرات التي يتكلم فيها الأشخاص لأول مرة ولثاني مرة.. إلخ.. تحليلك صائب تماما، وقد تلاحظ، كما لاحظ نقاد ودارسون آخرون هم الذين نبهوني إلي ذلك، بأن الرواية أيضاً تتم خلال 24 ساعة، وهذه صدفة أنا سعيد بها، كل الذي كنت أحسه، وأريد أن أحققه أثناء العمل، أن لا تطغي شخصية علي أخري، لذلك فإنني كنت أطيل، أو أكرر حين أحس بأن الشخصية لم تنل حقها، ولأنني كنت أحس بالبيت باعتباره شخصية حية، فإنني كنت أفعل هذا معه، كما أن هناك لعبة فنية أساسية في العمل، هي لعبة السير علي الحافة، فأنت تري بأن عملية انهيار البيت نفسها، عملية تتم علي الحافة، إنه يسقط، ولا يسقط، ينهار ولا ينهار، كما أن الرواية كلها، أو لنقل بناءها نفسه، متقن مخطط، مقصود كل شيء فيه، وفي نفس الوقت، تلقائي، غير مخطط، غير مقصود الإتقان في نفس الوقت، إنني، مثلاً، أشير إلي الرجال الجوف كما عند ت. إس. إليوت، ولكنني أعتبر هذا جزءا من الحياة، وليس فلسفة كاملة للحياة، إشارتي أيضاً لعبث الدنيا، مقصود بها أن هناك في الحياة ما هو عبثي، لكن الحياة ليست عبثا بدليل أننا نحياها، فالعبث هنا ليس فلسفة تفسر الحياة، ولكنه واقعة من وقائع للحياة، لذلك فإن البناء المتكامل، ليس هو الرواية أيضاً، وإنما هو جزء من كل، جزء لا يمكن فصله كما هو بالنسبة للعلاقة بين الجسد والروح بالنسبة للإنسان، ففصول البيت هي جزء من العمل، وفصول الشخوص هي جزء، واللعبة تتم علي حافة تشخيص وتصوير كل ما هو جزئي في إطار الكلي. يبدو أن أصغر وحدة بنائية هي الوحدة التي تتكون من فصل البيت والفصل الذي يليه (أو الفصول التي تليه) مباشرة، وهي فصول لأشخاص الرواية. ويوحي هذا التتابع بأن فصول الأشخاص رد فعل علي فصل البيت الذي يسبقها. فما الهدف من هذا التتابع؟ بشكل ما، يمكن القول بأن فصول الأشخاص.. هي رد فعل لفصول البيت، لكنه رد فعل متبادل، أي يمكنك أن تقول أيضا بأن فصول البيت التالية هي رد فعل لفصول الأشخاص السابقة عليها، كما هي رد فعل لفصول البيت السابقة عليها أيضاً، كما أنها ستكون رد فعل لفصول البيت التالية لها، وهي عملية معقدة جداً، لكنها تؤكد علي أن عملية الفصل بين أي من أجزائها مستحيلة، طبعاً يمكن الكلام عنها، لكنها بالنسبة للعمل نفسه، لا يمكن إلا الكلام عنها بشكل دائري. هذا إذن ليس تتابعاً، إنما هو توال دائري، لأن النص نص مفتوح ليس له نهاية حتمية، واضحة قاطعة، أعتقد لأنني أؤمن بأن العمل الفني هو جزء من الحياة، وقد يدفع هذا إلي القول بأن هناك لعبة بالفرق بين انهيار البيت وبين عدم مبالاة سكانه، لكن سكانه في الحقيقة ليسوا دائماً ولا هم محكوم عليهم بأن يكونوا لا مبالين، أي أن اللامبالاة ليست فلسفتهم في الحياة، إنما هو وضع وجدوا أنفسهم فيه، قادتهم إليه كل الظروف والتفاصيل اليومية، بالإضافة أيضا إلي تعبيرهم الصادق عن هذه الظروف التي ليس أمامهم خيار آخر إلا أن يواجهوها بالحلول الفردية، وعدم الصدام، ماذا تفعل إذا أحسست بأن البيت ينهار فوق رأسك سوي الركض خارجه، والالتجاء إلي أقرب حل ينقذك، فأنت تواجه الموت، وهي مواجهة فردية، لا يعيشها سواك، إذن الحل فردي، ولكنه إنساني في تصوري. يبدو أن انهيار البيت يتم في يوم واحد. هل هذا صحيح؟ انهيار البيت يتم في حالة بين الحلم والواقع، يحدث ولا يحدث، كما أن هناك زمن الأربعة وعشرين ساعة التي لها إشارات واضحة باعتبارها زمن الحدث ذ اللاحدث، لكن هناك أحداثا جوهرية تتم في أزمنة متعددة، في طفولة كل منهم، وفي حالته الراهنة، أيام أن كان البيت مزدهراً، وفي حالته الراهنة. ما معني كلمة "التاريخ" في قول الأم "قررت أن تتوقف بالتاريخ عند هذا الحد.."، هل هي إشارة إلي أن ما يحدث له دلالة أكبر وأن ما يحدث لا يحدث للبيت فقط، بل يحدث للتاريخ المصري نفسه؟ أعتقد أن المقصود بها تاريخ البيت وتاريخ العائلة الذي هو جزء من تاريخ البلد، وفيها إيحاء أيضاً بتاريخ مصر، أو التاريخ المصري، لكنني لا أظن أن تعبير التاريخ المصري دقيق، لأن السؤال يكون أي تاريخ وعلي يد من تم تسجيله، فأنت تعرف أن التاريخ نسبي أيضا من زاوية الذين سجلوه، ولا أقصد بالطبع الوقائع المؤكدة التي حدثت، إنما ما ورد إلينا مسجلا عبر أقلام بعينها. بيع البيت في المزاد.. هل يتم فعلا أم هو مجرد إشارة إلي أن مثل هذا البيع يتم أو يمكن أن يتم في كل يوم، ومرات؟ بيع البيت هاجس يحسه سكانه، هاجس أشبه بالنبوءة، ولأن كل شيء يتم علي الحافة فإن حدوثه من عدمه أمر غير مهم، المهم وجود الهاجس وتأثيره علي الشخوص. لماذا اخترت صورة المزاد دون صورة بيع عادي، هل هذا تعبير عن فقد الشرف وعن العيب اللاحق بالأسرة؟ ليس بالمعني الأخلاقي، ولكن بالمعني المأساوي، فأن يباع بيتك دون رغبتك هذا شيء به بعض المأساوية، وأيضا حين يباع وأنت مجبر علي ذلك. ما وظيفة أبي زيد الهلالي- لِمَ يكون رمزاً؟ عادة ما كان سكان البيوت التقليدية يرسمون رسوماً علي مداخلها، وضمنها رسوم لأبي زيد الهلالي سلامة بطل الملحمة الشعبية الشهير، وقد أردت أن أشير إلي مأساته كما أردت أن أكون دقيقا في عكس بعض القيم الشعبية التي هي جزء من تراث هذه الشريحة المتوسطة في المجتمع. آخر فصل "البيت" هل فيه إشارة لأن ما حدث اليوم سوف يتكرر غداً: رتابة الحياة، البيت المهدد بالانهيار، كارثة المزاد، فقد الشرف.. إلخ؟ به إشارة إلي أن ما حدث اليوم يمكن أن يتكرر غداً إذا ما توافرت نفس الظروف، كما أن به تجسيداً للتراجيديا المصرية. يبدو أن انهيار البيت لا ذنب لأحد فيه وإنما يجري نتيجة لقدر لا مفر منه، إنه "عوامل الزمن" أو "الطبيعة" التي تعمل عملها، هل هذا صحيح؟ أحيانا ما تقود قوانين الواقع إلي مفارقات أشبه بالقدر، لكنني لا أومن شخصياً بالقدر بالمعني المجرد، العقائدي، الذي هو أشبه بالقانون الكوني، لأن الإنسان مسئول عن أفعاله بالقطع، حتي ولو كان ضحية لعوامل الزمن، أو عوامل الطبيعة، فالكوارث الطبيعية تحدث وليس للإنسان يد فيها، لكن أن يستسلم لها هذا اختياره، والتاريخ نفسه هو سجل لصراع الإنسان مع الطبيعة، إنني لا أتخذ موقفاً أخلاقياً في الحياة، ولكنني أرصد ملامح التراجيديا الإنسانية فيها. عندما رسمت الشخوص باللا متحركة، هل أردت أن تحمِّلهم ذنباً؟ أم أن وظيفة عدم تحرك الشخوص هي تحريك قلب القاريء؟ (الشخوص لا تشعر بأي مسئولية، لا يبالون ولا يهتمون إلا بأنفسهم، يرصدون الانهيار ويتساءلون: كيف كان ممكناً؟) موقفي موقف بعيد عن الحكم علي الآخرين من زاوية أخلاقية، كيف يمكنني أن أدين من يعيشون مأساة، إنني متعاطف جداً معهم، وكنت أتمني أن ينعتقوا لتتحرك قلوبهم بشدة، لكنني أسجل لحظة الخطر، لحظة الحافة، لحظة العجز الإنساني النبيل. ماذا أردت التعبير عنه في الفقرة ص 79: "ارتسمت علي الحائط أشكال مختلفة: حيوانات وطيور ووجوه وأرجل وجبال و... و.. و.. إلخ"؟ وهل في هذا تعبير عن شعورهم بعدم القدرة علي المقاومة وبالإحباط؟ أحيانا وأنت تعيش لحظة هلوسة، تحت ضغوط الحياة، ما تتخيل علي الجدار أشكالاً من هذا النوع، هذا ما أردت أن أسجل، إنني أعتمد علي البصر، علي المنظر، إن رؤيتي، كما أعتقد، رؤية بصرية، لا أميل للتحليل والتفسير، إنما للرسم، وهذا ما حدث، لكن طبعاً يمكن توظيف هذه الفقرة في تصوير تراجيديا أشبه بلوحة "جورنكا" لبيكاسو. إنني سعيد بهذه الفقرة جداً، وأظن أنها من أجمل ما صورت في الرواية.. لم أرد أن أعبر عن شعورهم بعدم القدرة علي المقاومة، أو الإحباط، إنني أردت تصوير المنظر التراجيدي وكفي. لم أفهم ما يحدث بسكان البيت بعد بيعه، هل ينتقلون إلي مكان آخر؟ أم لا؟ هناك إشارات في اللحظات التي يخيل إليك فيها أن البيت قد سقط فعلاً أو بيع بأن كل شخص وجد مكاناً آخر وترك البيت. من فضلك وضح جملة الأب الأخيرة: "هيا بنا نحجل ونتمايل في الحديقة"! هناك طقس كان المصريون يقومون به حين يموت لهم عزيز، حيث يقومون بالحجل، وهو القفز المتوالي علي قدم واحدة، ثم علي القدم الأخري، وهو طقس جنائزي حزين يدل علي المأساة، فيه من الذكر وفيه من الرقص الشعبي الذي يقوم به الناس أثناء الكوارث. هل صحيح أن سمراء تزوجت وطُلِّقت مرتين؟ نعم. صحيح. ما هو المرض الذي انتشر في غرفة الأساتذة؟ أعتقد أنني كنت أقصد مرض النفاق، والتحجر الأكاديمي، واعتبار شحن أذهان التلاميذ بالمعلومات غير المفهومة والتي لا يمكن التعامل معها سوي بالحفظ هو مرض. هل سالي تفكر - فيما بعد انهيار البيت - في أن تعمل في الدعارة؟ إلام تنتهي سالي، هل تحاول في الآخر الانتحار؟ إنها تفكر في الاستسلام، أن تتزوج أول واحد يقابلها، دون حب، دون تفكير، دون معايشة، وهو نوع من الدعارة، وهي، لأنها علي درجة من الحساسية، تجد نفسها في مأزق، ولا تجد طريقة للخروج من هذا المأزق إلا بالانتحار، ولم أقل بشكل واضح أنها انتحرت، لأن حياة الأشخاص كلهم مفتوحة، وبالتالي لا يمكنني أن أنهي حياة أي منهم، وإلا أكون ساذجاً ومناقضاً لنفسي. هل يصح القول بأن الهدف الرئيسي لكتابة الرواية كان تسجيل حالة الطبقة المتوسطة الصغيرة التي لم يعد لها أمل ولا مستقبل؟ هذه مقولة فكرية خطيرة جداً، لا يمكنني التأكيد عليها، لكن هناك إشارة لها، لا أستطيع التنصل من أن هذه الإشارة يمكن لمسها في الرواية، لكنني لا أميل للمقولات الفكرية الجاهزة، من يعرف؟! ربما استعادت الطبقة المتوسطة الصغيرة قوتها وعادت لتبني المستقبل، أو مستقبلها علي الأرجح، أنا لا أعرف ولا يمكنني أن أتنبأ، فلست منظراً سياسياً. يبدو لي أنك تستخدم كلمات شعرية كثيرة. هل هذا انطباع صحيح؟ فإن كان كذلك فما هدف الأسلوب الشعري؟ (إنه يبدو غير طبيعي مثلاً في المونولوجات). إن كوني أحاول أن أتقن عملي من الناحية اللغوية لا يعني هذا أنني أبله لأخلط ما بين الشعري والروائي، إنني أري أنه حيث يخلط الروائي بين رؤياه وبين رؤيا الشاعر يكون قد وصل إلي الفشل، ليس هناك أسلوب شعري، إنما هناك لحظات شاعرية في حياة كل منا، يمكن للروائي أن يعبر عنها من خلال كونه روائياً، لا شاعراً، أقول ذلك لأن هناك موجة من الكتابات الفاشلة التي تسود هذه الأيام في الأدب العربي، يكتبها من هم أنصاف شعراء، وأنصاف روائيين، ونتيجة لعجزهم فإنهم يقولون بما يسمي بالأسلوب الشعري. وبالنسبة لمسألة "المونولوج"، في هذه الرواية، فإنني أميل إلي القول، وسيراً مع تكنيك الرواية، بأنه ليس مونولوجاً خالصاً، لأنه أحياناً ما يميل إلي وصف الشخصية لما حولها، وليس الكلام إلي نفسها، إذن هو شيء بين المونولوج والديالوج، قال عنه الناقد إبراهيم فتحي في إحدي محاضراته بأنه شيء جديد، وعلينا أن نجد له مصطلحاً يلائمه، وهذا علي أية حال ليس ضمن مهمتي. هل صحيح أن الرواية تلعب بتحديد الوقت؟ (في البداية يظهر أن الأحداث تتتابع واحدة بعد الأخري بمرور الوقت، إلا أن هذا الانطباع سرعان ما ينكسر فيما بعد). الأحداث ضمن السياق العام، لا تحدث طوال الوقت في الزمن الاعتيادي، إنما هي أحيانا تبدو في زمنها الخاص، من هنا جاء هذا اللبس، فهي قد تبدو أحياناً متتالية متتابعة، وأحياناً أخري تعود إلي الخلف، ثم تندفع للأمام، إنما الشيء المؤكد أنها ليست مجردة، وإنما هي في حدوثها لها دلالة عامة بالقطع. هل أنت منحاز للطبقة المتوسطة؟ وكيف عبرت عن موقفك منها في "تحريك القلب"؟ هل أردت مثلاً أن تمنح هذه الطبقة فرصة التعبير عن نفسها أن تتكلم لأنها مضغوطة؟ قلت إنني ابن هذه الطبقة، وبالتالي فإن لدي حنيناً لخبرتها في الحياة، لكن هل أنا منحاز إليها؟ لا.. أعتقد أنني منحاز لقيم عامة، من الناحية الفكرية كالعدل والمساواة وحقوق الإنسان وبالتالي فإنني منحاز إلي مباديء لا إلي شخوص. من هو المسئول عن سوء حال الشخوص؟ وكيف أشرت إلي مسئوليته؟ هذا السؤال لا يمكن الإجابة عنه بالنسبة للعمل الأدبي من وجهة نظري علي الأقل، لكنني بالنسبة للمجتمع أنا أعرف كمواطن أن هناك طبقة مستغلة قامت باستغلال المجموع، وهم الذين يمكن أن يقال عنهم، في فترة السبعينيات، الطبقة الحاكمة الجاهلة العسكرية، التي أدت إلي تدهور حال المجتمع ومسخه وتبعيته للولايات المتحدةالامريكية، هذه هي آرائي كمواطن، إنما لا يمكن أن تجدها بهذا الوضوح في أعمالي الأدبية، لأنني لا أحب المباشرة، ولا أري أن العمل الأدبي ذا الهدف السياسي المباشر هو عمل ناجح. ما هو في رأيك الدور الذي لعبته نكسة 1967 في تطور الطبقة المتوسطة؟ وماذا فعل بهم "العبور" 1973؟ أجيب عن هذا السؤال كمواطن وككاتب له موقف مما يجري في وطنه، فلا شك أن نكسة 1967 كانت هزيمة عسكرية مدوية تسبب فيها العسكريون والقيادة السياسية بحماقتهم، وهي بالتالي أصابت مجتمعي كله بالهزيمة، لكنني أعتقد، وما زلت، أننا كشعب لدينا إمكانيات تجعلنا قادرين علي الوقوف علي أقدامنا، وحل مشاكلنا، إذا ما كانت مقدراتنا في أيدينا، وإذا ما تولي زمام الأمور في بلدنا أشخاص أكفاء، هم موجودون بالفعل. أما بالنسبة للعبور في 1973 فقد كانت معركة ناجحة، وإن كانت من زاوية أخري، تسببت في أن يتحول السادات ونظام حكمه إلي استبداد من نوع جديد، أدي إلي كوارث اجتماعية خطيرة جداً، خاصة بالنسبة للقيم العامة في المجتمع. هل أردت أن يتعاطف القارئ مع الشخوص؟ هذا سؤال غريب، وإن كانت لدي إجابة خاصة عنه، فالحقيقة أنني لست كاتباً عاطفياً، ولا أري أن العلاقة الصحيحة بين القارئ وبين العمل الأدبي هي مجرد التعاطف مع شخوصه، لأن هذا التعاطف، بالمعني الدارج، قد يكون شيئاً ضاراً، إنما قطعاً أردت القارئ أن يعيش التجربة، أن يعيش الحالة، أن يتبادل الدور معي بحيث يعيد صياغة العمل من جانبه، وأعتقد أنني سبق وبينت من هو قارئي، والعلاقة التي بيني وبينه.