فوائد وأضرار الذكاء الاصطناعي.. تحقيق الفوائد ومواجهة التحديات    «سنعود بالكأس إلى المغرب».. تصريحات مثيرة من نجم نهضة بركان بعد الفوز على الزمالك    اللاعبات المصريات يواصلن التألق ببطولة العالم للإسكواش    اليوم، محاكمة 57 متهما بقضية اللجان النوعية للإخوان    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 13 مايو بعد انخفاضه في 7 بنوك    زيادة جديدة.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 13 مايو 2024 في المصانع والأسواق    البيضاء تواصل انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الإثنين 13 مايو في البورصة والأسواق    بالصور.. نائب القاهرة للمنطقة الجنوبية تكشف تفاصيل تطوير مسجد السيدة زينب    استعداد المستثمرين لدعم رؤية الحكومة في زيادة أعداد السياح وتحفيز القطاع السياحي    10 معلومات عن السيارات الكهربائية.. مقرر طرحها للاستخدام خلال ساعات    الكرملين يؤكد بقاء رئيس هيئة الأركان العامة جيراسيموف في منصبه    مقتل 3 مدنيين وإصابة 5 آخرين بسبب قصف أوكراني جديد على مدينة بيلجورود    وكيل «خارجية الشيوخ»: مصر داعية للسلام وعنصر متوازن في النزاعات الإقليمية    أزهري يرد على تصريحات إسلام بحيري: أي دين يتحدثون عنه؟    وزير التعليم: هناك آلية لدى الوزارة لتعيين المعلمين الجدد    قرار عاجل من اتحاد الكرة بسبب أزمة الشحات والشيبي    تدريبات خاصة للاعبي الزمالك البدلاء والمستبعدين أمام نهضة بركان    بطولة العالم للاسكواش 2024.. مصر تشارك بسبع لاعبين في الدور الثالث    خطأين للحكم.. أول تعليق من «كاف» على ركلة جزاء نهضة بركان أمام الزمالك    بعد تعيينها بقرار جمهوري.. تفاصيل توجيهات رئيس جامعة القاهرة لعميدة التمريض    حدث ليلا| زيادة كبيرة في أراضي الاستصلاح الزراعي.. وتشغيل مترو جامعة القاهرة قبل افتتاحه    محاكمة متهمي قضية اللجان النوعية.. اليوم    تشديد عاجل من "التعليم" بشأن امتحانات الشهادة الإعدادية (تفاصيل)    مرتديا النقاب.. سيدة تستعين بشاب للشروع لضرب صاحب سوبر ماركت في الوراق    مدحت العدل: أنا مش محتكر نيللي كريم أو يسرا    افتتاح مسجد السيدة زينب.. لحظة تاريخية تجسد التراث الديني والثقافي في مصر    لا أستطيع الوفاء بالنذر.. ماذا أفعل؟.. الإفتاء توضح الكفارة    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك أن تستجيب دعواتنا وتحقق رغباتنا وتقضي حوائجنا    «من حقك تعرف».. هل المطلقة لها الحق في نفقة العدة قبل الدخول بها؟    منها تخفيف الغازات والانتفاخ.. فوائد مذهلة لمضغ القرنفل (تعرف عليها)    سر قرمشة ولون السمك الذهبي.. «هتعمليه زي المحلات»    أمير عزمي: نهضة بركان سيلجأ للدفاع بقوة أمام الزمالك في الإياب    المصريين الأحرار يُشيد بموقف مصر الداعم للشعب الفلسطيني أمام محكمة العدل الدولية    سيرين خاص: مسلسل "مليحة" أظهر معاناة الشعب الفلسطيني والدعم المصري الكبير للقضية    مسلسل لعبة حب الحلقة 24، فريدة تعلن انتهاء اتفاقها مع سما    قصواء الخلالي تدق ناقوس الخطر: ملف اللاجئين أصبح قضية وطن    كاميرون: نشر القوات البريطانية في غزة من أجل توزيع المساعدات ليس خطوة جيدة    رئيس الوزراء الإسباني يشيد بفوز الإشتراكيين في إنتخابات كتالونيا    العدو يحرق جباليا بالتزامن مع اجتياج رفح .. وتصد بعمليات نوعية للمقاومة    قوات الاحتلال الإسرائيلي تداهم عددا من المنازل في بلدة عزون شرق قلقيلية    «الإفتاء» تستعد لإعلان موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات قريبًا    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد مستشفى الحميات وتوجِّة باستكمال العيادات (صور)    مستقبل وطن بأشمون يكرم العمال في عيدهم | صور    طلاب آداب القاهرة يناقشون كتاب «سيمفونية الحجارة» ضمن مشروعات التخرج    أربع سيدات يطلقن أعيرة نارية على أفراد أسرة بقنا    رئيس مجلس الأعمال المصري الماليزي: مصر بها فرص واعدة للاستثمار    الكشف على 1328 شخصاً في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    وقوع حادث تصادم بين سيارتين ملاكي وأخرى ربع نقل بميدان الحصري في 6 أكتوبر    نقابة الصحفيين: قرار منع تصوير الجنازات مخالف للدستور.. والشخصية العامة ملك للمجتمع    ليس الوداع الأفضل.. مبابي يسجل ويخسر مع باريس في آخر ليلة بحديقة الأمراء    وفاة أول رجل خضع لعملية زراعة كلية من خنزير    وزيرة الهجرة تبحث استعدادات المؤتمرالخامس للمصريين بالخارج    حظك اليوم برج العذراء الاثنين 13-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. لا تعاند رئيسك    عمرو أديب يعلن مناظرة بين إسلام البحيري وعبدالله رشدي (فيديو)    رئيس جامعة المنوفية يعقد لقاءً مفتوحاً مع أعضاء هيئة التدريس    الأعلى للصوفية: اهتمام الرئيس بمساجد آل البيت رسالة بأن مصر دولة وسطية    أمين الفتوى: سيطرة الأم على بنتها يؤثر على الثقة والمحبة بينهما    منها إطلاق مبادرة المدرب الوطني.. أجندة مزدحمة على طاولة «رياضة الشيوخ» اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة ورائحة البارود
نشر في التغيير يوم 12 - 01 - 2012

يغطي الحديث في الغرب (وفي بلادنا أيضا) عن التحديث في جميع المجالات:المجال السياسي(الديمقراطية) - المجال الاقتصادي (مزيد من الخصخصة)- المجال التربوي (تعديل المقررات الدراسية بما يتفق مع المعايير الغربية الحديثة). وبدأ بعض يتحدثون عن أن الإسلام بطبيعته معاداة الحداثة، فانبري بعض المفكرين العرب والإسلاميين للدفاع عن الاسلام ولإثبات العكس، مبينين بالبرهان القاطع أن الإسلام بطبيعته ليس معاديا للحداثة، بل يرحب بها، ويمكنه أن يتبني مناهجها وقيمها.
وهذا الحوار يفترض أن مصطلح الحداثة مصطلح محدد المعني والدلالة، وأن الحداثة ليس لها تاريخ وأن تبدياتها لاتختلف من حضارة لأخري، أو من حقبة تاريخية إلي أخري، وأن هناك حداثة واحدة، وعادة مانعود للمعاجم الغربية لنعرف المعني الدقيق لأي مصطلح وماهد منه علي وجه الدقة، وبعد أن نقرأ التعريفات المختلفة للمصطلح ونتقبلها كلها أو بعضها بأمانة بالغة، تصبح الإشكالية هي كيف نترجمه دون أن نختبر هذه التعريفات ومدي مطابقتها للواقع، سواء كان واقعنا أم الواقع الغربي، ودون أن ندرس المراجعات التي تمهذا المصطلح في الغرب، ودون أن ندرس تاريخ تطور الظاهرة الذي يشير إليها هذا المصطلحومصطلح التحديث لايشكل أي استثناء لهذه القاعدة، فتوجد تعريفات كثيرة لمفهوم الحداثة، لكن ثمة ما يشبه الإجماع علي أن الحداثة مرتبطة تماما بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أن الإنسان هو مركز الكون وسيده، وأنه لايحتاج إلا إلي عقله سواء في دراسة الواقع أو إدارة المجتمع أو للتمييز بين الصالح والطالح، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر،مصدر المعني والقيمة، والتكنولوجيا هي الآلية الأساسية في محاولة تسخير الطبيعة وإعادة صياغتها ليحقق الإنسان سعادته ومنفعته.
هذا التعريف قد يبدو للبعض تعريفا جامعا مانعا أو علي الأقل كافيا، ولكننا لوفحصنا الأمر بدقة أكبر لوجدنا أن الحداثة ليست مجرد استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا، بل هي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلة عن القيمة، أو كما يقولون بالإنجليزية: ڤاليو- فري Value-free، وهذا البعد هو بعد مهم لمنظومة الحداثة الغربية، ففي عالم متجرد من القيمة تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم تصبح كل الأمور نسبية، وحين يحدث ذلك فإنه يصعب الحكم علي أي شيء، ويصبح من المستحيل التمييز بين الخير والشر وبين العدل والظلم، بل وبينالجوهري والنسبي، وأخيرآ بين الإنسان والطبيعة أو الإنسان والمادة. وهنا يطرح السؤال نفسه كيف يمكن أن تحسم النزاعات والصراعات، وكيف يمكن أن نسوي الخلافات، وهي كلها من صميم الوجود الإنساني؟ في غياب قيم مطلقة، يمكن الاحتكام لها، يصبح الإنسان الفردالعرقية مرجعية ذاتها، وتصبح ماتراه في صالحها هو الأساس وماليس في صالحها هو الطالح. وقد أدي هذا إلي ظهور القوة والإرادة الفردية كآلية واحدة لحسم الصراعات وحل الخلافات.
هذه هي الحداثة التي تبناها العالم الغربي والتي جعلته ينظر إلي نفسه باعتبار أنه هو(وليس الإنسان أو الإنسانية) مركز العالم، وأن ينظر للعالم باعتباره مادة استعمالية يوظفها لصالحه باعتباره الأكثر تقدما وقوة، ولذا فإن منظومة الحداثة الغربية هي في واقع الأمر منظومة إمبريالية داروينية. هذا هو التعريف الحقيقي للحداثة كما تحققت تاريخيا، وليس كما عرفت معجميا، وهذا هو التعريف الذي يمكننا من قراءة كثير من الظواهر الحديثة.
كانت الظاهرة الغربية الحديثة تؤكد أنها حضارة إنسانية( هيومانية) جعلت من الإنسان مركز الكون، وكانت المجتمعات الغربية مجتمعات لاتزال متماسكة من الناحية الاجتماعية والأسرية، ولم تكن كثيرا من الظواهر السلبية التي نلاحظها بأنفسنا ونقرأ عنها في صحفهم ومجلاتهم، والتي أصبحت نمطا ثابتا وظاهرة محددة، كانت مجرد حوادث متفرقة لاظواهر دالة، ومن ثم كان من السهل تهميشها. واذا كان دعاة الإصلاح (من الليبراليين والماركسيين والإسلاميين) كلهم ينادون بضرورة اللحاق بالغرب(أي تبني منظومة الحداثة الغربية). ولم يكن هناك أي أصوات تعارض الحداثة أو تنتقدها، بل كان الجميع يسبح بحمدها، وقد كانوا محقين إلي حد كبير في هذا، فشكل الحداثة الذي أدركوه آنذاك كان أمرا يثلج القلوب.
ولكن تدريجيا تكشف الوجه الدارويني حين أرسلت الحداثة الغربية لنا جيوشها الاستعمارية لتهلك الأخضر واليابس، وتحول بلادنا إلي مادة استعمالية كمصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة، وسوق مفتوحة بشكل دائم للسلع الغربية، ويبدو أن المفكرين الإصلاحيين الأول لم يربطوا بين الحداثة الغربية والإمبريالية الغربية، فقد ذهبوا إلي العواصم الغربية ولم يروا سوي النور والاستنارة، في الوقت الذي كانت المدافع الغربية تدك بلادنا دكا، ولذا فهؤلاء الذين بقوا في بلادهم رأوا ألسنة النيران المندلعة، وسمعوا قعقعة القنابل، وشموا رائحة البارود.
يقول أحد كتب التاريخ إنه قيل لأحد الشيوخ الجزائريين إن القوات الفرنسية إنما جاءت لنشر الحضارة الغربية الحديثة في ربوع الجزائر، فجاء رده جافا ومقتضبا ودالا، إذ قال ولماذا أحضروا كل هذا البارود إذن؟ لقد رأي هذا الشيخ علاقة الحداثة الغربية بالإمبريالية من البداية، وهو ما أدركه الكثيرون بعد ذلك. فعصر الاكتشافات الجغرافية وعصر النهضة في الغرب(القرن السابع عشر) هو أيضا العصر الذي بدأت فيه إبادة الملايين، وكما يقول الزعيم بن بيلا: إن هذا الإله الصناعي الحديث إغتال عرقا بأكمله(العرق الأحمر), أي السكان الأصليين في الأمريكتين، وأخذ زبدة عرق اخر(العرق الأسود) عن طريق النخاسة واستعباد ملايين (مما يضع عدد ضحايا هذه العملية نحو مائة مليون إنسان) باعتبار أن عبدا واحدا يحتفظ به النخاسون الغربيون كان يقتل مقابله تسعة عبيد.ثم يشير بن بيلا إلي سكان المكسيك الذين تمت إبادتهم وإلي سكان الجزائر الذين أبيدت منهم الملايين في أثناء هباتهم المتكررة ضد الاستعمار الفرنسي، ويمكن أن نضيف إلي ذلك حرب الأفيون في الصين والمجاعات التي أصابت الهند بسبب تطبيق قوانين الملكية الغربية الحديثة، وحربين عالميتين كلفت الأولي الإنسانية 20 مليون قتيل، والثانية 50 مليون قتيل، وقنابل هيروشيما ونجازاكي، وضحايا معسكرات الجولاج في الاتحاد السوفيتي. إن بطل رائعة الطيب صالح موسم الهجرة إلي الشمال قد لخص الموقف ببساطة حين قال: إنني أسمع.. صليل سيوف الرومان في قرطاج، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس.البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك حديد أنشئت أصلا لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم.
وقد جاءت هذه الجيوش الاستعمارية ففتتت العالم العربي والإسلامي، وأخضعت شعوبه لكل أنماط الاستعمار:استعمار عسكري في مصر وسوريا ولبنان والمغرب والسودان والعراق وليبيا، واستعمار استيطاني في الجزائر، واستعمار استيطاني إحتلالي في فلسطين، وقد تعاون هذا الاستعمار مع القوي التقليدية والرجعية في المجتمع، وحاول إعاقة تحديث عالمنا الغربي فقام بتحطيم تجربة محمد علي، أول تجربة تحديثية خارج العالم الغربي، ثم قاموا بقمع ثورة عرابي الشعبية، وساندت الجيوش الغربية الحديثة الخديو ودعمته وساندته. ثم انتهي الأمر بأن أقامت هذه الجيوش الدول الحديثة التي لاتعرف من الحداثة سوي الأجهزة القمعية والأمنية. ثم زرع العالم الغربي الحديث في وسطنا بقوة السلاح مجموعة من المستوطنين الذين ادعوا أن فلسطين أرض بلا شعب وأنهم شعب يهودي يعود إلي أرض أسلافه حسب الرواية التوراتية.
ويطالب الصهاينة والأمريكيون في الوقت الحاضر بتحديث مؤسسات السلطة الفلسطينية، مع أنه من المعروف أن الصهاينة - شأنهم شأن كل المستعمرين- رفضوا من البداية التعامل مع القطاعات الحديثة في المجتمع الفلسطيني مثل نقابات العمال والأحزاب السياسية (بل قاموا باغتيال أحد زعماء نقابات العمال الفلسطينية قبل عام1948)، وفضلوا التعامل مع القطاعات التقليدية في المجتمع الفلسطيني، ظنا منهم أن هذه القطاعات قد تكون أكثر مرونة في التعامل معهم نظرا لعدم فهمها لطبيعة الهجمة الاستعمارية البريطانية/الصهيونية عليهم، ولكن خاب ظنهم، فحينما تحاور معهم بعض القيادات التقليدية (برئاسة الشيخ رشيد رضا) أبدي الفلسطينيون رغبتهم في تحديث مجتمعهم، ولم يجدوا أي غضاضة في الاستعانة برأس المال الأجنبي، والخبرة الأجنبية علي أن يتم تطبيق المبادئ الديمقراطية، أي إجراء انتخابات حرة بحيث يكون لكل مواطن صوت واحد، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحقيق السلام. فعلق حاييم وايزمان بقوله هذا هو سلام القبور، وهو كان محقا تماما في ذلك، فتطبيق المثل الديمقراطية في فلسطين كان يعني أن المستوطنين الصهاينة سيكونون أقلية، ولن يتحكموا في مصائر الفلسطينيين، ولن يقيموا دولتهم اليهودية الخالصة التي يصرون عليها، والتي يدعمها الغرب الديمقراطي الحديث بكل ما أوتي من قوة، وقد قال أحد المعلقين الإسرائيليين إن الدولة الصهيونية لم تعد دولة ديمقراطية، وإنما دولة ديموغرافية (أي ذات أغلبية يهودية). وهم الآن يطالبون بتحديث النظام السياسي العربي والنظام التربوي الإسلامي، ولكن التحديث هنا يعني في واقع الأمر تقويض المنظومات القيمية والثقافية التي تضفي علينا قدرآ من التماسك يمكننا من مقاومة محاولات الغزو العسكري والثقافي، ولذا فقد وصف أحد المعلقين هذا النوع من التحديث بالتحديث الطبيعي، أي التحديث الذي يجعلنا نقبل الظلم الواقع علينا، والاستغلال الذي ينزفنا ويثقل كاهلنا، والآثار السلبية للحداثة الداروينية لم تلحق بنا وحسب، بل ظهرت علي الكرة الأرضية، علي الجنس البشري بأسره. فهذه الحداثة قد طرحت فكرة التقدم اللانهائي باعتباره الغاية النهائية للإنسان، ولكن التقدم دائما هو حركة نحو غاية، فلم تعرف هذه الغاية في المعاجم، ولكن في التطبيق نعرف كلنا أن غاية التقدم هي تسخير العالم بأسره لصالح الإنسان الغربي، وأصبحت أهم مؤشرات التقدم هو الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك، إستهلاك الإنسان الغربي للموارد الطبيعية اللامتناهية، وانتهي الأمر بأن الشعوب الغربية التي تشكل 20% من شعوب العالم تستهلك 80% من موارد الكون الطبيعية، ويبلغ حجم مااستهلكه الشعب الأمريكي في القرن الماضي أكثر مما استهلكه الجنس البشري عبر تاريخه، ولكن المصادر الطبيعية محدودة، الأمر الذي تسبب في الأزمة البيئية التي ستودي بنا جميعا، وقد جاء في إحدي الدراسات أنه لو عم التقدم بأسره علي النمط الغربي فإن الجنس البشري سيحتاج إلي ست كرات أرضية ليستخلص منها المواد الخام، وكرتين ليلقي فيها بنفاياته، كل هذا يعني أن المشروع الحداثي الدارويني الغربي مشروع مستحيل لايستفيد منه سوي العالم الغربي، وبعض أعضاء النخب الحاكمة في العالم الثالث، وما العربدة الأمريكية الداروينية ضد العراق سوي تعبير عن إدراك المؤسسة الحاكمة الأمريكية لهذه الحقيقة، فهي تود الهيمنة علي مصادر الموارد الطبيعية في عالم تتناقص فيه هذه الموارد حتي يمكنها الاحتفاظ للإنسان الأمريكي بمعدلاته الاستهلاكية العالية، فهذا هو وعد الحداثة الداروينية له.
وقد اتضح لنا جميعا أن الثمن المادي والمعنوي لمنظومة الحداثة الداروينية مرتفع للغاية، ولنأخذ الجانب المادي أولا: تتحدث بعض الدراسات عما يسمي رأس المال الطبيعي الثابت
fixed natural capital أي العناصر الطبيعية التي لايمكن استبدالها، وثمة إحصائية تذهب إلي أنه لو تم حساب التكاليف الحقيقة لأي مشروع صناعي غربي(أي حساب المكسب النقدي المباشر مخصوما منه الخسارة الناجمة عن استهلاك رأس المال الطبيعي الثابت) لظهر أنه مشروع خاسر، وأن المشروع الصناعي الغربي قد حقق ماحقق من نجاح واستمرار لأن الجنس البشري بأسره قد دفع الثمن، وقام الإنسان الغربي وحده بأخذ الغنيمة، وقد أدي هذا إلي فداحة ثمن التقدم الذي تنادي به الحداثة الإمبريالية الداروينية:تآكل طبقة الأوزون - تلوث البحار - التصحر الناتج عن قطع الغابات - النفايات النووية - تلوث الهواء - تزايد سخونة الغلاف الجوي.
والحداثة الداروينية لها أثرها علي نسيج المجتمع، وعلي منظوماته الحاكمة.. ولنذكر بعض الظواهر الاجتماعية السلبية المختلفة:تآكل الأسرة - تراجع التواصل بين الناس - الأمراض النفسية - تزايد الإحساس بالاغتراب والوحدة والغربة - ظهور الإنسان ذي البعد الواحد - هيمنة النماذج الكمية والبيروقراطية علي الإنسان - تزايد العنف والجريمة (يعد قطاع السجون هو أسرع القطاعات توسعا في الاقتصاد الأمريكي)- الإباحية (التكاليف المادية لإنتاجها والتكاليف المعنوية لاستهلاكها) - السلع التافهة (التي لاتضيف إلي معرفة الإنسان ولاتعمق من إحساسه، والتي تستغرق وقتا إجتماعيا في إنتاجها واستهلاكها)- تضخم الدولة وهيمنتها من خلال أجهزتها الأمنية والتربوية علي الأفراد - تضخم قطاع اللذة والميديا وغزوها حياة الإنسان الخاصة ودورها الضخم في صياغة صورة الإنسان وطموحاته وأحلامه، برغم أن القائمين علي هذا القطاع لم يتم انتخابهم ولاتتم مساءلتهم- تزايد الإنفاق علي التسلح وأدوات الدمار الشامل (يقال إنه لأول مرة في التاريخ البشري ينفق الإنسان علي السلاح أكثر مما ينفق علي الطعام والملبس)- ظهور إمكانية تدمير الكرة الأرضية إما فجأة (من خلال الأسلحة النووية) أو بالتدريج (من خلال التلوث), وكل مايسببه هذا من قلق للإنسان الحديث، وعند هذه النقطة تلتقي الآثار المادية بالآثار المعنوية بحيث لايمكن التفريق بين الواحد والآخر.
وقد أدرك كثير من المفكرين الغربيين هذه الجوانب المظلمة للحداثة الداروينية، فعبارات مثل أزمة الحداثةوأزمة المعنى والأزمة الأخلاقية كلها عبارات تتواتر في علم الاجتماع الغربي، وتدل علي تنامي هذا الإدراك، وفكر الخضر تماما مثل رفض العولمة والرأسمالية المتوحشة وفكر مدرسة فرانكفورت، ونظريات التنمية الجديدة التي تتحدث عن التنمية المستديمة والدعوة إلي تطوير عولمة تراحمية هي كلها محاولات لرفض الحداثة الداروينية التي تهدد سكان الكرة الأرضية، وتهدد إنسانية الإنسان، وفي مجال نقده للحداثة الداروينية قال روجيه جارودي (قبل تحوله للإسلام): إن معركة عصرنا هي ضد أسطورة التقدم، والنمو علي المنوال الغربي، فهي أسطورة انتحارية، وهي أيضا معركة ضد الأيديولوجية التي تتسم بالفصل بين العلم والتكنولوجيا(تنظيم الوسائل والقدرة) من جهة، والحكمة(التبصر بالغايات وبمعني حياتنا) من جهة أخرى.
هذه الأيديولوجية تتسم بأنها تؤكد فردانية متطرفة تبتر الإنسان عن أبعاده الإنسانية، وفي نهاية الأمر خلقت قبرا يكفي لدفن العالم.
وهو محق في ذلك تماما فالحداثة علي النمط الغربي بدأت بادعاء أنها تري الإنسان مركزا للعالم وانتهت بكلمات ميشيل فوكوه:لايسع المرء إلا أن يقابل بضحك فلسفي كل من لايزال يريد أن يتكلم عن الإنسان وعن ملكوته وعن تحرره.. فسيضمحل الإنسان مثل نقش علي رمال الشاطيء تمحوه أمواج البحر، بدأ العالم بدون الإنسان وسينتهي بدونه، ومايتأكد في أيامنا هذه ليست غياب الإله أو موته بقدر ماتتأكد نهاية الإنسان.
إن وعد الحداثة الغربية كان هو تأكيد مركزية الإنسان في الكون، ولكن تحققها تاريخيا يسير بنا كلنا بخطي حثيثة نحو موت الإنسان بل وموت الطبيعة. والموقف الإنساني من الحداثة الداروينية المنفصلة عن القيمة هو جزء من هذه الثروة العالمية ومن المحاولة الرامية إلي مراجعة المفاهيم المعادية للإنسان التي سيطرت علي الحضارة الحديثة.
ولذا، فقد يكون من الأجدي أن يوحد الجميع قواهم وأن يتعاونوا علي توليد المشروع الحداثي العربي والإسلامي كجزء من المحاولة الإنسانية العامة التي تحاول تجاوز الحداثة الداروينية، المنفصلة عن القيمة، المبنية علي الصراع، والتنافس والتقاتل والاستهلاك المتصاعد حتي نتوصل إلي حداثة إنسانية، تنطلق من إنسانيتنا المشتركة، حداثة تدير المجتمع بطريقة مختلفة، فهي لاتري الإنسان مادة محضة، ولاتنفصل عن القيمة.. وإنما تدور في إطار منظومة قيمية تري أن تحقيق السعادة لايكون بالضرورة عن طريق زيادة الثروة ونهب الطبيعة، واستغلال الإنسان، وانما عن طريق تبني قيمة إنسانية تبني مثل العدل والتكافل والتراحم، والتوازن (مع الذات ومع الطبيعة)..وفي ذلك خيرنا.. وخير الإنسانية كلها.
والله أعلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.