يفسر كثيرون حجم التعاطف الذى لا تزال تتمتع به جماعة الإخوان المسلمين فى الغرب رغم ولوجها فى العنف، إلى تشوش إعلامى يعمى علي الغرب، ويحول دون رؤية شفافة للواقع. ويترتب على ذلك اتهام الإعلام المصري بالعجز عن نقل ما يمكن تسميته ب (السردية الوطنية) المؤسسة على الثلاثين من يونيو إلى الغرب، قياسا إلى نجاح الجماعة فى نقل سرديتها (الطائفية)، القائمة على المظلومية التاريخية، والديمقراطية المغدورة. وفى الحقيقة يبدو لنا هذا التفسير تبسيطيا تماما، يتجاهل الصراع بين سرديتين أخريين متناقضتين أيضا داخل التنوير الغربى نفسه، يحكمان رؤية الغرب لذاته. السردية الأولى (المهيمنة) تستند إلى الفيلسوف كانط، الذى أراد مخلصا التعايش مع الآخرين على قاعدة الإنسانية المشتركة والحكومة العالمية القادرة على تكريس السلام الدائم بين جميع الأمم، على قاعدة الديمقراطية داخل كل المجتمعات. وفى هذا السياق روج الغرب للحداثة باعتبارها رسالته الإنسانية وبشارته إلى العالم، ودار جدل كثير حول مدى وأسباب ممانعة المناطق الثقافية المختلفة لتلك الرسالة، وقيس مستوى حميمية العلاقة بينها وبين الغرب بمدى استجابتها للحداثة كمشروع فلسفى وتجربة تاريخية. فالمجتمعات الأكثر تحديثا خارج الغرب كاليابان، نظر إليها كصديق منطقى، فيما نظر إلى المجتمعات الأكثر ممانعة للتحديث باعتبارها «شاذة» دائما، ومعادية أحيانا، وضمنها المشرق العربي الإسلامي. تلك السردية لا تعدو أن تكون دعوى مثالية، إن لم تكن كذبة تاريخية، إذ لم يكن تحديث العالم هدفا غربيا بالمعنى الجوهرى، الذى يفترض تبنى المكونات الأساسية: الفلسفية والعلمية والسياسية، التى صاغت متن تجربته الحضارية الحديثة، وإن ظل هدفا خطابيا للمركزية الغربية. فما سعى الغرب الى تصديره للمجتمعات الأخرى ليس إلا أشكال الحداثة الملونة، كى تصبح هوامش فعالة، تعمل كأسواق مفتوحة لسلعة دون انتاج، وجمهور مستهلك لإعلامه دون ثقافة. أما السردية الثانية المسكوت عنها، فتنبع من تلك الفجوة بين حاجة الغرب إلى تحديث هوامش المجتمعات الأخرى، وخوفه العميق من حداثة متونها، حيث ولدت الإشكالية التى صارت مألوفة عن ازدواجية المعايير داخل مشروعه الحضارى، فحكمت بعض المعايير مسارات تطوره الذاتى، بينما تحكمت نقائضها بمسارات تمدده الخارجى. تستند هذه السردية إلى رؤية فيلسوف ألمانى آخر، من عتاة المؤسسين للحداثة الغربية، وهو ليبنتز، الذى أراد تسخير الآخرين فى خدمة أوروبا الصاعدة منذ القرن السابع عشر، كى تتبلور كفكرة كبرى، قبل أن تسود العالم كتجربة تاريخية، فكانت دعوته إلى استعمار الأقاليم المركزية فى العالم وضمنها مصر التى حرض العرش الفرنسى طويلا على احتلالها، حتى جاءها نابليون أخيرا باسم الثورة والجمهورية. والمشكلة أن الوعى الغربى، عدا عقول كبيرة واستثنائية مثل شومسكى وجارودى وجور فيدال، طالما استحضر السردية المثالية الى جسدها كانط، على الرغم من سيره خلف السردية الواقعية التى جسدها ليبنتز، فاحتل الأرض، ووظف أصحابها، فى خدمة مشروعاته.. دعاهم إلى الحداثة فيما عطل تطورهم الطبيعى إليها، حتى لو كان قد بنى بعض المرافق الحديثة بها، خدمة لوجوده فيها.. نصب نفسه داعية للديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنه اعتبر الإنسان الغربي وحده الأجدر بممارستهما. فى هذا السياق يرى الغرب اليوم أن الإخوان المسلمين جماعة تمثل الإسلام المعتدل، يتوجب تمكينها من زمام السلطة ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى كله، قطعا للطريق على الإسلام الجهادى، والذى صار بمثابة مشكلة لنفسه وللآخرين، وهو فهم نرجسي يتأسس علي مسلمة عنصرية مفادها أن الحرية السياسية وما تقتضيه من علمانية سياسية تفصل بين الدين والدولة، تعد خصوصية غربية، تستعصى على العقل العربى، وتجافى الدين الإسلامى الممانعين للحرية بحكم تكوينهما. وإزاء ذلك الاستعصاء يصبح من الضرورى الاختيار بين درجتين من التخلف، وهما دموية الإسلام الجهادى، ومنحاها الاقتحامى للجغرافيا الغربية كما جرى فى 11 سبتمبر. وبين ديكتاتورية الإسلام الإخوانى، ومنحاها التهادنى إزاء الغرب عبر كل العصور، من حسن البنا إلى محمد بديع، ومن الملك فؤاد إلى محمد مرسي، حيث أثبتت الجماعة دوما استعدادها إلى لعب دور الجماعة الوظيفية، ضد كل المشروعات الوطنية الصميمة، من جمال عبد الناصر إلى عبد الفتاح السيسي. ومن ثم تتبدى مفارقة كبرى، فالعالم الغربى الحاضن لمثل الحداثة السياسية، يستنكر سلوك الدولة المصرية التى سارت على طريق الحداثة لأكثر من القرنين، راكمت خلالهما تراثا ديمقراطيا يذكر، إذ عرفت الدساتير المدنية منذ مائة وخمسين عاما تقريبا وإن فى صورة أولية، وعاشت حقبة ليبرالية، تعددية وتنافسية، على قاعدة دستور شاهق قبل نحو القرن، بل إن عصر جمال عبد الناصر، الموصوف بالاستبداد، لم يتنكر قط لأسس الدولة المدنية، بل يمكن الإدعاء أنه عمق الطلب المصرى على الديمقراطية من خلال نزعته التحديثية. ولم يكن السادات ولا مبارك من بعده ديمقراطيين، ولكنهما حافظا فى الأقل، على تراث دولة مدنية، تتمتع بعلمانية سياسية معتدلة، وتمارس الحياد الدينى بين مواطنيها رسميا، حتى لو وجدت بعض الشوائب هنا أو هناك، اتخذت نوعا من التمييز السلبى ضد الأقباط. وفى المقابل، يمنح الغرب أذنه وعينيه لجماعة سياسية دينية، لم تخلص يوما للدين، ولم تندرج تماما فى السياسة. كما أنها، وفاء لتاريخها، واتساقا مع تكوينها، أظهرت من ألوان الاستبداد بالحكم ما لايمت للتراث الديمقراطى بصلة، ومن الميول المذهبية ما لايقارب روح الحرية بأى قدر. ولم تبال دوله الكبرى، من الولاياتالمتحدة التى توالى صحفها الكبرى الكشف عن دعم رئيسها للجماعة، إلى ألمانيا التى كشفت زيارة الرئيس لها عن مدى تغلغل السردية الطائفية للجماعة، بالقيود التى تفرضها مقولات الحداثة السياسية، على فكرة التعاون مع جماعة دينية ضد دولة وطنية/ قومية، بتصور أن ذلك يخدم أهدافها وتصوراتها النرجسية عن المنطقة الحضارية التى تقع مصر فى القلب منها. والمؤكد أن تلك الأهداف والتصورات قصيرة النظر، القائمة على التلاعب بالجغرافيا السياسية، والتوظيف السلبى للانتماءات المذهبية، ليست إلا نتاجا للنزعة الكولونيالية فى تجربة الحداثة، وللمكون الهامشى فى فلسفة التنوير، المعاند لمتن التنوير الإنسانى الرافض للدين السياسي. والمؤكد أيضا أننا، فى مصر والمشرق الحضارى العربى، قد تحملنا طويلا أعباء تلك الثنائية المتضادة فى تجربة الحداثة، وأننا سنظل كذلك، طالما لم نستطع تجاوز مأزقنا التاريخي، من طريق فك أسرار الحداثة واللحاق بها، بالولوج عميقا فى بحور الحرية والعقلانية، وليس باسترضاء الغرب، ومحاولة تعريفه بما يعرفه. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم