تري كيف كان شعور كل امرأة وقفت خلفها ؟ وهل ما أستشعره الآن أنا المارة بها مرورا عابرا هو نفس ما أحست به كل النساء اللواتي لجأن إليها من قبل ؟ أعتقد ان الإجابة ستكون بالنفي ، فلابد أن لها انعكاسا ضوئيا مختلفا علي وجه كل امرأة ، إنه انعكاس يتباين حسب تفاعله مع شخصية الأنثي التي لا يمكن أن تتشابه مع غيرها . بعد مرور قرون علي نشأة المشربية في العصر العباسي تبدو الآن مجرد شكل جمالي قادر علي منحنا مزيجا من الدهشة والانبهار ، انشغالنا بتفاصيلها التي تتداخل في تناغم مراوغ يجعلنا ننسي أنها كانت مجرد حيلة هندسية تهدف لفصل حواء عمن حولها هل يمكنني تخيل كيف كانت فتاة أو سيدة مثلي تقف خلفها لتستحضر معالم الحياة من المنفذ الوحيد المتاح لها كي ترتبط بالعالم ؟ كيف كانت تتنفس من خلالها الهواء و تتصيد ملامح أشخاص يبدون لها ككائنات أسطورية ؟ كيف كانت تحلل من خلالها شخصياتهم وترسم أحلامها بهم ومعهم، وتشكل وجدانها ومستقبلها من خلال تلك الفتحات الضيقة ؟ أمر أمامها بحركة بطيئة ، تستوقفني بطرزها المعمارية المتنوعة ، وتدعوني فتحاتها لرحلة وراءها أعبر من خلالها إلي السر الكامن فيها منذ قرون . في كتب الهندسة المعمارية قال المؤلفون إنها تخللت الجدران لتضبط حرارة الأماكن الموجودة فيها، لكن الواقع يؤكد أنها ابتكرت أيضا لضبط حرارة إحساس كل امرأة وقفت خلفها واختلف تأثيرها طبقا لامتداد رؤية بنات حواء ، وقدر ما تكشفه لها تلك المشربيات من أسرار عوالم تخوضها من خلالها بشغف الأنثي وجموح رغبتها في الاكتشاف والمعرفة . هذا ما لم يدركه أي معماري يقيس زاوية مشربيته طبقا للقواعد الهندسية البحتة ، وربما أدركه لكنه حاول المراوغة لكي يرحم نفسه من الإحساس بالذنب .. ذنب ابتكار مصيدة تهدف لمنع سريان المشاعر في الاتجاهين في بيت زينب خاتون تلك التحفة المعمارية المتفردة بطرازها المعماري وموقعها المميز خلف جامع الأزهر ، كان الشارع قديما يعج بالأفندية والبهوات والتجار والسقايين ، يحمل الباعة الجائلون الأقمشة واحتياجات نساء الدار في أياديهم وينقلون الحكايات والنوادر من بيت لبيت ، في ذلك العصر الذي كانت فيه (البلانة)هي نشرة أخبار تتحرك علي قدمين ووسيلة للمعرفة، ونافذة مشوبة بالغموض كمشربيات المنزل تماما . أقف هناك .. خلف إحدي مشربيات الدار.. يتسلل الضوء المنعكس من فتحاتها علي وجهي ليضيئه علي استحياء.. ويأبي أن يمتد إلي جسدي ليسلط سحره الخجول عليه. أنظر إلي المارة بدهشة امرأة تنتمي لذلك القصر وأنسج من خيالي ومن روايات سمعتها حكاية عن ذلك الشاب الوسيم الذي ألقي بابتسامة تعرف ضالتها ، صوبها إلي تلك التي لا أعرفها و كانت تقف في نفس المكان منذ زمن، ربما هي الأميرة (شقراء) حفيدة السلطان حسن بن قلاوون التي بنت هذه الدار وربما (زينب خاتون ) نفسها وربما إحدي بناتها أو قريباتها اللاتي كن يملأن الدار . دخلت علي استحياء أرتدي اليشمك وأحكم الملاية اللف علي جسدي لتبرز بسحرها الخفي فتنته بعد أن خططت عيني بالكحل الأسود وأحكمت جدل شعري ليتدلي علي ظهري .وجدته أسفل المشربية الخلفية للمنزل ، وكأنه كان يعرف أنني انتظره كما ينتظرني..بابتسامة خجولة مني قصصت له حكايتي معه ، تلك التي نسجتها خلف الخشب المعشق..وبابتسامة ماكرة منه أجابني بأنه يعرف كل شيء . اشتريت أغراضا لا احتاجها وعدت إلي مخدعي،انتظره أن يأتيني في الأحلام.. ذلك العالم الذي أملكه وحدي حيث لا جدران ولا مشربيات . اليوم قرر (حمزة الشريف ) صاحب الدار إقامة حفلة تضم الأمراء والأعيان،ولما كان تصميم البيت علي طراز المدخل المنكسر الذي اشتهر به العصر المملوكي ، كان علي أن أختار واحدة من المشربيات التي تطل علي الصحن لأضمن مشاهدة تفاصيل الليلة كاملة وأعرف إن كان كلام السقا الذي أسره لي اليوم حقيقة أم أنه من نسج خياله . خادمات المنزل جهزن كل المشروبات والأطعمة ووضعنها علي الصحاف المستديرة وانسحبن جميعا ليقفن خلف مشربياتهن، فصاحبات الدار لهن مشربيات كبيرة مطلة علي الصحن بشكل مباشر وزاوية إضاءتها مميزة وتنتهي بفتحة كبيرة نسبيا عن تلك المشربيات التي أعدت للخدم . كنت محظوظة بمشربيتي التي احتللتها وكنت أوفر حظا بوجوده هنا في الصحن بابتسامته التي تعرف طريقها إلي ..لم يكن كلام السقا نسجا من خياله.إنه هنا الآن في دارنا يبحث خلف المشربيات الداخلية عن ظلي وأنا أسترق السمع إلي كلماته وكأنها عزف لسيمفونية ، أوتارها دقات قلبي . سيشارك حمزة الشريف في تجارته وبهذا سيكون قريبا مني دوما، سيقص حكاياته مساء كل خميس في صحن دارنا ، اليوم عرفت أنه منذ كان طفلا وهو يهوي الرسم تري هل وجد في ملامحي ما يلهمه لرسم لوحة بطلتها أنا ؟ ألهذا السبب استوقفته منذ وقعت عيناه علي من خلف لوحة المشربية ؟ تمر الأيام بطيئة أطويها غير مكترثة بها لأنتظر يوم الخميس الذي سأراه فيه مجددا وسأسمع مغامراته مع (سي حمزة) ورفاقه . جاء الخميس ولم يأت هو ، تحدث الجميع عن زبائنهم وكان صوت (سي حمزة) جليا وهو يقول إن صاحبنا الغائب اليوم ليس مريضا كما تظنون وإنما هو مخطوف ، يؤكد :نعم رأيته بأم عيني ،خرج مع امرأة جاءت لتشتري بضاعتها منه ورفعت اليشمك ليري ملامح وجهها .. قال :إنها لوحة رائعة . يضحك الرجال بمكر : ما أكثر لوحات هذا الرجل ؟ ليخرجوا من هذه الإشكالية واصلوا : لا يجوز رسم الأشخاص أو الحيوانات .. كم مرة سمعتم صاحبنا يردد هذا الكلام بعد صلاة العشاء ؟ الرجال ضاحكين : لكن بين العشاء والفجر يتغير الحال . أجهشت في بكاء أغرق مشربيتي ولا أدري إن كانت إحدي قطرات دموعي قد سقطت لتبلل وجه (سي حمزة ) أو أحد رفاقه ، لكنني بت أفكر : هل يخونني أم أنني من خنت قلبي حين تعلقت برجل لم أر منه إلا وجهه وابتسامة زائفة ؟ تذكرت قصة حبي الأولي التي كان بطلها شاب قابلته في غرفة دردشة بالإنترنت ، سلب قلبي ، ونسجت له من خيالي عالما خاصا عاش فيه ليموت بعد أول مقابلة جمعتنا معا علي أرض الواقع . خلف المشربية رحلت إلي عوالم حكايات جداتي لأتقمص دور إحداهن ، خائفة أنا مما استشعرته ، وتدور في رأسي أسئلة عدة : من أنا ولأي ثقافة أنتمي ؟ ألا زلت أرتدي - رغم صخب العولمة - يشمك بداخلي ؟ هل أنظر للحياة من خلف الخشب المعشق ؟..أم أنني تلك المرأة التي حررها قاسم أمين منذ أن فتح لها نافذة علي الحياة ،وخلصها من اليشمك ومن تلك القطع الخشبية الصغيرة المعشقة ؟ قطع شكلت رغم صغرها مشربيات ضخمة كانت هي الوسيط بينها وبين الشارع بتفاصيله وبهو الرجال بمغامراته وحكاياته . أعترف أن المشربية ليست مجرد طراز ابتكرته العمارة الإسلامية واختصت به النساء ، إنما هو أسلوب حياة يرمي بظلاله علي الكثيرات منا في كل مجتمعاتنا العربية وفي كل الأزمنة التي تلت عصر » زينب خاتون «وحتي عصر »زها حديد« أشهر مهندسة معمارية عربية .