هناك صيحات عالية في النظرية النقدية تقول إن مرحلة الحداثة قد انتهت وإننا نعيش في شرط جديد بعد حداثي يعبر عن أزمة في الحداثة. وبعض الناس يصنع نصبًا تذكاريا لنهاية عصر صار عندهم بعيدًا وباردًا. فإن نوعًا جديدًا من المجتمعات أخذ في الظهور: المجتمع ما بعد الصناعي أو الرأسمالية متعددة الجنسيات أو المجتمع الاستهلاكي أو مجتمع الإعلام أو مجتمع شبكات الاتصال العملاقة. وهذا المجتمع بملامحه الجديدة يضع فاصلا بينه وبين مجتمع ما قبل الحرب العالمية الثانية الذي كانت فيه الحداثة لاتزال قوة مؤثرة. وتعبر ما بعد الحداثة عن المنطق العميق لهذا النظام الاجتماعي المعاصر مثل طمس معني التاريخ. فالنظام الاجتماعي المعاصر بأكمله يكاد يفقد اهتمامه بالاحتفاظ بماضيه ويعيش في حاضر دائم وتغير دائم يهدم التقاليد التي سار عليها النظام السابق. إن إعلامه يستهلك الأخبار وعنده يصير نيكسون وكنيدي في الولاياتالمتحدةالأمريكية مثلا أشخاصًا من الماضي البعيد، فوظيفة إعلام الأخبار اليوم إقصاء التجارب التاريخية القريبة بأسرع وقت ممكن إلي الماضي وكأن وظيفته هي المساعدة علي النسيان وحفز فقدان الذاكرة للتاريخ. ولذلك فإن السمتين الرئيسيتين لما بعد الحداثة هما تحريك الواقع إلي صور متناثرة وتشظي الزمن إلي سلسلة متصلة من لحظات الحاضر. ولكن هناك وجهات نظر مختلفة تري التمايز بين الحداثة وما بعد الحداثة، ولكنها لا تغفل التشابه في بعض النواحي وتداخل الحدود بينهما. وهناك وجهة نظر هابرماس عن استمرار مشروع الحداثة الذي لم ينته وتأكيد قيمته السامية، فهو يدعو إلي الحفاظ علي وعود الليبرالية: المساواة والحقوق المدنية وحرية التعبير والإعلام وذلك رغم فشل مثلها في التطبيق خلال تطور الرأسمالية نفسها. ولكن لماذا هذا الوضع المختلف لهابرماس في ألمانياالغربية الاتحادية حينئذ؟ يري بعض النقاد أن ذلك يرجع إلي أن مشروع الليبرالية عاني في ألمانياالغربية من كبت وإرهاب فكري لليسار وإخراس ثقافته، وهما عمليتان نجحتا أكثر من أي مكان آخر في الغرب أثناء تلك الفترة. وهناك موقف آخر يعتبر الحداثة وما بعد الحداثة مرحلتين متتامتين. وذلك علي الرغم من أن المصطلحين من أكثر المصطلحات استعصاء علي التحديد. فليست هناك كما يقال حداثة شاملة مطلقة وعالمية وإنما هناك حداثات تتغاير من وقت لآحر ومن مكان لآخر. ازدهار وانهيار يقال أحيانًا إن الحداثة بدأت في سنوات نهاية القرن التاسع عشر وازدهرت في العقود المبكرة من القرن العشرين مع فنانين مثل بروست وبيكاسو وسترافنسكي وخفتت في الثلاثينات وأوائل الأربعينات حينما كانت الحضارة كلها مشتبكة في صراع الحياة والموت مع قوي النازية والفاشية والعسكرية اليابانية بلا إنسانيتها ولا عقلانيتها، ولم يكن هناك مستراح لنزعة الفن للفن أثناء كابوس القهر الاستبدادي والدمار الشامل والقتل بالملايين. ويقال إن ما بعد الحداثة لم تبدأ في التشكل إلا في الفترة من 1945 حتي 1970، وهناك أقوال أخري ترجع بها إلي الثلاثينات من القرن العشرين وحتي إلي التسعينات من القرن التاسع عشر. ويستنتج بعضهم من ذلك أن الفترة التي شهدت ظهور ما بعد الحداثة في بعض البلدان هي نفسها التي شهدت ظهور الحداثة أو الحداثة المتأخرة في بلدان أخري، ويعتبرون ثقافة القرن العشرين ثقافة مابعد حداثة دون إجماع علي ذلك. وهناك نقاد يرون أن مصطلح ما بعد الحداثة يتداخل في المفهوم مع تعريف عدد من النقاد للحداثة. ويؤكد دافيد هارفي أن عناصر الاستمرار بينهما ترجح عناصر الانحسار في تحول الحداثة إلي ما بعد حداثة وأن مابعد الحداثة تمثل أزمة في الحداثة، أزمة تؤكد مظاهر التفتت والطابع المؤقت، وتشكك في تصور الثبات والدوام. وهناك مفهوم الطليعية عندهما المستعار من فكرة إرسال فصيلة عسكرية للاستطلاع أو لتمهيد الأرض لهجوم الحداثة وما بعد الحداثة، أي معني الإعداد للهجوم علي مواضعات الفن والأدب التقليديين في مذاهب الحداثة المعروفة: الرمزية والتكعيبية والمستقبلية والدادية والسيريالية. وكان أهم عنصر في مذاهب الحداثة هو رفض الواقعية. فلم يعد الفنان أو الأديب مهتمًا في المحل الأول بمحاكاته أو تمثيله للواقع أو الطبيعة بل يبدع عالمًا خاصًا له أسس نفسية وفكرية يمكن استقراؤها، وهو ما ترفضه بعد الجداثة في ميلها إلي رؤية العالم في صورة مفككة يتداعي أساسها والتشكيك في فكرة التقدم. فالمصطلحان يتداخلان في رفض الواقعية والمحاكاة وإبداع عالم خاص، ولكنهما يختلفان في وجود أسس نفسية وفكرية عند الحداثة ورفض لذلك الوجود عند ما بعد الحداثة. فهناك حقيقة أساسية هي ثبات الواقع الخارجي الذي يصوره الفنان عند الحداثة وإنكار ما بعد الحداثة لوجود هذه الحقيقة، وتأكيد الحداثة لصورة العمل المتكامل الذي يتمتع بوحدة عضوية، ورفض ما بعد الحداثة لفكرة الشخصية والحبكة، بل ورفض المعني نفسه باعتباره وهمًا لا رجاء فيه واعتقادها بأن من العبث محاولة فهم العالم، بل من العبث الاعتقاد بوجود عالم يمكن فهمه. وذلك في تعارض صارخ مع تأكيد الحداثة للمعني والبحث عنه. لقد كانت الحداثة من البداية تري أن علي الفن والأدب أن يواكبا من حيث الموضوع والشكل تلك الحيوية المنعشة لمجتمعيهما الذي تخطي التقليدية وأزاح دون هوادة مخلفات الإقطاع والحكم المطلق محررًا إلي جانب العلم والصناعة الإمكانات الواقعية التجريبية للذات الفردية والاحتفاء بالحيوية والدينامية بالانفساح المنتشي لتلك الذات، وبعث الحياة في الإدراك بكسر المألوف وتمزيق التوقعات اللغوية الروتينية، لأن الإدراك المتجدد غاية في ذاته. فعلي الرغم من أن الحداثة تقوم علي تعدد وجهات النظر إلي الأشياء والقضايا والأخذ بمبدأ النسبية مثل ما بعد الحداثة لاحقًا إلا أنها كما أسلفنا تقوم علي وجود حقيقة أساسية ترفضها ما بعد الحداثة. نقاد للحداثة وفي مصر عبر إدوار الخراط عن فهم شديد الخصوصية للحداثة عند شعراء السبعينات، وكان من أبرز نقاد الحداثة في ذلك الوقت جابر عصفور ومحمد عبد المطلب. وقد اختلط مفهوم مصاحب للحداثة هو مفهوم الحساسية الجديدة معها عند إدوار الخراط وصبري حافظ، وقد قدم صبري حافظ دراسة عميقة للحساسية الجديدة. ويري إدوار الخراط أن المفهومين يتقاطعان ولكنهما لا يتطابقان، فالحساسية الجديدة تعني تطورًا تاريخيا للكتابة يقع في الزمن في فترة تاريخية محددة قد تعقبها في فترة أخري حساسية أكثر جدة. أما الحداثة عند إدوار الخراط فهي قيمة في العمل الفني، قيمة التساؤل المستمر بلا إجابة عند أبي نواس. كما تتوفر في كتابات الصوفية القدامي من النفري والجنيد وابن الفارض إلي ابن عربي حيث يقع التعبير في منطق الإبداع لا في منطق التوصيل، حيث لا تصبح اللغة إخبارية بل تكاد تكون مكتفية بذاتها. فالحداثة عند إدوار الخراط هي السعي المستمر نحو المستحيل. ومن الممكن تجاوز الحساسية الجديدة بحساسية أخري فهي ترجع إلي التاريخ والزمن، اما الحداثة فهي قيمة تتجاوز الزمن وتخلد عبر التاريخ. وهي السعي إلي تحقيق نظام للقيم لا يتحقق أبدًا ولا يتخذ شكلاً نظاميا؛ إنها نزعة طوباوية هائمة علي وجهها قذف بها إلي مجال الحس والخيال والحلم. وقد يرجع ذلك إلي خيبة الأمل في الثورات الليبرالية والاشتراكية والقومية التي حينما تحولت إلي أنظمة للحكم صارت استعمارًا (في فرنسا) أو ديكتاتورية شمولية (في روسيا) أو بيروقراطية خانقة (في العالم الثالث). ويبدو أن كل فاعليات التغير محكوم عليها بالعقم ولا يبقي إلا الخلاص الفردي الروحي الصوفي الحسي. وهذا الخلاص الشعري لا تقدر عليه إلا حفنة موهوبة تنفذ من هذا الباب الضيق وتغلقه وراءها. فالحداثة هنا تتمثل في صوفية النفري وحسية أبي نواس والتشاؤم الجذري عند أبي العلاء المعري. وقد اختلف بعض النقاد مع هذا التصور عند إدوار الخراط في مفهوم السعي المستمر نحو المستحيل. فقد رأوا أن هذا السعي قد يكون جهدًا عقيمًا وأن التساؤل المستمر قد يكون دورانًا عبثيا في فلك افتراضات بلا خصوبة أو قد يقع في نزعة لا أدرية تردد في آلية عجز الإنسان المطلق عن المعرفة كعقيدة جازمة. وهناك مسألة أثارها بودلير في مقاله "مصور الحياة الحديثة" 1845، فانتقالات هذه الحياة تركز علي ما هو سريع الزوال، العابر، العارض، الطارئ وجاء الحلم بعد ذلك بفن يستقطر الأبدي من هذا العابر. إنه فن تبدعه التكنولوجيا الحديثة؛ التصوير الفوتوجرافي والسينما. وإحدي الصور الباقية من السنوات الأخيرة للحداثة هي صورة الإنسان الصغير الواقع في آلة الإنتاج الكبير عند تشارلي شابلن في فيلم الأزمنة الحديثة. ولكن علي العكس من بحث عن بذرة المستمر في العارض هناك اتجاه في الحداثة يجعلها لا تحتفي بما يمتلئ به الفن والأدب السابقين من حكمة الأجيال السابقة التي تتهادي علي طرقها المعبدة بل نجد احتفاءً بالهاوية والأعماق المعتمة الوعرة؛ فهنا نجد الفنان يقترح ويستكشف الأسلوب الحداثي الفذ للخلاص، وهو خلاص تقوم به ذات الفرد من أجل نفسها لكي تتحرر من ذاتها الجاهزة أيضًا. ويصعب عادة علي المتلقين فهم ذلك الأدب والفن حتي أصبحت الصعوبة علامة عليهما، فهما ضد كل الأساليب والمواضعات المتوارثة. إن الحداثة كانت قول "لا" علي وجه قاطع شامل يرمي في وجه أساليب الإدراك والوجدان المألوفة، فتلك النزعة غضبة لا تهدأ ضد ما استقر من مواضعات. وما يفتحها علي ما بعد الحداثة أنها تصارع المدارس والأساليب الفنية القديمة دائمًا لكي لا تنتصر. فأعمال تلك النزعة تقوم علي التجريب وتعتبر العرف الفني المألوف قيدًا مضجرًا وتتمرد علي الطرق المقرة تقليديا ولا تهدف إلي الوصول إلي قالب يتفق عليه الجميع وتري في الشك والريبة تجاه الأخلاقيات القاطعة علامة صحة. فالفنان لا يقدم تصويرًا للواقع بل يقدم ذاته المبدعة وهي تري العالم أثناء عملية الرؤية فحسب. واستمرت خطوات الذات تنأي عن أشياء العالم وأحداثه متجهة نحو أن تصبح هي نفسها مادة العالم وجسمه. فتلك النزعة في حبوها تعكف علي استقصاء شديد الرهافة لمويجات الذات وديناميتها الداخلية وحرية تدفقها وانظلاقها وما يعترض سبيلها وما يتنافر داخلها (فيرجينيا وولف). ولكنها بدأت تتخفف من محتويات الذات الداخلية وتنفر من ثقل الفردية وإخفاقها ومنجزاتها السيكولوجية التي كانت تعتبرها كسبًا (بيكيت)، وهو شيء ينسب الآن إلي ما بعد الحداثة. ويقع وراء تلك الذاتية المغلقة في أقصي تطرفها إحساس بمأزق تاريخي لا مخرج منه وبافتقاد للمعايير والطمأنينية. إن القص ما بعد الحداثي علي سبيل المثال يواصل مع الحداثة نقد فن المحاكاة التقليدي ولكن تجديده يتجاوز الحداثة وقد يكون وراء الحداثة أو حولها أو تحتها كما يقول دافيد لودج. وبدلاً من الطريقة الأسطورية أو الرمزية للترتيب وإعطاء التاريخ شكلا ودلالة هناك تأكيد بأنه لا يوجد نظام ولا شكل ولا دلالة في أي مكان. وفي رواية صمويل بيكيت المسماة "مورفي" نزعة أنا وحدية تسخر من الوصف الروائي الواقعي للمظهر الجسدي، ولن نجد في الرواية ما يعين علي توقع تطور الحدث كما تقاوم القراءة رفض الاستقرار داخل نمط إيقاعي يمكن التعرف عليه فهي تحاكي علي مستوي مواضعات القراءة مقاومة العالم للتفسير. وما بعد الحداثة تشارك الحداثة في رفض الطرز المفروضة علي التجربة في الرواية التقليدية ولكنها تواصل الطريق لتصور أجزاء من عالم يقاوم المحاولات المتسلطة من جانب الوعي الإنساني لتفسيره، كما تصور مأزقًا إنسانيا عبثيا. فهي ترفض ما كان لدي الحداثة من أمل تراه كاذبًا في الوعي والمعني. هناك إذن من يرون ما بعد الحداثة انقلابًا كاسحًا علي الحداثة التي ماتت، وهناك من يرون أن النزعتين متتامتان ولايزال الحوار بين الفريقين مستمرًأ.