طالما اعتبر الغرب أن التحديث رسالته التى يسعى إلى التبشير بها، ودار جدل كثير حول ممانعة المناطق الثقافية المختلفة لتلك الرسالة، وقياس مستوى حميمية العلاقة بين الغرب وهذه المناطق بمدى استجابتها للحداثة كمشروع فلسفى وتجربة تاريخية. فالمجتمعات الأكثر تحديثا خارج الغرب الأورو أمريكى كاليابان، تم النظر إليها كصديق منطقي، فيما نظر إلى المجتمعات الأكثر ممانعة للتحديث باعتبارها «شاذة» فى كل الأوقات وعدوا محتملا فى بعضها، وضمنها المشرق العربى الإسلامي، الذى قادته ممانعته إلى عديد المشكلات كالإرهاب، الذى طفح من هنا، ليصيبه هناك. تلك السردية تبدو لنا دعوى مثالية إن لم تكن فرية تاريخية، فلم يكن تحديث العالم هدفا غربيا بالمعنى الجوهري، الذى يفترض تبنى المكونات الأساسية: الفلسفية والعلمية والسياسية، التى صاغت متن تجربته الحضارية، وإن ظل هدفا خطابيا لنزعة التمركز الغربى حول الذات، وفى القلب منها نسق الفكر الكولونيالي. فما سعى الغرب الى تصديره للمجتمعات الأخرى إنما هو أشكال الحداثة الملونة، كى تصبح هوامش فعالة، تعمل كأسواق مفتوحة لسلعة دون انتاج، وجمهور مستهلك لإعلامه دون ثقافة. ربما اقترب هذا الفهم من النقد الماركسى للرأسمالية منذ القرن التاسع عشر، ونظيره العالم ثالثى للنزعة الكولونيالية منذ ستينات القرن العشرين، ولكنه فى الحقيقة يتقاطع معهما ولا يتوقف عندهما، طامحا إلى تفسير ثقافى أكثر جذرية، فالغرب لم يرد فقط التوسع الرأسمالى ضمانا للمركزية الاقتصادية، ولا التوسع الإستعمارى ضمانا للمركزية الجيوسياسية، بل أراد المركزية الحضارية بالمعنى الشامل، تلك التى بلغها بفضل مشروع الحداثة، وتمكن من الحفاظ عليها حتى اليوم، ويأمل فى استمراها إلى الغد ما بعد الحداثي. من تلك الفجوة بين حاجة الغرب إلى تحديث هوامش المجتمعات الأخري، وخوفه العميق من حداثة متونها، ولدت الإشكالية التى صارت مألوفة عن ازدواجية المعايير داخل مشروعه الحضاري، فحكم بعض المعايير مسارات تطوره الذاتي، وتحكمت نقائضها بمسارات تمدده الخارجي؛ ذلك أن التراث الفلسفى الغربى ينطوى على تيارين أساسيين متناقضين فى نظرتهما إلى الآخر: يمثل ليبنتز معلما على التيار الأول، الغالب، الذى أراد تسخير الآخرين فى خدمة أوروبا الصاعدة آنذاك، كى تتبلور هى نفسها كفكرة كبرى أولا، قبل أن تسود العالم كتجربة ثانيا، فكان داعية لاستعمار الأقاليم المركزية فيه وضمنها مصر التى حرص العرش الفرنسى طويلا على احتلالها، حتى جاءها نابليون أخيرا باسم الثورة والجمهورية. ويمثل كانط معلما على التيار الثاني، الذى أراد التعايش مع الآخرين على قاعدة الإنسانية المشتركة والحكومة العالمية التى تكرس للسلام الدائم بين جميع الأمم، على قاعدة الديمقراطية داخل كل المجتمعات. المشكلة الكبرى أن الغرب قد سار دوما خلف ليبنتز، فاحتل الأرض، ووظف أصحابها، فى خدمة مشروعاته.. دعاهم إلى الحداثة فيما عطل تطورهم الطبيعى إليها، حتى لو كان قد بنى بعض المرافق الحديثة بها، خدمة لوجوده فيها.. نصب نفسه داعية للديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنه اعتبر الإنسان الغربى وحده الأجدر بممارستهما. ومن ثم ظل البناء الفلسفى المعتمد لمشروعه الحضارى عاجزا عن حمل مشروع كونى حقيقي، سواء فى ظل القيادة الأوروبية بالأمس، أو فى ظل الريادة الأمريكية اليوم. هذا الفهم ربما يلقى ضوءا كاشفا على العلاقة الملتبسة بين الولاياتالمتحدة، وبين تنظيم الدولة داعش الذى تساءل دونالد ترامب، المرشح الرئاسى للحزب الجمهوري، ببراءة كاشفة إذا كان كل ما يملكه داعش من سلاح ومن عربات مدرعة هو أمريكى الصنع، فكيف وصلت هذه الأشياء إليهم، وكيف ندعى أننا نحاربهم؟. فإذا ما طرحنا سؤالا موازيا وهو: لماذا يستهدف تنظيم داعش روسيا التى تدخلت ضده بفعالية منذ أسابيع، وفرنسا التى أعلنت نيتها فى التدخل الفعال ضده قبل أيام، بإرهابه العدمى على ذلك النحو الذى تبدى غالبا فى حادث الطائرة الروسية، وتبدى يقينا فى حوادث باريس الإرهابية، فيما يستبقى يهادن الولاياتالمتحدة، المفترض أنها تقود الحرب ضدها خصوصا فى العراق منذ أكثر من العامين؟ لتبدى لنا تحالفا مسكوتا عنه بين الدولة الكبري، والجماعة المتطرفة. فمن جهة يتبدى الموقف الأمريكى مناقضا لمنطق التاريخ وروح الحداثة، خاضعا فقط لأوهام المركزية الثقافية، وحساباتها الإستراتيجية ذات النكهة الاستعمارية، التى يقصر نظرها عن الآفاق الإنسانية التى طالما ادعاها العقل الغربى عموما، والولاياتالمتحدة خصوصا، فالبلد الأكثر حيوية فى الغرب، والأكثر حفزا لحركة التاريخ المعاصر، والمفترض أن يكون حاضنة لكل السائرين على طريق الحداثة والحرية والتقدم صار يخون مثله السياسية جهارا نهارا، ويمنح نفسه للشيطان الداعشى الذى لا يرى فى الولاياتالمتحدة ظاهرا سوى شيطان أكبر، وفى الباطن سوى حليف أكبر. ومن جهة أخرى يكشف موقف التنظيم عن نزوع براجماتى إلى الاتجار بالدين، فلم يكن الإنتماء الدينى بحد ذاته مانعا لتحالف التنظيم (الإسلامي) مع الدولة الأمريكية (الإمبريالية)، ربيبة المسيحية البيوريتانية، والهجرات الأوروبية والإستعمار الانجليزي، والحبلى الآن بالأصولية الإنجيلية. جوهر المفارقة التى يكشف عنها ذلك التحالف المريب يكمن فى طبيعة طرفيه، الدولة الكبرى المحفزة لحركة التاريخ من ناحية، التنظيم الدينى المتطرف، المعاند لحركة التاريخ، من ناحية أخري. فرغم أن الدول الوطنية العربية التى يجرى تفكيكها الآن (سورياوالعراق وليبيا واليمن) هى الأقرب للدولة الكبري، من التنظيم المتطرف، باعتبارها ربيبة الحداثة السياسية ولو السلطوية. فإن هذه الدولة، تحركت اقترابا من التنظيم المعاند للحداثة، والمعطل للحرية، ابتعادا عن تلك الدول الوطنية، عندما تبدى لها أن ذلك يخدم أهدافها الإستراتيجية أو يكرس لتصوراتها المستقبلية حيال المشرق الحضارى الإسلامي. المشكلة الكبرى أن تلك الأهداف والتصورات تبقى قصيرة النظر، إذ تقوم على التلاعب بجغرافية الأرض والتحكم بحدود القوة، والتوظيف السلبى للانتماءات المذهبية، وعلى معاندة جسد الحداثة العقلاني، المؤكد على الدولة القومية، والعلمانية السياسية، والنزعة الفردية، والرافض للدين السياسى والمنزع الطائفي، والروح القبلية. وهكذا تعود الذات العربية لتتحمل من جديد أعباء تلك الثنائية المتضادة فى تجربة الحداثة الغربية، التى كانت دفعت ثمنها إبان الاحتلال الأوروبى لأراضيها، ويبدو أنها سوف تدفعه مرارا، طالما أنها لم تستطع تجاوز مأزقها مع الحداثة بالمعنى التاريخي، من طريق فك أسرارها واللحاق بها، وليس بإنكارها أو معاندتها أو التقاتل تحت رايتها بين طوائف تؤيدها وأخرى تعارضها. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم