66/177 كجمعية خيرية إيطالية لدي وزارة التضامن الاجتماعي قابلت فرانشسكو موناكو رئيس الجمعية الخيرية الإيطالية المالكة للمكان. هو من مواليد الإسكندرية يحادثني بالعربية ومن أب مولود بالمدينة. تم بناء الدار من 1929 1933م ورقم توثيقها كمبني ذي طراز معماري مميز هو 563 في سجلات " الجهاز القومي للتنسيق الحضاري" بالمحافظة، يشغل مساحة 4 آلاف متر تقريبا في الشاطبي . زار الدار الملك فيكتورعمانويل الثالث عام 1933 م في عهد الملك فؤاد الأول. يعتبرها الأستاذ فرانشسكو الدار الوحيدة التي بُنيت في المدينة بغرض أن تكون دارًا للمسنين ..كانت طابقين في البداية وفي أربعينات القرن العشرين تمت إضافة طابق ثالث والمصعد . لم يحصل فرانشسكو ووالده علي الجنسية المصرية إلا بعد زمن طويل لأن إيطاليا كانت لا تسمح حتي عام 1990 م بمنح جنسية مزدوجة وكان يصعب التخلي عن الجنسية الإيطالية وقت التضييق علي السفر في المرحلة الناصرية . ظل العديد من إيطاليّ الإسكندرية يهاجرون منها بسبب الأحداث السياسية في مصر بعد أن كانوا يهاجرون إليها وهكذا لم يعد ثمة نفع للعنابر التي تعتمد في صيانتها علي أبناء الجمعية وأية تبرعات تكون رمزية كما أن المساعدة من الحكومة الإيطالية لا تتعدي نسبة 10٪ كون حجم الجالية في مصر صغير جدا اليوم مقارنة بالسابق أو بأعدادهم في بلاد أخري . " كانت الجمعية تملك المستشفي الإيطالي وقمنا بإهدائه للقوات المسلحة ". يتحدث فرانشسكو عن القصر المجاور لقصر قرداحي . أنفجرُ مبتهجة بمعرفة اسم مالك القصر المهدم الذي يملكه اتحاد ملاك رجال القضاء. أنطونيو برتولوتي كان جارا لقرداحي وهو من كان يسعي لبيع قصره لسفارة بلده إيطاليا وحين لم يتمكن من هذا وهبه لدار المسنين هذه " هبة " . بعدها سيتعرض المكان للسطو و عمليات تزوير عام 2002 م في محاولة للاستيلاء علي الأرض من مافيا الأراضي التي سرقت كل محتويات القصر لذا قامت الجمعية الإيطالية ببيع الأرض وما عليها لعائلة من شركة " البناءون العرب " وقام هؤلاء ببيعها لاتحاد ملاك رجال القضاء بالثغر المالك الحالي . أسأل فرانشسكو عن الفروق بين الإسكندرية أمس واليوم. يحاول أن يكون موضوعيا . " الإسكندرية كانت مصممة علي أساس تعداد معين . " محمد علي " كان عايز يعمل حاجة طموحة جدا لنهضتها لكن حجم المدينة تغير وعدد سكانها تغير. كان المواطن بيسمي الأجانب الإفرنج وكانوا الأجانب بيمثلوا international community . الطليان جاءوا هنا أوائل 1800م من ممالك مختلفة قبل ما تبقي إيطاليا مملكة موحدة عام 1860 م وكان الأجانب بيميلوا للبقاء مع بعض .. مش جيتو بس مع بعض والحكام كمان كانواعايزين ده وتقدري تقولي الاتحاد حصل بين الإيطاليين هنا في مصر قبل حدوثه في إيطاليا سياسيا . " يري فرانشسكو أن وجود " الأجانب " سابقا كان مكسبا لأنه كانت هناك فرص أكبر للتسامح والانفتاح علي المختلف ما قبل ثورة يوليو 1952 م فيقول " يمكن لو شفتيني حولك تتأكدي أني مش بآكل الناس بينما لو ماكنتش هنا ممكن تصدقي أني بآكل الناس " ! كانت سخريته هادئة كهدوء المدينة في وقتٍ ما . يقول : " زمان كانت العربيات دايما في جراجات وكان عسكري الدورية يطلع بيتنا يسأل ليه أنا سايب عربيتي بره ؟ . لكن احنا ( يقصد ثورة يوليو ) رفضنا كل القديم كأنه contamination تلوث بس مش كل الناس الأجانب كانوا مستغلين . كان فيه من الأجانب اللي بيحس إن ده وطنه و دول كان ممكن الاستفادة منهم". الطامة في حديث فرانشسكو حين حكي عن اختفاء كل منقولات وأثاث قصر الثري الشهير أنطونيادس صاحب القصر والحدائق الشهيرة . ينصحني أن أذهب بنفسي لأري فقد تم استبدال الأثاث التاريخي بأثاث من الموجود في المحلات ! . من ناحية أخري فكل قصور المدينة التراثية من المتبقي في حوزة جهات حكومية لم تبق بها أثاثاتها أيضا وهو ما يسري علي ما تحول منها لمدارس أو مستشفيات أو لأجهزة إدارية تتبع بعض الوزارات كما لاحظتُ بنفسي في عدد من تلك القصور التي سُمِح لي بدخولها دون تصوير أو بتحول الأثاث إلي المخازن . لكن ماذا يحدث للمنقولات في تلك المخازن،كيف تتم رعايتها أو إلي أين تتسرب سرا لم يكن ممكنا تخيل كل هذا . من فرانشسكو أعرف ما وثقه د. محمد عوض : أن فندق متروبول الشهير بمحطة الرمل أنشأه المهندس الإيطالي كورادو برجولوزي، والقنصلية الإيطالية بنفس المحطة التي صارت " بنك الإسكندرية " البديع علي البحر بناها أنريكو بوفيو .. ثم أعرف وحدي أن قصر المنتزه قريب الشبه بقلعة ماكينزي الشهيرة في جنوة كما تُظهِر الصور في كتاب د. فرانشسكو يذكر لاسياك الذي صمم محطة قطار الرمل المبنية عام 1887م كما شارك مع المعماري اليوناني إيكونوموبولوس في تصميم محطة مصر للقطار بالإسكندرية ( المعتدي عليها كما لاحظت من صيدلية العزبي بتلوين حجارتها التاريخية عند الجزء الأسفل باللون الأسود لتمييز الصيدلية الحريصة علي توحيد لون مبانيها في مصر !)، المستشفي الإيطالي صممه المهندس الإيطالي الشهير Giuseppe Alessandro Loria وهو الذي صمم فندق سيسيل بنفس الميدان ميدان سعد زغلول بمحطة الرمل - وكان مبني هيئة الإسعاف المختلطة ( حتي اليوم عليه الكتابة باللغة الإيطالية ) من تصميمه مع آخر هو E.Verruci Bey عام 1928م . كان آرنستو فيروتشي كما سأعرف من مكتبة الإسكندرية لاحقا هو كبير معماريّ القصور الملكية الذي أوكلت إليه مهمة تجديد قصر رأس التين الملكي بالمدينة قبل ذلك بعام إذ كان القصر بمعمار يمكن القول إنه عثماني فأصبح من الباروك الإيطالي . وقد بني لوريا أيضا قصر بنك مصر عام 1928 م ( معمار البنك إسلامي محدث ) والمستشفي الإسرائيلي. أما البنك الأهلي المصري بشارع شريف بالإسكندرية فكان سابقا Banco Di Roma صممه المعماري هنري جورّا عام 1905 م وهو من طراز النهضة المستحدث التجديدي وكان نسخة معدلة من Palazo Farnese الذي بناه الفنان والنحات العظيم مايكل أنجيلو في روما . ميدان " محمد علي " أو " القناصل " أو " السلاح " الذي أصبح " ميدان عرابي " قام بتصميمه المهندس الإيطالي منشيني، ونصب الجندي البحري المجهول أصلا إيطالي حيث كان من تمويل الجالية الإيطالية بالمدينة ولكنه كان نصبا للخديو إسماعيل فتمثاله من أعمال النحات الإيطالي بييترو كانونيكا وقد رفع بعد سنوات من مكانه رغم بقائه لفترة عقب ثورة يوليو وكان بالإمكان مشاهدته في أفلام الفنانة الراحلة مريم فخر الدين. تم رفع التمثال الذي توسط semi rotundaالمشكلة للنصب ليوضع في المخازن وتناثرت معلومات تفيد (كما سأقرأ لاحقا) أن الحكومة المصرية تفكر في " تذويبه " كمعدن لصنع عملات برونزية لكن إيطاليا احتجت وبالنهاية فأنت تعثر عليه بالصدفة قرب آثار كوم الدكة يعلو قاعدة رخامية شديدة اللمعان والقبح دون ذكر اسم صاحبه أو إشارة لتاريخ صنعه ومن صنعه ( هذا ليس كلام فرانشسكو ). أيضا كان مبني إدارة جامعة الإسكندرية ( بالطوب الأحمر القديم ) علي كورنيش الشاطبي أشبه ببيت شباب حين تم تأسيسه يستضيف الطلاب الإيطاليين من مختلف أنحاء مصر لينزلوا فيه كمصيف زمان. وهذا المبني أثيرت من أعوام قصة عن نية هدمه ربما كانت من باب جس النبض لو حدث ذلك . ما لم أكن أعرفه إلا بعد قراءتي للكتاب المصور " ذاكرة الإسكندرية الفوتوغرافية " الصادر عن مكتبة الإٍسكندرية هو ما ذكره فرانشسكو : م. روسي هو من بني مسجد القائد إبراهيم فأخبرته أني تعمدت الدوران حول المسجد في يومين مختلفين بحثا عن اسم روسي فلم أجد سوي " شركة أبو شبانة للمقاولات!". فعلق ببساطة "ربما التجديدات". يذكر الكتاب المذكور وأري في معرض " الإسكندرية عبر العصور " ما يفيد أن مسجد أبو العباس المرسي أيضا بناه إم. روسي المعماري الإيطالي ( من 1927 1938 م ) الذي بني مسجد القائد إبراهيم من 1949 1951 م ( الأخير بمنطقة الأزاريطة أو مزاريتا والذي شهد أحداث العنف الديني الشهيرة من جانب الشيخ المحلاوي وصار مكانا لاعتصامات المتطرفين بداخله ) ولعل هذا ما يفسر وجود ساعة بوسط مئذنته بينما يشير الباحث محمد علي محمد خليل إلي وجود معماريين إيطاليين تقلدوا مناصب في وزارة الأوقاف المصرية مثل أوجينيو فالزانيا و يري الباحث المذكور أن التاريخ نسب خطأ التصور الأصلي لبناء جامع " المرسي أبو العباس " إلي المعماري روسي لأنه أكمل بناء المسجد بعد وفاة فالزانيا لكني أجدني أميل إلي توثيق د. محمد عوض حول الموضوع ( تصميم روسي لجامع المرسي ) ومع هذا لا أحد من السكندريين يعرف من بناه لأنه لا أحد منهم يتخيل قيام أوروبي بتصميم وبناء جامع . هذا ما لم أقله لفرانشسكو. هل يمكن أن يتم بيع دارالمسنين الإيطالي ؟ . يقول " لا . ". أسأل لماذا وقد باعوا من قبل " قصر برتولوتي " ؟ . يقول : " لا . مش حنبيع لأن هنا المبني محمي بكونه في شارع فيه القنصلية اليونانية ومباني تابعة لسفارة فرنسا علي الشارع الرئيسي قرب الجامعة ". أحاول أن أطمئن للمستقبل . ما أكثر ما يكرهه في الإسكندرية ؟ يتنهد المصري الإيطالي : " الزحمة ! أعترف أن عدد السكان سبّب ده .. كان عندي مشكلة علي رصيف بيتي ولما جاءوا من الحي قالوا أنت عايش في قصر!... عشان كده باقول : إزاي حاتكلم عن أي موضوع مع واحد بطنه فاضية؟". كنت واعية بهذا وبنفس الوقت أريد من يؤيد تساؤلي : هل تنتظر الشعوب تحقيق العدالة الاجتماعية وإنجاز نهضتها لحماية آثارها؟؟. في معهد الدون بوسكو الصناعي الإيطالي بالإسكندرية قبل هذا بيومين كانوا اعتذورا عن التصوير دون تصريح من وزارة التربية والتعليم فالأخ بشير ( رجل دين ) المسئول أوضح أنه لما تم هذا في الدون بوسكو بالقاهرة حدثت مشكلة وقد تكون الأوضاع الأمنية هي السبب. علي واجهة المبني التراثي التعليمي العريق نجد لافتة مكتوب عليها اسم المعماري لوريس بيجانو وتاريخ البناء 1902-1937 م . لا أفهم تماما لأن د. محمد عوض يذكر المعماري كاسيلي بصفته من بني " الدون بوسكو" وهي معلومة متداولة عنه استخدمها الروائي إبراهيم عبد المجيد وفرانشسكو وعدد من الصحفيين وأثق تماما وأطمئن لكل ما يورده د. محمد عوض . كنت ذهبت للدون بوسكو قبل دار المسنين. المواطن عادل عبد اللطيف علي محمود بأمن الدون بوسكو رجاني نقل صرخته ضد " البيه المحافظ " علي حد تعبيره لأنه لم يشاهده في شارع عبد القادر بمنطقة العامرية حتي اليوم . حاولت توضيح مهمتي وطبيعة موضوعي لكن كنت أري في صوته وما يعانيه كل ما يؤدي حقا إلي السماح بهدم التاريخ والعدوان المتوحش علي الجمال. كنت أري إجابة قد تكون جزئية - علي حيرتي لماذا لم يتحرك سكان المدينة و لماذا لم تبدأ " مبادرة أنقذوا الإسكندرية " إلا من ثلاثة أعوام بينما لم يفكر أحد في إنقاذ المدينة من قبل علي مدي أكثر من أربعة عقود ؟. كيف يظل بيت شكسبير في بريطانيا الذي شهد ميلاده ووفاته قائما مصانا من القرن السادس عشر ويتحول لاحقا إلي متحف يدر دخلا مهولا كقدس أقداس سياحي منذ أكثر من 250 عاما بينما لا أثر في كوم الدكة لبيت سيد درويش مجدد الموسيقي العربية وابن مدينته الإسكندرية ؟!. تذهب فتري حجارة علي الأرض ويشيرون إلي بعض الحجارة حوله علقوا عليها غسيلهم ويقولون " دي حجارة حديثة يعني سور " وتحوط المأساة الدامية أخشاب عملاقة تنتظرها إحدي الشقق. المساحة المهدومة لا تتجاوز بضعة أمتار! وبالمثل تم هدم البيت الذي عاش فيه الشاعر الكبير بيرم التونسي بالأنفوشي كما تم هدم فيلا الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب بمنطقة جليم وتم هدم عمارة علي كورنيش ميامي كان بها شقة للفنانة الراحلة أمينة رزق كما عرفت بشكل شخصي من أحد البوابين . أقاوم تعاطفي بحنقي والعكس. أسمع للرجل الذي وعدته بكتابة شكواه. يقول عادل عبد اللطيف :" لا يوجد صرف صحي في شارع عبد القادر والناس بتقتل بعضها بسبب عدم وجود صرف للمجاري ..والكلاب الضالة منتشرة والناس بتعاني صعوبة كبيرة في دخول بيوتها ده غير صعوبة المواصلات .. أنا كل يوم حوالي 3 ساعات أتوبيس للوصول لعملي والرجوع منه". في المقابل سمعتُ بأماكن أخري من يقول " بيحاربوا المحافظ ده عشان بيشتغل ويواجه فئة متوحشة ... هو حيعمل إيه ولا إيه ؟". إذن كثير جدا من المواطنين المصريين وليس فقط السكندريين يعيشون في واقع عصر شكسبير وهو ما يفسر شعور حتي النخب العربية بالخروج من الزمن ودخول كبسولات زمنية تحط بهم في عصر آخر لدي سفرهم خارج بلادهم لأوروبا. تجد في الإسكندرية الفيلات التي كُتِبت لها النجاة والترميم ناصعة الجمال والتحدي لكنها محصورة في بعض مباني القنصليات والسفارات والبنوك، وأقل القليل هو المحظوظ بشراء الدولة له لتحويله إلي متحف مثل قصر عائلة أسعد باسيلي اللبنانية التي هاجرت لمصر عقب حدوث مجاعة في لبنان عام 1900 م وعمل عميدها في استيراد الأخشاب وقد تحول القصر إلي متحف الإسكندرية القومي الذي دخلته من سنوات وهناك القصر الذي صار بنك الاتحاد الوطني، والمركز الثقافي الإسباني الذي كان قصرا لأحد أوائل من سكنوا شارع فؤاد وهو الإيطالي فيليپو پيني الذي بني قصره عام 1880 م وهناك قصر سَلفاجو ملك القطن الذي تذكر بعض المصادر أنه كان هدية والد زوجة سلفاجو لابنته عند زواجها وقد صار مبني المركز الثقافي الروسي وتم تجديده مع الحفاظ علي أبهته وتصميمه، ومعهد جوته الذي كان فيلا رولو لعائلة ماكس رولو اليهودية الثرية وصار ملكا لأسرة إبراهيم الوكيل تاجر القطن قبل بيعه لألمانيا وهو مبني علي الطراز النيو قوطي والسفارة السعودية كانت في الأصل فيلا پينتو وملجأ العجزة اليوناني بالشاطبي الذي ترتفع عليه أعلام الدول الثلاث مصر وفرنسا واليونان وقامت قنصلية اليونان بتأجيره لسفارة فرنسا ليكون ضمن مقارها بالمدينة وهذا تم تجديده بينما نجد بعض الصحف كاليوم السابع والمصري اليوم والمواقع الصحفية الإليكترونية كتبت في 2013م عن محاولة مالك فيلا السفارة الألمانية سابقا بكفر عبده هدمها رغم كونها مسجلة بقائمة التراث المعماري تحت رقم 1442 ومحاولته إخراجها من المجلد وكان قد تم نزع النوافذ والشيش وقام الفنان السكندري عبد الله دواستاشي بتصوير التعديات كما نظم عدد قليل من الناشطين حينها وقفة لمنع الهدم وهو ما يبين أنه مادامت الفيلا التراثية تخضع للإيجار دون شراء من الدولة فهي تظل مهددة. لماذا لم يدافع السكندريون كشعب عن إرثهم المعماري وهو يتهدم ؟ .