يمثل كانط مَعلمًا على تيار رئيسى فى التنوير الغربى، حاول أن يؤسس لعلاقة توازنية بين العقل والإيمان، لعلها هى التى أوقفت الفكر الغربى على قدميه بعد أن عاش نحو القرنين أسيرًا لصراع حدِّى بين الطرفين، كان من الصعب خلالهما أن يكون الإنسان المسيحى الأوروبى مؤمنًا وعقلانيا معًا، فكان عليه أن يختار بين المسيحية والعقل. كما حاول أن يصوغ رؤية للتعايش مع الآخرين تقوم على قاعدة الإنسانية المشتركة والحكومة العالمية التى تكرس للسلام الدائم بين جميع الأمم، على قاعدة الديمقراطية داخل كل المجتمعات. غير أن الوعى الغربى الذى احتفى كثيرا وطويلا بالنقد الكانطى للعقلانية المادية، معترفًا له بأنه ذرورة مشروعه التنويرى، غالبًا ما أدار ظهره لرؤيته العالمية الأخلاقية فظلت هامشية، على متن النزعة الكولونيالية فى المشروع السياسى الغربى، وما رافقها من نظريات ومعارف إثنية وأنثروبولوجية وفلسفية تبرر هيمنته بذريعة رسالة الرجل الأبيض، وهى النزعة التى كان قد أسس لها الفيلسوف الألمانى ليبنتز الذى أراد تسخير الآخرين فى خدمة أوروبا الصاعدة آنذاك، كى تتبلور هى نفسها كفكرة كبرى أولا، قبل أن تسود العالم كتجربة ثانيًا، فكان داعية إلى استعمار الأقاليم المركزية فيه وضمنها مصر التى حرّض العرش الفرنسى طويلا على احتلالها، حتى جاءها نابليون أخيرًا باسم الثورة والجمهورية. وإذا كانت أوروبا قد اندفعت إلى التوسع الأفقى فى جغرافيا الآخرين تغطية على هذا العجز، فقد قامت الولاياتالمتحدة بقفزة رأسية إلى أعلى، حيث العولمة والليبرالية الجديدة، المؤسسة على منطق عمل الثورة التكنولوجية، تغطية على هذا العجز نفسه، وهو الأمر الذى كرس التناقضات الجوهرية القائمة أصلًا، فبدلا من فجوة تنمية تتزايد بمعدل متوالية حسابية بين المركز والأطراف، فى ظل الهيمنة الأوروبية على العالم الحديث، أصبحنا أمام فجوة استقطابية تتزايد بمنطق متوالية هندسية فى عالم ما بعد الحداثة، لتصوغ نمطى حياة بالَغى التناقض، يتجاوران فى مشهد كونى واحد، أخذًا فى التناطح والتلاطم معًا. هذه الفجوة بين العالمين يملؤها الإرهاب والتطرف والحروب. ومن ثم فإن التطور العالمى الشامل، بلا مخاطر جسيمة، يحتاج إلى تعديل جوهرى فى فلسفة الغرب السياسية، تدفعه (مبدئيا وليس ذرائعيا) إلى التنازل عن قدر من وفرته لصالح شعوب الأطراف لأجل استقرار دائم ونمو متوازن. وبوضوح أكبر، نقول بأن الأوان قد آن للتخلى عن ليبنتز والانضواء خلف كانط، بإحداث تعديل حاسم فى بناء الفلسفة الغربية على نحوٍ يجعلها أكثر إنسانية، كى لا يصبح الخطاب الكونى محض أيديولوجيا جديدة لتبرير الهيمنة الغربية. وبصورة مباشرة نقول إن العالم تحت وطأة مآسيه الراهنة، يحتاج إلى تغيير البنية التحتية (المادية) للخطاب الكونى (التجارة، والإعلام والمعلوماتية) إلى بنية جديدة (روحية وأخلاقية وإنسانية) وذلك عبر الحركة فى اتجاهين كان المشروع الغربى الرأسمالى قد تبدى له، كأنه قد هزمهما جميعًا: أولها الفلسفة الاشتراكية، باعتبارها مثالا للحلم الإنسانى بالعدل، والتى تصلح تطبيقاتها الخالية من الشمولية، لبلوغ آفاق أبعد على صعيد تحقيق التجانس البشرى. وثانيهما الإيمان الروحى، الكامن فى جميع أشكال الاعتقاد، والعابر فوق مسميات الأديان، باعتباره منبعًا ضروريا للتسامى الإنسانى على الرغبات الحارقة، والنوازع المدمرة.