بعد أسبوع من الاعتداء المجرم عليها، أعادت الجريدة الفرنسية (شارلى إبدو) نشر الرسوم المسيئة للنبى الكريم (صلى الله عليه وسلم)، بل وزادت أعدادها المطبوعة إلى 6 ملايين نسخة بدلا من 60 ألفا، أى نحو مائة ضعف، توقعا منها لإقبال متزايد على مطالعة ما كان فيها، ورصد ما جرى لها، فما الذى يعنيه ذلك؟!. يعنى استفزازا لضمائر المسلمين المعتدلين فى العالم، أولئك الذين تألموا للحادث وأدانوه بكل وضوح، كما يعنى دعما للمتشددين، وصبا للزيت على نار مشتعلة، عندما يقوم مسلم متشدد يمتلك الغيرة على دينه، ولكنه يفتقر لآليات الدفاع العقلانى، باستخدام العنف دفاعا عنها، فيكون الرد الغربى مزيدا من التجرؤ على الإسلام، والتشهير بالمسلمين، وهكذا تتصاعد ردود الأفعال وصولا إلى لحظة انفجار، تمثل ذروة التحقق الدرامى لنبوءة هانتنجتون السوداوية حول صدام الحضارات. السؤال هنا: هل يتأسس ذلك السلوك المتغطرس على موقف تنويري حقيقي يدعيه هؤلاء؟ وهل يخدم سياسة كونية لدرء خطر الإرهاب؟ تبدو الإجابة الأرجح هى النفى، لأن التنوير فى متنه الرئيسى يحترم مفهوم الحقيقة، من دون أن يدعى امتلاكها، إذ يراها متعددة. ومن ثم فإنه لا يجعل من فهم أى طرف لها معيارا لفهم الطرف الآخر، وهذا ما يتحداه أولئك المتغطرسون، بفرض معايير ثقافية أوروبية التى توغل فى تقديس حرية التعبير، وفى تدنيس حرية الاعتقاد، على الثقافة الإسلامية التى ترى عكس ذلك. والسؤال الثانى: هل يخدم ذلك السلوك سياسة كونية لدرء خطر الإرهاب؟ الإجابة كذلك بالنفى فى ظل مخاطر غير مسبوقة، نتجت عن تطورين أساسيين فى طبيعة النشاط الإرهابى: أولهما: الانتشار الجغرافى الهائل، الذى لا يكاد يستثنى بلدا حتى من الدول الأوروبية الأكثر تقدما، ليس فقط من خلال مواطنيها ذوى الأصول الإسلامية، بل وأيضا مواطنيها الأصلاء، الذين يعتنق الإسلام من بينهم نحو ستين شخصا يوميا، ثلثهم من المتشددين، انضم ثلاثة آلاف مقاتل منهم إلى داعش فى سوريا والعراق، عاد ألف مقاتل من بينهم إلى أدراجهم، مما يعنى ألف قنبلة موقوتة تنتظر الانفجار، وأن توازنا غرائبيا قد نشأ بين طرفى معادلة القوة: حيث قوة الشمال تكمن فى تقدمه، وقوة الجنوب تكمن فى جنونه، إلى درجة لم يعد ممكنا معها للشمال ترك الجنوب لمقاديره يمرح فيه العنف، لأنه سيصل إليه حتما. كان ذلك الفهم يتردد أحيانا على سبيل الرفاهية الفكرية، على ألسنة ذوى النزعة الإنسانية المفرطة، أو نشطاء البيئة، ولكنه سيتردد من الآن فى المحافل السياسية، والكهوف الأمنية، بعد أن كشف عن واقعيته المؤلمة. وثانيهما العلاقة الآثمة التى نمت بين الإرهاب والتكنولوجيا، لتجعل من التحديث المتسارع، طريقا إلى العنف والإرهاب لا إلى الحرية والديمقراطية، كما تقول نظريات التحديث التقليدية، وهو تطور صادم أخذ يعبر عن نفسه على الجانبين العربى والغربى. فعلى الجانب العربى يبدو نتاجا لانفصال جوهرى بين منتجات التحديث وقيم الحداثة. فلم يعد غريبا أن تجد سلفيا متشددا، يحمل لاب توب، موصولا بالشبكة العنكبوتية، مع تليفون محمول بالغ التقدم، بينما يرتدى الرجل جلبابا قصيرا وبنطالا طويلا مع لحية متمددة على الصدر، سرعان ما تنقلك إلى زمن بعيد مضى، أو إلى جغرافية قصية لعلها جبال تورا بورا فى أفغانستان، وذلك من دون أن يشعر الرجل بأى تناقض. فإذا استحال إرهابيا، تعين علينا تصور ما الذى يمكن أن تستخدم فيه تلك التقنية الهائلة من محاولات تجنيد الأعضاء، وتوجيههم إلى القيام بمهامهم الدامية عبر أى بقعة جغرافية. المشكلة هنا أن مجتمعاتنا بدأت سيرورة تحديثها من الهوامش التكنولوجية، من دون إنجاز أولى للمتون المعرفية والفلسفية التى أسست لها، أو صلة تذكر مع فضيلة الحرية السياسية التي أحاطت بها. والنتيجة النهائية أن مجتمعاتنا الزراعية غالبا، والرعوية أحيانا، والصناعية نادرا، صارت حاملة للكثير من فيروسات المجتمع ما بعد الصناعى، في مسار تاريخى يبدو معكوسا.أما على الجانب الغربى فيبدو نتاجا لحال اغتراب إنسانى، حيث الطبيعة اللامركزية للنشاط الفكرى ما بعد الحداثى، وما يتسم به من نسبية مفرطة وعدم يقين مزمن، يخلقان لدى الفرد أزمة روحية، وشعورا بالهامشية، باعتباره مجرد ترس فى آلة مجتمعية كبرى، وهى حال يسعى إلى تجاوزها باستلهام مكونات الروح التقليدية، وفى قلبها الدين فى مكونه الثورى/ الاحتجاجي، الذى يدفع به إلى سلوكيات عنيفة، تمنحه أحساسا بطوليا بالحياة، ومن هنا تكتسب داعش جاذبيتها لشباب مسلم من أصول أوروبية، لا يعانى فقرا ماديا ولا تهميشا اجتماعيا. تقتضى مواجهة هذين التطورين السلبيين، التحلى بأخلاق كونية عميقة (تنويرية)، تتجاوز المعايير المزدوجة، التى طالما مارسها الغرب كآلية للهروب من استحقاقات تقع على كاهله، واقتحام مناطق ومساحات لا تخصه. تاريخيا بدأت تلك المعايير فى ممارسة نفوذها عبر النزعة الكولونيالية، التى احتل الغرب فى سياقها أرجاء كثيرة فى عالمنا باسم أفكار مثالية تتحدث عن مهمته فى تحضير العالم، ونشر العمران به. وهكذا اعتنق الغرب الحرية مبدءا أسمى، أعطاه صبغة مقدسة، ولكن باعتبارها حقا لمواطنيه فقط، وليس للبشر جميعا. وراهنا لا تزال تلك المعايير تمارس نفوذها على أكثر من صعيد. فالغرب الذى انتفض ضد حادث إرهابى راح ضحيته 17 شخصا، لمجرد أنه وقع على أرضه، لم يحرك ساكنا لما جري من مذابح فى باكستان ونيجيريا وسوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرها، بينما تسارعت حركته فقط مع مقتل ثلاثة صحفيين من رعايا أمريكا وبريطانيا، فى اتجاه تحالف دولى لمحاربة داعش، وهو أمر يجافى الأخلاقية الإنسانية التى يتوجب التحلى بها عمليا وليس فقط نظريا، خلاصا من الإنتقائية، واندراجا فى متن التنوير، لا توظيفا لهوامشه، إذا ما أراد نصرا حقيقيا فى الحرب ضد الإرهاب. لمزيد من مقالات صلاح سالم